ميسلون هادي - الفراشة.. قصة قصيرة

استوقفتها الممرضة المناوبة عند البوابة الزجاجية المؤدية إلى وحدة إنعاش القلب .. وأخبرتها للمرة الثالثة بعدم إمكان دخولها إلى المريض رغم مرور ساعات على نجاح العملية .. نظرت إليها الأم وكانت متلفعة بسواد معبق برائحة ماء الورد ، النظرة المنكسرة المناشدة نفسها.. وتمتمت والدمع يخضل عينيها :
– أراه فقط .. من بعيد ..
فعادت الممرضة وأخبرتها بكل أدب بأن ذلك غير ممكن في الوقت الحاضر لتلافي تعريض المريض إلى إثارة قوية في اليوم الأول من عملية كبرى كتلك التي أجريت له .. وطلبت منها الانتظار يومين او ثلاثة ريثما يسمح الطبيب المسؤول بذلك .. أرادت الممرضة أن ترد الباب برفق، غير أن الأم ظلت متشبثة بإطارها المطاطي تكرر السؤال :
– هل صحا من التخدير ؟
نظرت إليها الممرضة برفق وعطف بالغين. قالت :
– نعم . وعدد غير قليل من الأطباء والممرضات يتابعون حالته ثانية بثانية ..
لمحت الممرضة، من خلف زجاج الباب، الصحفي الشاب، الذي كان حاضراً في صالة العمليات أثناء زرع القلب ، جالساً في صالة الانتظار يدخن سيكارة ويكتب .. وقد رفع رأسه وهو يستمع إلى إلحاح الأم للدخول ، ثم عاد وخفضه ، إذ اعتاد رؤية ذلك المشهد وهو يتكرر أمامه لأكثر من مرة خلال ساعات الصباح .
كانت العملية قد استغرقت الليل بأكمله، وتم فيها نقل قلب شاب قُتل بحادث سيارة إلى صدر مريض مصاب بتلف في خلايا عضلات القلب .. وأُعلن منذ الفجر الباكر بأن العملية قد نجحت ، وهرول الصحفي متوجهاً إلى مقر صحيفته، ثم سرعان ما عاد ورابط في صالة الانتظار بعين على الباب، وعين على الورقة التي بين يديه . تذكرت الممرضة كيف كانت عينا الصحفي الذي سُمح له بحضور العملية، تطلان من فوق اللثام الأزرق وتتحركان مع تحرك المباضع داخل اللحم المشرط .. كانتا تنتقلان بين صدر المريض المفتوح ويدي الجراح، بفضول من لا يريد أن يفوته شيء إزاء مشهد لن يتكرر أمامه مرة أخرى .
عادت الأم واتخذت مقعدها المعتاد غير بعيد من بوابة الصالة ورفعت الممرضة الواقفة خلف منضدة الاستعلامات رأسها وهمست ببضع كلمات إلى المعين الواقف بقربها فتوجه بدوره إلى الأم وسألها :
– هل احضر لكِ طعاماً ؟
فقالت تمسح دموعها :
– لا .. لا أريد شيئاً ..
فالتفت إليها الصحفي وقال :
– كلي شيئاً يا خالة .. فأنتِ هنا منذ الفجر دون أن تذوقي شيئاً من الطعام .
قالت الأم:
– لقد شربت شاياً .. وهو يكفيني .
ثم سحبت مقدمة عباءتها التي كانت قد سقطت على كتفها وسوتها فوق رأسها .. تركها المعين، والتحق بممرضة كانت تدفع أمامها عربة مليئة بقناني الأدوية وحاويات القطن والمباضع .. ومر الاثنان بالقرب من الأم في طريقهما نحو بوابة الصالة، فتناهت إلى انفها رائحة المعقمات والأدوية وهي تشيع العربة . فتح المعين بوابة الممر الطويل المؤدي إلى وحدة إنعاش القلب ومرت منه الممرضة، ومالبثت أن توارت خلفه وتلاشى الصوت المكتوم لجلجلة العربة المدفوعة. التفتت الأم إلى صالة الانتظار مرة أخرى فرأت الصحفي وهو يدفع مؤخرته إلى باطن الكرسي ويعود إلى الكتابة . كانت الصالة خالية إلا منها ومنه … والممرضة التي تقف خلف منضدة الاستعلامات .
تطلعت إلى صف الكراسي الفارغة، ثم إلى النوافذ الكبيرة المطلة على حديقة المستشفى ولمحت خلال الزجاج طبيبتين تجتازان ممر الحديقة المؤدي إلى صالة الانتظار . كان رشاش الماء الدوار ينشر الرذاذ في جميع الاتجاهات، فيسقط بعض من ذلك الرذاذ على ممرات الحديقة الصامتة والساطعة بضوء النهار .. ورأت الفراشة المحلقة في الفضاء وهي تستعصي على الإمساك بها وترتفع إلى أعلى كلما أراد ابنها احتواءها بشبكته ..
دفعت أحدى الطبيبتين الباب الزجاجية للصالة فانكسر ، لوهلة ، الصمت الذي يلف القاعة الواسعة وتسللت من فتحة الباب وشوشة الحديقة والضجيج الخافت للعالم الخارجي ، ولم يدم ذلك سوى ثوان قلائل ، اذ سرعان ماصمت العالم مرة أخرى عندما أغلقت الطبيبتان الباب خلفهما واتجهتا نحو منضدة الاستعلامات… تبادلتا كلمات قليلة مع الممرضة الواقفة هناك، ثم التفتتا نحو المرأة الجالسة في صالة الانتظار .. خفضت الأم رأسها وهي تنود به يمنة ويسرة ، ولم ترفعه مرة أخرى ألا بعد أن سمعت صوت الباب الخارجية وهي تفتح مرة أخرى لتدخل منه تلك الوشوشة التي تشبه خرير جدول … ورأت الطبيبتين الشابتين وهما تبتعدان في الحديقة وتتكلمان مع بعضهما دون أن تخرج أي منهما يديها من جيوب الصدرية البيضاء ..
يدخل لفح الظهيرة ليمتزج مع برودة الصالة كلما انفتحت بابهما المؤدية إلى الحديقة …. ربتت الممرضة المناوبة برفق على كتف المرأة الغافية ، وهي الوحيدة التي كانت الأم تهرع إليها كلما رأتها تخرج من بوابة الممر الطويل .. استيقظت الأم مذعورة وأطلقت من غير وعي منها صرخة رعب مكتومة .. فهدأت الممرضة من روعها وابتسمت لها، ألا أن الأم راحت تتفوه بكلمات مبهمة كالهذيان .. وقد استقرت في عينيها نظرة من يكون في عالم آخر لا علاقة له البتّة بالعالم الذي هو فيه .. هرعت الممرضة الى ثلاجة صغيرة، وجاءت بقدح ماء بارد قدمته إلى الأم وقالت لها :
– اشربي يا خالة .. لابد انه كابوس ..
تناولت القدح منها وشربت منه ثم بدا عليها أنها أخذت تستعيد وعيها وتعود إلى حالتها الاعتيادية .. إذ سرعان ما سألت ، بعد أن انتهت من شرب الماء :
– هل نمت ؟
فقالت الممرضة :
– نعم .. أليس من الأفضل أن تعودي إلى البيت ؟
فقالت الأم :
– ألا يمكنني أن أراه ألان ؟
أجابت الممرضة :
– ستستطيعين ذلك بعد الظهر . لقد طلب مني الطبيب أن أبلغك بذلك .
ثم أردفت :
– ألن تذهبي إلى البيت لترتاحي قليلاً ؟
فقالت الأم :
– كلا . سأنتظر .
– كما تشاءين . سأجلب لك قدحاً من العصير ..
قالت لها الممرضة، ثم تركتها، واتجهت نحو باب غرفة رئيسة الممرضات المجاورة لزاوية الاستعلامات .. وأحست الأم بوجع في فقرات رقبتها من اثر التواء رأسها أثناء إغفاءتها القصيرة، تبع ذلك وخز في معدتها نبهها إلى انتشار رائحة الحساء الساخن والرز المطبوخ في جو الصالة .. وانتبهت إلى أن الصحفي لم يكن في مكانه، وأن ممرضة أخرى اصغر سناً قد حلت محل الممرضة التي كانت واقفة خلف منضدة الاستعلامات .. وان رجالاً بملابس زرقاء يدفعون عربات الطعام باتجاه الممر الطويل المؤدي إلى ردهات المستشفى المختلفة .
كان رنين التلفون ينطلق بين حين وأخر، فترفع الأم رأسها باتجاه زاوية الاستعلامات وتستمع إلى الممرضة وهي تجيب على تلك المكالمات بكلمات مطمئنة تشي بان أغلب تلك المكالمات يتعلق بالاستفسار عن تطورات عملية زرع القلب التي أجريت قبل يومين .. ولم تكن الأم تسمع أحياناً من صوت الممرضة غير سينات أو شينات متتابعة فتجاهد لإصاخة السمع حتى يصبح بمقدورها أن تسمع ، معززة ذلك بالتخمين لكثرة تكرار الجواب ، جملا قصيرة تطمئن السائل على أحوال المريض ونجاح العملية . وبالرغم مما أحسته الأم من الاهتمام الكبير الذي انتقل إليها من خارج المستشفى عبر رنين الهاتف المتكرر، ألا أن جواً من الهدوء والسكينة كان يخيم على الصالة التي في داخل المستشفى، حتى أنها لم تلحظ غير قلة من الممرضات والأطباء يمرقون من هذه الصالة باتجاه وحدة إنعاش القلب، وغير ذلك الصحفي الذي تناوب مع زميل له في الحضور إلى المستشفى، الأمر الذي جعلها ترجح أن تكون هناك لتلك الوحدة باب أخرى تؤدي إلى الخارج والى باقي مرافق المستشفى ..
فُتح باب صالة الانتظار المطل على الحديقة، ودخل منه ثلاثة أطباء توجهوا وهم يسيرون على عجل إلى البوابة المؤدية إلى وحدة إنعاش القلب ، وقبل أن يجتازوه توجه احدهم إلى الأم وقد لحظها ملتفتة إليه . اقترب منها ثم وضع يده على كتفها وقال :
– تستطيعين يا أمي رؤيته بعد قليل ، سأبعث الممرضة لترافقك إلى مكانه ..
ولم تتفوه الأم بكلمة … بدا شيء من الارتياح على وجهها ، واكتفت بان عدلت جلستها بشيء من الاحترام لذلك الرجل الذي خمنّت من بياض شعره ونحول وجهه ويديه بأنه لابد أن يكون شخصية مهمة في ذلك المكان . سرعان ما أعاد الرجل يده إلى جيب صدريته الجانبي، ثم التحق بالاثنين المنتظرين عند الباب ليتوارى الثلاثة خلفه بعد قليل .. نهضت الأم من مكانها ووقفت إزاء الباب الزجاجية وما هي ألا دقائق حتى ظهرت لها تلك الممرضة المناوبة التي ما برحت تطمئنها وتتفقدها بين حين وآخر في كل زيارة لها منذ صباح اليوم الأول لأجراء العملية وحتى تلك اللحظة ..
هرعت الأم إليها ولم تنتظر أن تفتح لها الباب لتفسح لها المجال للدخول بل دفعته هي على مهل، وهي تحس بان انتظار الأيام الثلاثة أهون عليها بكثير من تلك اللحظة الحاسمة التي قالت فيها الممرضة :
– وأخيراً !
ثم سارت الاثنتان قاطعتين الممر الطويل الذي كانت تحف به من الجانبين أبواب خشبية بيضاء تكاد لا تُرى لو لا قطع الأرقام المعدنية المثبتة عليها .. وعند الباب التي توقفت إزاءها الممرضة أحست الأم بنبض قلبها يشتد بشكل مؤذ ، وسمعت الممرضة وهي تقول :
– ستقفين عند الباب وتنظرين إليه .. هو نائم ألان ولم نشأ إيقاظه وأخباره بمجيئك خوفاً عليه من المضاعفات .
ثم شدت على كتفها ومضت وعلى وجهها سحابة من الحزن العميق ..
توقفت الأم عند الباب وهي تجاهد لحبس البكاء المشتعل في داخلها كالنار . كانت الغرفة أمامها قد توارت لوهلة خلف غلالة من الماء المترجرج، ثم مالبثت معالمها أن بدأت تتضح بعد أن كفكفت الدمع بأذيال فوطتها . ورأت داخل مساحة البياض المنتشر في أرجاء الغرفة يده الممدودة بجانبه وإبرة السائل المغذي مغروزة في ظاهر كفها .. وجهازاً كبيراً وعددا أخرى صغيرة موضوعة بالقرب من السرير . في سريرتها كانت تردد اسمه المرة تلو المرة وهي تحس بان لندائها الصامت ذلك صوتاً مسموعاً سيحس به قلبه .. وتراءى لها الحلم مرة أخرى كما لو أنه حقيقة : كان ابنها يقف بين بابين متقابلتين في زقاق ضيق .. وكانت أحدى هاتين البابين مفتوحة وهو قريب منها دون أن تكون هناك تحت قدميه ارض …… وحده كان بين صفي البيوت المتقابلة في الزقاق العائم في الهواء ، يمسك شبكة صغيرة ويحاول اصطياد فراشة كبيرة تحوم حوله دون أن يفلح في ذلك.
كانت تلك الفراشة تفلت منه في كل مرة يحاول اصطيادها .. وهو سابح في ذلك الفضاء من الزقاق والباب المفتوحة تنتظره للدخول . ولوهلة أوشكت الأم أن تطلق أسار صوتها ليصبح اسم ابنها مسموعاً وموجوداً وجود قلبه الذي ربما أحس بها في تلك اللحظة واقفة بقربه . ألا انها لم تتمكن من النطق به، إذ سرعان ما أحست بوجود الممرضة إلى قربها تريد إبعادها عن المكان، فأسلمت قيادها إليها دون تأخير أو تردد .. وسارت الاثنتان باتجاه الباب الخارجية المؤدية إلى الحديقة والأم تنتظر لحظة أن تغادر تلك الباب لتطلق العنان لذلك النشيج المحتبس داخل صدرها لكي يتصبب وينهمر ..
كان الصحفي جالساً في مكانه المعتاد ينتظر تقرير الممرضة اليومي عندما عادت الأم إلى صالة الانتظار . التفتت إليها طبيبة شابة في طريقها الى غرفة العمليات ثم سألت الصحفي في عجلة وهي تنظر باتجاه الحديقة :
– هل هي أمه ؟
فقال الصحفي :
– لا .. أنها أم الشاب الذي قتل في حادث السيارة .

من مجموعة الفراشة
1987

""

ميسلون هادي : الفراشة (ملف/55)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى