*حملت القصة جينات التمرد والنزوع صوب اللاتأطير
*انفتحت على معطيات الحياة السودانية وأنصفت المظلومين والمهمشين
*القصة القصيرة آصرة الكتابة مع سؤال الحداثة
لم يحدث لجنس إبداعي آخر، بما في ذلك الشعر والرواية، أن تطور بهذا القدر الهائل بمثل ما فعلت القصة السودانية القصيرة أو النصوص السردية القصيرة. افترعت لنفسها اتجاهات مدهشة ودروباً جديدةً ومُتعدِّية غير مطروقة. فمنذ الرواد وحتى الجيل الحالي من كُتَّابها، نقلت القصة القصيرة، في صمت وبعيداً عن الجدل، نقلت الكتابة والإبداع صوب أشكال أكثر انفتاحاً بما لا يُقاس. فهل القصة القصيرة هي أدب السودانيين الأول والأخير، وكيف يمكن امتداحها؟
سألني صورتي، فأعطيته المرآة
يُجيب القاص جمال غلاب الذي أنفق عمراً كاملاً في كتابة النصوص القصصية: “ربما بوصفي كاتب قصة قصيرة، أطرب كثيراً عندما أقرأ أو أسمع كلاماً مُنصفاً عنها، وفي ظني أن هذا الفن السردي كان بمثابة نِيل الكتابة الأزرق في جغرافيا الأدب السوداني في الحيوية والتدفق، وهو سلسلة جبالها الساحلية في الرسوخ، وهو جبلُ مَرّتِها في التفرد والاشتمال على السحر والغموض، وهو (غابتها الصغيرة) في العمق والتنوع، ودعني لا أسترسل أكثر في هذه الاستعارة الجغرافية، فالقصة القصيرة في السودان تستحقُّ التقريظ، لأنها – وأستلف هنا عبارة الشاعر نصار الحاج – (أدركت شروط حياتها واستمراريتها وظلت تُراهن دوماً على استجابتها وقدرتها على إنجاز إضافات وتحولات جذرية وعدم الركون لنموذج أبدي في الكتابة)، نقلاً عن كتاب غابة صغيرة ص 9.
وكان الشاعر نصار الحاج قد قدم أنطولوجيا عن القصة القصيرة السودانية، في إطار مهرجان القصة الأفريقية الثاني في الجزائر، وصفها الناقد عصام أبو القاسم: “مُطالعة الكتاب تُوقفك على التطورات التقنية التي أحرزتها القصة القصيرة السودانية في العقود الأخيرة. ولئن ظل المشهد النقدي يتحدث لوقتٍ طويلٍ عن تأثُّر القصة السودانية بالتجارب المصرية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، بل حتى في بعض التجارب الحديثة، فإن هذه المختارات تكشف أن ثمة خصوصيةً لافتةً بدأت تبرز في القصة السودانية بخاصة في تجارب إبراهيم إسحق وعيسى الحلو، مروراً بمنصور الصويم واستيلا قايتانو وبركة ساكن ومحمد خلف الله وعلي عيسى وسواهم، ويقاس ذلك بالطبع بانشغالاتها المضمونية حيث انفتحت في معظمها على معطيات الحياة السودانية، في العقود الأخيرة، في المدينة والريف، وشُغلت على نحو خاص بالحروب التي شهدها السودان، خصوصاً حرب الجنوب، وإفرازاتها كالهجرة والنزوح والجوع والتشرد، ولعل ثمة مطابقة للعنوان «غابة صغيرة» مع الطقس الأفريقي الذي يطبع بعض النصوص، خصوصاً التي لآرثر غبريال ياك واستيلا قايتانو، وهما من جنوب السودان”.
ويعود غلاب، صاحب (حكايات متسكعة) للقول: “لقد استطاعت القصة القصيرة السودانية منذ نشأتها وحتى يومنا هذا أن تكون خير متابع لأسرار البلد، كما أنها المعبر عن آماله وطموحاته، تتابع السوداني والسوادنية منا منتخبة وقتاً قليلاً من حياته لترصده متعثراً وخائباً فتسخر منه أحياناً وأحياناً تحدب عليه، وتحاول ما وسعها الجهد أن تقيل عثراته”.
يقول الهادي راضي أحد الكتاب المفصليين في السرد القصصي القصير: “لا نجزم فيما هو ظني، ولكن يمكن القول فيما يخص الفنون السردية في السودان عموماً، أن فن القصة القصيرة هو الأقرب للمزاج السوداني؛ فهو الشفاهة المسرودة، والشفاهة تقتفي أثر الإيجاز والاقتصاد اللغوي لتوصيل المعنى. وذلك من سمات القصة القصيرة. والشفاهة لدينا سمة مجتمعية ضاربة في القدم. أضف إلى ذلك أن القصة القصيرة كَفَن؛ حاملة لجينات التمرد والنزوع صوب اللا تأطير. حقل خصب للتجريب وكسر النمط المدرسي في العملية الإبداعية. هو الفن الأقرب لروح الفنان الرافضة للقَنْوَنَة والصرامة المدرسية التي ربما تكبل إبداعه إلى حد ما – إلا إذا اعتبر ذلك في إطار التجريب – فالقصة القصيرة إذا ما خبر الكاتب دروبها؛ فإنه سيمارس عبرها فنوناً عدداً.. فالسرد منصتها المشتركة مع أجناس أخرى، ومع ذلك تستوعب التاريخ، الشعر، المسرح، التشكيل، السينما.. الخ”.
وجه جالا يتجلَّى
ويختتم غلاب مداخلته: “دعنا نُطالع الفقرة الأولى من قصة (محنة حميدة بنت حمودة ولد بسوس)، للشيخ الجليل إبراهيم إسحق إبراهيم، حيث يقول: (فأصبحت أقول لنفسي كمتابع لأسرار البلد أن هذه العائلة، رغم سماحة أبيهم التي لا يمكن لأحد منا أن يجد لها مثيلاً، أقول هؤلاء قطعاً نزلت بهم قبل ثلاثين سنة أو تزيد، ربما من جانب المسكينة أم حمودة وتدليلها لعيالها، نزلت بهم نقمة تتبعهم جيلاً بعد جيل، نقمة لا يردها عن المبخوت منهم إلا العزيز القدير)؛ بل إن القصة القصيرة السودانية هي الوحيدة التي أنصفت المظلومين وإلا قل لي بربك كيف يتهيأ لقتيل قُتِلَ غيلة أن ينهض من موته ويقتل قاتله ثم يرقد ليواصل موته في مكان آخر غير فضاء قصة قصيرة مُحكَمة كتبها عبد العزيز بركة ساكن بعنوان (موسيقى العظم). طبعاً هذا غيضٌ من فيض، ومُحاولة بائسة للقول بطريقة مباشرة، إن القصة السودانية القصيرة هي قصة حب مع الحياة (تحاببنا بصدق، سألني صورتي، فأعطيته المرآة)، أو كما قالت فاطمة السنوسي فهي، أي القصة القصيرة، عندنا دائماً ناضرة منتصرة وعنيدة”.
ويمتدح راضي القصة بأنها “فن لا يحفل بالأضواء والضجيج لثقة ممارسيه في أنه فنٌّ مُرواغ، مُخاتل، قادر على الاختراق والتجدد والثبات. إذن، ليس بمُستغرب أن يَفِجّ هذا الفن دروبه الواثقة في المشهد السردي السوداني منذ ثلاثينيات القرن الماضي على أيدي الرواد وحادي ركبهم (معاوية نور)، حتى (نور صلاح الدين)”.
ويضيف: “ليس بمستبعد أن يكون هو الأقرب للمزاج السوداني الحاد واللطيف في آن”.
يقول القاص والروائي عمر الصايم: “مثلت القصة القصيرة السودانية آصرة الكتابة مع سؤال الحداثة والتحديث عند احتكاك المثقفين بالمعارف الغربية منذ معاوية نور، مروراً بالزبير علي وحتى جيلنا الحالي، ربما الأقرب لها في هذا التمثيل هو الفن المسرحي، وتتميز القصة عنه بأنها إنتاج فردي لا يواجه مشكلات الإنتاج الجمعي في مجتمع مبتدئ لاجتماعه.. كانت للشعر أشكال وتراكيب قديمة حتمت عليه أن يخوض جدلاً ليصنع تجديده، ويواجه أسئلة الإنسان المعاصرة، أما القصة فقد وُلدت بغير أغلال، بلا تصورات مسبقة، جامحة نحو أسئلتها وابتداع أشكالها، واستلهام المحكيات المحلية. تلك ميزة منحت القصة القصيرة حيوية مع أجيال مختلفة، علي المك، عثمان الحوري، بشرى الفاضل، عادل القصاص، أحمد أبوحازم، الهادي راضي، صباح سنهوري، عثمان الشيخ.. مع جميع الأجيال ظلت القصة لدنة، مطواعة، حمالة أفكار ومشاريع، لم تشهد تراجعاً في كل الظروف مما يجعلها الجنس الأدبي الأقرب للذائقة السودانية، ولسبب ما أعتقد أنها كذلك في عدة دول منها العراق”.
ويرى الشاعر حاتم الكناني أنه “إذا كان الشعر هو ديوان السودانيين الأزلي، فإن القصة القصيرة السودانية هي روح حداثتهم المنقوصة والمتأزمة، كما ظهرت لنا في قص معاوية محمد نور الإشكالي، ومن ثم سيلتقط تلك الروح الحداثية عثمان علي نور وينشئ، وحيداً إلا من رهط من المثقفين والكُتَّاب مجلة القصة السودانية العملاقة كعلامة كبرى على بزوغ أدب سردي سوداني بليغ واستشرافي: تُنشر في أحد أعداد المجلة “نخلة على الجدول” للطيب صالح، فتلقى ما تلقى من تجنٍّ. ولعل تلك الحادثة دليلٌ آخر على أننا حتى الستينيات لم تدرك حساسيتنا النقدية ما بين أيدينا من ذهب القص رفيع العيار”.
ويضيف الكناني: “غابات من القاصين نمت في الغفلة عنها، وانعطافات سردية كان فرسانها الرواد الزبير علي وملكة الدار محمد، وعلي المك، مروراً بعيسى الحلو ونبيل غالي وإبراهيم إسحق، ويحفظ أرشيف مجلات الثقافة السودانية في السبعينيات قصص هاشم محجوب، ومحمد عثمان عبد النبي، وفي السبعينيات أيضاً لمع نجم الفاضل كباشي وسامي يوسف وسعد الدين إبراهيم، حتى انكشف عن غابة القص السودانية الكثيفة بستان زهاء الطاهر المتعرج والملتبس بشعرية الحياة نفسها.. أضاف زهاء سحر اللغة وسر النظر إلى الأشياء والعوالم وبروح زهائية خالصة، كتب: وين يا حبايب، مراثي الليل والشجن، وجه جالا يتجلى، و…. آدم سيد الرايحة، وأحدث قطيعة كاملة مع النموذج الموبساني”.
غابة محتشدة
ويعود الصايم الذي كتب (راما والمقهى المنكفئ) ليؤكد: “بالنسبة لمواءمة القصة للكتابة والقراءة في السودان ثمة أسباب غير وشيجتها مع الحداثة ظلت ترفدها وتغذي استمراريتها، ومن أهمها قدرتها بحسب صغرها وطاقتها التعبيرية على نقل القيم الجمالية والمعرفية لكاتبها، والذي في الغالب يقع تحت وطأة الأنظمة الدكتاتورية، والعوز للاحتياجات اليومية، فهو كاتب غير مفرغ، ومساحته الزمنية للكتابة ضيقة جداً، بينما في داخله تعتمل أطياف الإلهام وموحيات الكتابة، هنا تعرض القصة القصيرة نفسها، متفوقة على رصيفتها الرواية. يمسك بها الكاتب فتبدَّى له مفاتنَ وغواية، يتداخل الشعر والتجريب، والسرد الروائي في جسدها، ولكنها تظل مميزة بسمتها كقصة قصيرة.. يسوغ لها تنوعها، وانفتاحها مساحات للتمدد، وطرق للابتداع فتصير بدون أن يلحظ أحد – ويا للأسف عندما تغيب الملاحظة- تصير ديوان السودانيين، ومعلقاتهم غير المعلقة، وطبقات عوامهم غير المسجلين في دفتر التاريخ.. ولو عدنا إلى الجوار الإبداعي لوجدنا قصتنا القصيرة هي الأكثر إبداعاً، وقدرة على التعبير، ومرونة في البناء؛ ومع ذلك لا تظهر في محافل الجوائز، ذلك أننا لم نمتدحها بحقها، لم نُقِمْ لها من الجوائز ما يليق بها، لم نكرم روادها ومبدعيها؛ رغم ما قدمته في منظومة الأجناس الإبداعية -إن جازت التسمية- القصة جديرة بالامتداح ولكنَّ المادحين يتلهُّون عنها بما يبعدهم عن جمالياتها ومعارفها”.
ويقرأ الكناني انعطافةً أخرى في بداية التسعينيات لعادل القصاص عبر العدد المزدوج لمجلة حروف: “نقرأ إلى أي مدى نبشت “ذات صفاء ذات نهار سادس أخضر” لا وعي المدينة والمجتمع”. ويضيف: “ثم ينفجر المشهد بنادي القصة السوداني وفي المقدمة: أحمد أبو حازم، الهادي علي راضي، الراحل بدر الدين عبد العزيز، منصور الصويم.. وجمال غلاب، وجمال جمالٌ قصصي ممتلئ بهواجس الإنسان المرتبك في أقاصي المدينة، إنسان الأزمة والهاجس والوجود والطعنات.. الإنسان المفرد رغم تجاذبات الواقع والحياة التي بلا أحلام، إنسان الخوف الكامل. ولن يمر العقد الثاني من الألفية دون انعطافة “كتابة على وجه ماريا السماوي” لمحفوظ بشرى، وفيها تنثال الحوارات الداخلية ويقرأ إنسان الريح نفسه الغريبة”.
ويختتم حاتم: “هذا ليس تلخيصاً للغابة ولكنها انعطافات في طريق الكتابة لم تجد حظها ربما في الاحتفاء بالقص السوداني كما ينبغي؛ ولربما اختطفت كل ذلك هوجة الرواية السودانية البناء الذي لم يؤسس له كما يجب في تربة الأدب السوداني في اعتقادي”.
الخميس ٧مايو ٢٠٢٠
*انفتحت على معطيات الحياة السودانية وأنصفت المظلومين والمهمشين
*القصة القصيرة آصرة الكتابة مع سؤال الحداثة
لم يحدث لجنس إبداعي آخر، بما في ذلك الشعر والرواية، أن تطور بهذا القدر الهائل بمثل ما فعلت القصة السودانية القصيرة أو النصوص السردية القصيرة. افترعت لنفسها اتجاهات مدهشة ودروباً جديدةً ومُتعدِّية غير مطروقة. فمنذ الرواد وحتى الجيل الحالي من كُتَّابها، نقلت القصة القصيرة، في صمت وبعيداً عن الجدل، نقلت الكتابة والإبداع صوب أشكال أكثر انفتاحاً بما لا يُقاس. فهل القصة القصيرة هي أدب السودانيين الأول والأخير، وكيف يمكن امتداحها؟
سألني صورتي، فأعطيته المرآة
يُجيب القاص جمال غلاب الذي أنفق عمراً كاملاً في كتابة النصوص القصصية: “ربما بوصفي كاتب قصة قصيرة، أطرب كثيراً عندما أقرأ أو أسمع كلاماً مُنصفاً عنها، وفي ظني أن هذا الفن السردي كان بمثابة نِيل الكتابة الأزرق في جغرافيا الأدب السوداني في الحيوية والتدفق، وهو سلسلة جبالها الساحلية في الرسوخ، وهو جبلُ مَرّتِها في التفرد والاشتمال على السحر والغموض، وهو (غابتها الصغيرة) في العمق والتنوع، ودعني لا أسترسل أكثر في هذه الاستعارة الجغرافية، فالقصة القصيرة في السودان تستحقُّ التقريظ، لأنها – وأستلف هنا عبارة الشاعر نصار الحاج – (أدركت شروط حياتها واستمراريتها وظلت تُراهن دوماً على استجابتها وقدرتها على إنجاز إضافات وتحولات جذرية وعدم الركون لنموذج أبدي في الكتابة)، نقلاً عن كتاب غابة صغيرة ص 9.
وكان الشاعر نصار الحاج قد قدم أنطولوجيا عن القصة القصيرة السودانية، في إطار مهرجان القصة الأفريقية الثاني في الجزائر، وصفها الناقد عصام أبو القاسم: “مُطالعة الكتاب تُوقفك على التطورات التقنية التي أحرزتها القصة القصيرة السودانية في العقود الأخيرة. ولئن ظل المشهد النقدي يتحدث لوقتٍ طويلٍ عن تأثُّر القصة السودانية بالتجارب المصرية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، بل حتى في بعض التجارب الحديثة، فإن هذه المختارات تكشف أن ثمة خصوصيةً لافتةً بدأت تبرز في القصة السودانية بخاصة في تجارب إبراهيم إسحق وعيسى الحلو، مروراً بمنصور الصويم واستيلا قايتانو وبركة ساكن ومحمد خلف الله وعلي عيسى وسواهم، ويقاس ذلك بالطبع بانشغالاتها المضمونية حيث انفتحت في معظمها على معطيات الحياة السودانية، في العقود الأخيرة، في المدينة والريف، وشُغلت على نحو خاص بالحروب التي شهدها السودان، خصوصاً حرب الجنوب، وإفرازاتها كالهجرة والنزوح والجوع والتشرد، ولعل ثمة مطابقة للعنوان «غابة صغيرة» مع الطقس الأفريقي الذي يطبع بعض النصوص، خصوصاً التي لآرثر غبريال ياك واستيلا قايتانو، وهما من جنوب السودان”.
ويعود غلاب، صاحب (حكايات متسكعة) للقول: “لقد استطاعت القصة القصيرة السودانية منذ نشأتها وحتى يومنا هذا أن تكون خير متابع لأسرار البلد، كما أنها المعبر عن آماله وطموحاته، تتابع السوداني والسوادنية منا منتخبة وقتاً قليلاً من حياته لترصده متعثراً وخائباً فتسخر منه أحياناً وأحياناً تحدب عليه، وتحاول ما وسعها الجهد أن تقيل عثراته”.
يقول الهادي راضي أحد الكتاب المفصليين في السرد القصصي القصير: “لا نجزم فيما هو ظني، ولكن يمكن القول فيما يخص الفنون السردية في السودان عموماً، أن فن القصة القصيرة هو الأقرب للمزاج السوداني؛ فهو الشفاهة المسرودة، والشفاهة تقتفي أثر الإيجاز والاقتصاد اللغوي لتوصيل المعنى. وذلك من سمات القصة القصيرة. والشفاهة لدينا سمة مجتمعية ضاربة في القدم. أضف إلى ذلك أن القصة القصيرة كَفَن؛ حاملة لجينات التمرد والنزوع صوب اللا تأطير. حقل خصب للتجريب وكسر النمط المدرسي في العملية الإبداعية. هو الفن الأقرب لروح الفنان الرافضة للقَنْوَنَة والصرامة المدرسية التي ربما تكبل إبداعه إلى حد ما – إلا إذا اعتبر ذلك في إطار التجريب – فالقصة القصيرة إذا ما خبر الكاتب دروبها؛ فإنه سيمارس عبرها فنوناً عدداً.. فالسرد منصتها المشتركة مع أجناس أخرى، ومع ذلك تستوعب التاريخ، الشعر، المسرح، التشكيل، السينما.. الخ”.
وجه جالا يتجلَّى
ويختتم غلاب مداخلته: “دعنا نُطالع الفقرة الأولى من قصة (محنة حميدة بنت حمودة ولد بسوس)، للشيخ الجليل إبراهيم إسحق إبراهيم، حيث يقول: (فأصبحت أقول لنفسي كمتابع لأسرار البلد أن هذه العائلة، رغم سماحة أبيهم التي لا يمكن لأحد منا أن يجد لها مثيلاً، أقول هؤلاء قطعاً نزلت بهم قبل ثلاثين سنة أو تزيد، ربما من جانب المسكينة أم حمودة وتدليلها لعيالها، نزلت بهم نقمة تتبعهم جيلاً بعد جيل، نقمة لا يردها عن المبخوت منهم إلا العزيز القدير)؛ بل إن القصة القصيرة السودانية هي الوحيدة التي أنصفت المظلومين وإلا قل لي بربك كيف يتهيأ لقتيل قُتِلَ غيلة أن ينهض من موته ويقتل قاتله ثم يرقد ليواصل موته في مكان آخر غير فضاء قصة قصيرة مُحكَمة كتبها عبد العزيز بركة ساكن بعنوان (موسيقى العظم). طبعاً هذا غيضٌ من فيض، ومُحاولة بائسة للقول بطريقة مباشرة، إن القصة السودانية القصيرة هي قصة حب مع الحياة (تحاببنا بصدق، سألني صورتي، فأعطيته المرآة)، أو كما قالت فاطمة السنوسي فهي، أي القصة القصيرة، عندنا دائماً ناضرة منتصرة وعنيدة”.
ويمتدح راضي القصة بأنها “فن لا يحفل بالأضواء والضجيج لثقة ممارسيه في أنه فنٌّ مُرواغ، مُخاتل، قادر على الاختراق والتجدد والثبات. إذن، ليس بمُستغرب أن يَفِجّ هذا الفن دروبه الواثقة في المشهد السردي السوداني منذ ثلاثينيات القرن الماضي على أيدي الرواد وحادي ركبهم (معاوية نور)، حتى (نور صلاح الدين)”.
ويضيف: “ليس بمستبعد أن يكون هو الأقرب للمزاج السوداني الحاد واللطيف في آن”.
يقول القاص والروائي عمر الصايم: “مثلت القصة القصيرة السودانية آصرة الكتابة مع سؤال الحداثة والتحديث عند احتكاك المثقفين بالمعارف الغربية منذ معاوية نور، مروراً بالزبير علي وحتى جيلنا الحالي، ربما الأقرب لها في هذا التمثيل هو الفن المسرحي، وتتميز القصة عنه بأنها إنتاج فردي لا يواجه مشكلات الإنتاج الجمعي في مجتمع مبتدئ لاجتماعه.. كانت للشعر أشكال وتراكيب قديمة حتمت عليه أن يخوض جدلاً ليصنع تجديده، ويواجه أسئلة الإنسان المعاصرة، أما القصة فقد وُلدت بغير أغلال، بلا تصورات مسبقة، جامحة نحو أسئلتها وابتداع أشكالها، واستلهام المحكيات المحلية. تلك ميزة منحت القصة القصيرة حيوية مع أجيال مختلفة، علي المك، عثمان الحوري، بشرى الفاضل، عادل القصاص، أحمد أبوحازم، الهادي راضي، صباح سنهوري، عثمان الشيخ.. مع جميع الأجيال ظلت القصة لدنة، مطواعة، حمالة أفكار ومشاريع، لم تشهد تراجعاً في كل الظروف مما يجعلها الجنس الأدبي الأقرب للذائقة السودانية، ولسبب ما أعتقد أنها كذلك في عدة دول منها العراق”.
ويرى الشاعر حاتم الكناني أنه “إذا كان الشعر هو ديوان السودانيين الأزلي، فإن القصة القصيرة السودانية هي روح حداثتهم المنقوصة والمتأزمة، كما ظهرت لنا في قص معاوية محمد نور الإشكالي، ومن ثم سيلتقط تلك الروح الحداثية عثمان علي نور وينشئ، وحيداً إلا من رهط من المثقفين والكُتَّاب مجلة القصة السودانية العملاقة كعلامة كبرى على بزوغ أدب سردي سوداني بليغ واستشرافي: تُنشر في أحد أعداد المجلة “نخلة على الجدول” للطيب صالح، فتلقى ما تلقى من تجنٍّ. ولعل تلك الحادثة دليلٌ آخر على أننا حتى الستينيات لم تدرك حساسيتنا النقدية ما بين أيدينا من ذهب القص رفيع العيار”.
ويضيف الكناني: “غابات من القاصين نمت في الغفلة عنها، وانعطافات سردية كان فرسانها الرواد الزبير علي وملكة الدار محمد، وعلي المك، مروراً بعيسى الحلو ونبيل غالي وإبراهيم إسحق، ويحفظ أرشيف مجلات الثقافة السودانية في السبعينيات قصص هاشم محجوب، ومحمد عثمان عبد النبي، وفي السبعينيات أيضاً لمع نجم الفاضل كباشي وسامي يوسف وسعد الدين إبراهيم، حتى انكشف عن غابة القص السودانية الكثيفة بستان زهاء الطاهر المتعرج والملتبس بشعرية الحياة نفسها.. أضاف زهاء سحر اللغة وسر النظر إلى الأشياء والعوالم وبروح زهائية خالصة، كتب: وين يا حبايب، مراثي الليل والشجن، وجه جالا يتجلى، و…. آدم سيد الرايحة، وأحدث قطيعة كاملة مع النموذج الموبساني”.
غابة محتشدة
ويعود الصايم الذي كتب (راما والمقهى المنكفئ) ليؤكد: “بالنسبة لمواءمة القصة للكتابة والقراءة في السودان ثمة أسباب غير وشيجتها مع الحداثة ظلت ترفدها وتغذي استمراريتها، ومن أهمها قدرتها بحسب صغرها وطاقتها التعبيرية على نقل القيم الجمالية والمعرفية لكاتبها، والذي في الغالب يقع تحت وطأة الأنظمة الدكتاتورية، والعوز للاحتياجات اليومية، فهو كاتب غير مفرغ، ومساحته الزمنية للكتابة ضيقة جداً، بينما في داخله تعتمل أطياف الإلهام وموحيات الكتابة، هنا تعرض القصة القصيرة نفسها، متفوقة على رصيفتها الرواية. يمسك بها الكاتب فتبدَّى له مفاتنَ وغواية، يتداخل الشعر والتجريب، والسرد الروائي في جسدها، ولكنها تظل مميزة بسمتها كقصة قصيرة.. يسوغ لها تنوعها، وانفتاحها مساحات للتمدد، وطرق للابتداع فتصير بدون أن يلحظ أحد – ويا للأسف عندما تغيب الملاحظة- تصير ديوان السودانيين، ومعلقاتهم غير المعلقة، وطبقات عوامهم غير المسجلين في دفتر التاريخ.. ولو عدنا إلى الجوار الإبداعي لوجدنا قصتنا القصيرة هي الأكثر إبداعاً، وقدرة على التعبير، ومرونة في البناء؛ ومع ذلك لا تظهر في محافل الجوائز، ذلك أننا لم نمتدحها بحقها، لم نُقِمْ لها من الجوائز ما يليق بها، لم نكرم روادها ومبدعيها؛ رغم ما قدمته في منظومة الأجناس الإبداعية -إن جازت التسمية- القصة جديرة بالامتداح ولكنَّ المادحين يتلهُّون عنها بما يبعدهم عن جمالياتها ومعارفها”.
ويقرأ الكناني انعطافةً أخرى في بداية التسعينيات لعادل القصاص عبر العدد المزدوج لمجلة حروف: “نقرأ إلى أي مدى نبشت “ذات صفاء ذات نهار سادس أخضر” لا وعي المدينة والمجتمع”. ويضيف: “ثم ينفجر المشهد بنادي القصة السوداني وفي المقدمة: أحمد أبو حازم، الهادي علي راضي، الراحل بدر الدين عبد العزيز، منصور الصويم.. وجمال غلاب، وجمال جمالٌ قصصي ممتلئ بهواجس الإنسان المرتبك في أقاصي المدينة، إنسان الأزمة والهاجس والوجود والطعنات.. الإنسان المفرد رغم تجاذبات الواقع والحياة التي بلا أحلام، إنسان الخوف الكامل. ولن يمر العقد الثاني من الألفية دون انعطافة “كتابة على وجه ماريا السماوي” لمحفوظ بشرى، وفيها تنثال الحوارات الداخلية ويقرأ إنسان الريح نفسه الغريبة”.
ويختتم حاتم: “هذا ليس تلخيصاً للغابة ولكنها انعطافات في طريق الكتابة لم تجد حظها ربما في الاحتفاء بالقص السوداني كما ينبغي؛ ولربما اختطفت كل ذلك هوجة الرواية السودانية البناء الذي لم يؤسس له كما يجب في تربة الأدب السوداني في اعتقادي”.
الخميس ٧مايو ٢٠٢٠