عبد الرسول العريبي - كرسي في مقهى.. قصة قصيرة

مدخل

" أحيانا نري العالم ولا يرانا "

في صباح اليوم التالي لجأت إلي الانزواء . اخترت فيما اخترت الهبوط إلي الذات, لاستدراك الهموم الذاتية. ويجب أن أعترف هنا أن المواجهات حقيقية تستبد بي، لكنها تعذبني بشراهة.

وحين انزويت وهبطت أدركني الاستياء.

وحدي في مكان قصي بالمقهى المفتوح علي شارع عمر المختار، راودني خاطر ما مبهم وضبابي عن الشيخ المشنوق بلا سبب، وعن موسوليني حين جر قدميه وسط شوارع روما ولأكثر من سبب، لكنني وهذه حقيقة لم أبال.

صرت وجهًا لوجه مع المارة، مع المدينة كلها، وإذ شرعت أتابع حركة الأقدام أمامي، أكتشف أن ذلك لا يجدي.

إذن – قلت لنفسي – لأرفع رأسي قليلا لكي أتيح لنفسي رؤية الوجوه الكثيرة المغسولة بالعرق وبالشمس وأحيانا كثيرة بالكولونيا.

كنت في الواقع أختلس النظرات إلي أعماقهم ، كانت ملامحهم الجافة لا تعني شيئا بالنسبة لي ، فعادتي دائما أن أراهن علي شيء خفي كامن هناك في الأعماق.

وإذ يشدني أحدهم بملامحه، وأتحسس فيها ذلك الشيء الغامض أجده يمضي ولا يبالي، أطوّح خلفه عينين متفرستين، لكن ليس ثمة من يأبه بي.

أحدهم ذات لحظة رمقني فالتقت الأحداق، لاح لي أنه أعطاني مساحة عينيه، وما أن مضي بخطواته بعيدًا حتي ألتفت، نعم التفت اتجاهي بالضبط دون أن يتوقف عن المسير، إذ ذاك تنفست الصعداء.

لابد أنني غرست في وجدانه حقيقة ما !! ألم أقل لكم قبل قليل بأنني لست تافهًا ؟ !! هل قلت ذلك حقًا ؟!!

كنت مع فنجان القهوة وجهًا لوجه أحاوره حينما أرتشفه حينًا آخر فيما عيناي تقومان بمهمتهما بشكل سافر.

هذا يبدو أنه متعب ومفلس أيضًا، وذلك بالتأكيد بلا زوجة، وبلا أولاد، لابد أنه يستمتع بذلك، وهذا ربد أنه مملوء بالدراهم، لكنه يبحث عن شيء ما. وهذا تبدو ملامحه المصرية صارخة، يريد أن يسافر هذا الصيف الممطر ستكون رحلة طويلة بلا شك.

إنه الانزواء . الهبوط عميقًا إلي الذات ، ذات الآخرين وذاتي كنت أغوص حقًا حتي لمحت عبر بؤرتي الرصد أحد السودانيين أتضح لي للوهلة الأولي أنه لم يغادر المدينة منذ عشر سنوات .

فيما أتضح لي عبر عتمة الذاكرة أنه صديقي القديم عبد السلام عثمان وأنه........ ثم أطرقت.

أطرقت عبر الأقدام، عبر الوجوه، عبر الأعماق لكن النادل الذي أفزعهذه،ل لي:
- هل ترغب في شيء آخر ؟
- نعم – قلت له – إنني أحوج ما أكون لعلبة سجائر ومطفأة أخري غير هذه، قلت له:
امتلأت حتي الحافة النفايات ، ثم ماذا ؟قال لي:

- خذ هذا العقب معك،
لكن أكدت عليه إياك أن تلقي به في الشارع إياك ضعه في المطفأة الكبيرة تلك، حيث أحزان المارة كلهم.

لم يبتسم لم يبالي لكنه ذهب في عجالة مفتعلة نعرفها نحن زبائن المقهي عن كل نادل مثله.

وإذ انصرف أحسست بأنه تجاوزني إلي الآخرين، وكان بوسعي أن أحس أيضا باحتواء الفراغ لكياني المتعب، بل للمقهى كله، وأيضا داهمني إدراك ما عارم بأن العالم بأسره ضحية بدوره للحظة الفراغ تلك.

الساعات صارت تتساقط أمامي كأوراق الشجر. فيما الوقت يعبر سحابات فوق جسدي المنهك، وإذ تضج الساعة تحت وطأة احتضارها تراودني الشيخوخة الشيب مثل الثواني الميتة.

لا يهم، لكن ماذا حدث في الخارج أعني في خارجي.

امرأة غير جميلة وغير أنيقة، ولكنها تبتسم. نعم تبتسم لرجل يصطحبها لاح لي كزوج مجهض الرجولة وحين استشعر أحداقي علي تضاريسها انتفض وصرخ في وجهي، وقال:
- ( .................. )
لقد قال ذلك بوقاحة يحسد عليها ، وقال :
- ( .................. )
لكنني لم أبال.

لم أعره وجهة نظري، وبدوره لم يمنحني المتسع من الوقت لكي أصمت أو أتكلم بل شرع عبر لغة مهشمة وضبابية لكنها سافرة للغاية في غايتها وحدد هويتي:
- هذا ( .................. )

التفتت المدينة من أقصاها إلي أقصاها وصار وجهي في الواجهة، وكانت أحداقي، وكنت أنا في كامل كياني المتعب، الصمت لفني صار أكبر مني.

حدقت عبر وجع غامض لكنه مغرق في البراءة والود، وتراجعت عبر ( أرشيف ) أيامي، اخترقت الآزمنة والثقوب، لكنني فجـة عدت أدراجي إلي المقهي.

لقد ساءني أن ليس ثمة من حاول اختراق جدار الصمت المبهم إلي قلبي حيث تقبع قصة طويلة ومملوءة ومدهشة، في حين لم يتوقف شبه الرجل عن شتمي، فيما أسرعت زوجنه التي ليست جميلة وليست أنيقة لتقول لي من خلاله:
- يا هذا.. يا أنت يا أيوب.. إنك تضيع وقتنا في المقهي.
- مقهى ( .................. )

وإذ تراكمت الخواطر حول الصبر الذي ذكرني به هذا الأيوب، وحول المرأة التي تريد أن تتركني فريسة للذهول والشتائم، إذ ذاك اتضحت لي حتمية الموقف ومنّيت نفسي بفرارها، لكنها لم تفعل، فيما اكتشفت علي الفور أنها ليست جميلة وليست أنيقة. لكنها بذيئة.

واكتشفت فيما اكتشفت أن المعركة كلها من طرف واحد. وأنني لست سوي كرسي في مقهى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* عن : المجموعة القصصية - أطفال التراب
للقاص والروائي الليبي عبد الرسول العريبي
منشورات الدار الجماهيرية - مصراته
الطبعة الأولي 1998

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى