ميسلون هادي - الأكواريوم.. قصة قصيرة

الحوض الزجاجي الذي كانت تسبح فيه الأسماك الصغيرة، يبدو وقت الغروب أجمل من باقي أوقات اليوم، حيث تذوب الشمس الغاربة نحو الزوال، وتغمر الغرفة بضوء الغسق الذي يمض الروح ويجعل الإنسان يشعر بالأسى والحزن، فيجلس ساكناً أمام حوض الأسماك الصغيرة ويراقب حركتها المستمرة بين الصخور الناتئة، ويزجي الوقت الذي يمر ثقيلاً بين الضوء والظلمة، ناظراً اليها بتمهل.
تلك الصخور الصغيرة قد وُضعت داخل الحوض بشكل متقارب يسمح للسمكات بالتسلل بينها والعبور من مكان مضيء إلى آخر حالك الظلمة، ثم العودة مرةً أخرى إلى الظهور خلف زجاجة الحوض الذي يجلس أمامه الإنسان. حالتها المستمرة من الدوران والتجوال بين تلك الأماكن المضيئة والحالكة، جعلت الإنسان يفكر كيف لا تشعر هذه المخلوقات بالتعب والدوار من هذه الطريق الملتوي الذي تسير فيه، تارةً بالدلوك إلى ممر ضيق بين الصخور وتارة أخرى بالظهور شاخصة من قريب، وهي تفتح أفواهها العريضة لالتهام الهوام والنفايات العالقة في الماء… هذه الغاية يسعى ويغمغم من أجلها كل ما يسبح في الحوض مهما بدا الأمر غير ذلك، وحتى من كان خجولاً بين الأسماك، كتلك السمكة الوردية الفاتحة اللون التي تتّقي الشر بالانطواء، فإن الخجل لا يمنعها من أن تهبط الآن إلى قاع الحوض لقضم حفنة هنية من التراب الأبيض المفروش، عادة ما تكون اليرقات الحية لائذةً فيه بحثاً عن الأمان، فتنقض عليه مثيرة حولها عاصفة صغيرة من الفقاعات والهباء يتناثر رذاذها داخل الماء قريباً من تلك السمكة البنفسجية اللماعة ذات الزعانف البرتقالية. تفزع تلك السمكة البنفسجية، ثم ترتد كالرمح إلى اتجاه آخر لتستمر في دورانها المحموم حول الحوض، فترتطم بالزوايا وتنتفض أو تخبط الماء بذيلها في حركات مفاجئة لتعاود من جديد نزولها إلى الأسفل وتجوالها بين الممرات.
أحيانا تدخل إحدى السمكات إلى جحر من تلك الجحور الذي تموضع بالمصادفة داخل صخرة من الصخور، فيقول الإنسان لنفسه: ها قد دخلتْ أخيراً سمكة عاقلة لترتاح وتهدأ من هذا العناء، ولكن يبدو أنها لا تأمن الراحة أو النوم حتى في هذا الحوض الصافي الأنيق. وما هي إلا طرفة عين حتى تخرج من جحرها كالمشدوهة، لتواصل العوم من جديد منسابةً بين الصخور والطحالب والشُّعب المرجانية التي تنبثق من الصخور على شكل أذرع وأغصان حية تشبة نسخاً مصغرة من الأشجار الموجودة على الأرض . ثمة قطعتان من تلك الصخور تحركتا من مكانهما قليلاً، فاعتقد الانسان ان ذلك قد حدث بفعل حركة الماء الخفيفة، غير أن الحجارتين الصغيرتين اقتربتا من بعضهما البعض وهما تترنحان, وخلال سيرهما الذي كان يتم بشق الانفس، اكتشف الانسان أن لتلك الحجارتين أرجل دقيقة ملونة تشبه الخيوط، وأنها لم تكن إلا واحدة من تلك الكائنات الحية التي تتماهى مع المكان وتتشابه معه لتنجو من الهلاك . كانا قبل قليل نتوءين صخريين في غاية الجماد ، والان يتحركان فيتبين انهما ذكر وانثى.. وأن أحدهما يبحث عن الاخر، لحين تكتشفه اللوامس فيلتحمان ببعضها البعض من أجل التزاوج .
كان الانسان يريد شفاء النفس ونفي الأسى وقت الغروب، فإذا به ينتهي إلى التساؤل كيف يمكن للشوق ان يستدرج هذه المخلوقات الغافلة لتغشي بعضها البعض فتركب الأهوال من أجل ذلك. بل كيف يمكن لهذا الشوق أن يجعلها ترقص وتغني وترتدي العلامات والحلل الجميلة من أجل لحظة الحب؟. إنها عجيبة تلك الألوان الخلابة التي تتلون بها سمكات الحوض، والتي تتنوع بين البرتقالي الغامق والأحمر الزاهر والأرجواني الكامد والأصفر الفاقع والبنفسجي الداكن والأسود اللماع. إنها أجمل من ألوان الفراشات.. وهذه السمكة الوردية المرقشة بنقاط سوداء ماأجملها وهي تنظر إليه قبل أن ترتدّ إلى الخلف وتختفي بين حقول المرجان الطافية في الماء. أما تلك السمكة الصفراء الذاهبة نحو أعالي الحوض فقد كانت مكحلة بخطوط سوداء تتقارب أكثر عند حافة الذيل ونهاية الجسم لتخدع البصر، وتحرف المفترس الى الاتجاه الخاطئ!. رجح الإنسان أنْ تكون هذه السمكة الصفراء المكحّلة بالأسود أنثى، فهذه التقلبات الخادعة للبصر لا تصدر إلا من أنثى. أما تلك السمكة الوردية التي نظرت إليه قبل قليل فإنها تمتلك الحيلة الماكرة نفسها بوجود بقعة تشبه العين المفتوحة قرب ذيلها، تجعل المعتدي يتجه إلى ذيلها بينما تتجه هي إلى مكان آخر.
يا إلهي! كيف تحول الزلال في الخلايا إلى هذه الألوان والصبغات الخلابة، وكيف يمكن لهذه النجوم السرمدية أن تظهر بهذا الشكل الهين على هذه الحراشف والقشور التي لا عقل لها ولا حيلة ولا تدري أنها تحمل فوق ظهورها كل هذه المتاحف من الفن المتماسك المكتمل والمتكون دون عناء أو فرشاة أو نظرة واحدة الى المرآة . كان الإنسان يفكر بأن على الجدران، التي تضم لوحات الرسامين الذين وصلوا إلى درجة عالية من الشهرة، أن تنحني وترفع قبعاتها لهذه السمكة الجاهلة التي علمتهم لغة التجمّل وتناسق الالوان . فهي تتأنق وتصبح ارستقراطية زاهية اللون عندما تسبح في مياه صافية وفي حوض نظيف ، وتصبح باهتة داكنة اللون عندما تعيش في الأعماق السحيقة والكهوف المائية المظلمة.. ولأنه ليس هناك ظلام بلا نجوم، فحتى هذه الأغوار السحيقة لا تعدم وجود بلورات مضيئة ينتجها الزلال المهضوم في الخلايا، فتجعل لون بطون الاسماك فضياً , أو تعكس ضوْءاً ترسله بعض الكائنات الحية من أجسامها، فيصبح وجود السمك الملون في تلك الأعماق ممكناً.
ثمة سمكة سوداء مخططة بالبرتقالي كانت تريد الصعود إلى الأعلى، غير أنها لا تستطيع، لأنها انتفضت بما فيه الكفاية من أجل الصعود، والآن تعود لتستريح ولا أحد يهب لنجدتها أو الاقتراب منها…. فهل هي ترقص أم تموت؟ إنها تشبه واحدة أكبر منها ارتعشت ثم ماتت قبل شهر، فظهرت هذه السمكة بدلاً عنها لتحيا ثم تتناسل ثم تموت.
ولكن الأسماك لا تموت فجأةً أو في طرفة عين.. إنها، كما لاحظ من تحديقه المستمر فيها، تترنح يميناً وشمالاً أثناء السباحة، وتقفل زعانفها ثم تطفو على السطح وتلهث بفمها وخياشيمها بحثاً عن الحياة العزيزة، وأحيانا تسبح بشكل هستيري يشبه البرق، أو تحك جسمها بالأحجار وجوانب الحوض، ثم تهمد كلياً وتنتهي من الوجود. وهذه الأعراض، وإن بدت له متشابهة أحياناً مع حركات التزاوج التي يؤدّيها السمك عندما يراهق في العمر فيرقص من الوله، إلا أن هذه السمكة السوداء لا تبدو أنها تستعد للتناسل، بل هي في أسوء حال ولون، وعندما نقر الإنسان على سطح الحوض للتأكد من سلامتها، ظلت ساكنة ولم تهرب.
قبل قليل كانت كائناً في منتهى الكمال، وبعد قليل ستفقد بريقها ثم يقشرها الذبول….
هكذا كان الإنسان غارقاً بأفكاره، وهو يراقب السمكة الغارقة التي سكنت تماماً في قاع الحوض، وفي الوقت نفسه ثمة عينان بعيدتان تراقبان، للغاية نفسها ، الإنسان الساكن بلا حراك منذ وقت طويل أمام حوض الأسماك…………….. الوقت ينساب ببطء متلمّساً طريقه من الضوء إلى الظلمة… الإنسان ساكن لا يتحرك….لا يتحرك.
نظرت العينان البعيدتان إليه وقالت: ما بال هذا الإنسان لا يتحرك؟ ألا يشعر بالوحشة من الظلام الذي بدأ يلف الغرفة؟ ثم راحت أصابعها تنقر على غشاء الناووس الكوني الشفاف الذي لا يراه أحد، فسقطت ورقة على أرض الغرفة، جعلت الإنسان ينتبه، ثم ينهض ليغلق النافذة، لأنه كان قد شعر بالبرد من الريح الباردة القادمة من النافذة.

* منقول عن:
ميسلون هادي : الأكواريوم (ملف/59)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى