محمد كريم الساعدي - أصالة الوجود والممارسة الأنطولوجية في المسرح

ينطلق (جوليان هلتون) في نظريته المسرحية من السؤال الآتي , إذا كان المسرح هو فن الأداء الحي التلقائي ،فهل يمكن دراسته لتأكيد وجوداته وأصالتها إذا كان يبحث في الأداء الحي الحقيقي ؟ وهل من المطلوب دراسته؟ فتأتي الإجابة بنعم ، وتحديد ما يمـكن ان تتضمنه الدراســـة في البحــث في أمرين الى واقع, وهي تدفعنا ثانياً الى استكشاف العلاقة بين الواقع ، وبين الصور المختلفة التي نعرض من خلالها هذا الواقع .وهنا يرسم (هلتون) العلاقة بين الوجود الحقيقي لمتمثل بالعرض المسرحي، وبين متلقيه ،إذ يجعل لنظريته مدخلين مهمين ،هما:
1. إستكشاف العلاقة بين الواقع وبين الصور المختلفة التي نعرض من خلالها هذا الواقع ،أي بين الوجود الحقيقي ،وبين ماهيات الوجود الحقيقي، والعلاقة التي تأتي عن طريق الماهيات الرابطة .
2. تحويل الخيال ، أو ما يفوق الخيال الى واقع ،وهنا يتم تحويل الصور الذهنية الحسية ،أو ما يفوقها من صور باطنية الى مثيلاتها الواقعية من خلال البحث ، والانتقال من الوجود الماهوي المتكون في الذهن الى الوجود الواقعي في الواقع نفسه.
ومن هذين المدخلين ننتقل الى ملامح نظرية العرض وارتباطها بأصالة الوجود (الممكن) ، أو (المقيد) ,إذ يستعرض (هلتون) نظريته من خلال سبعة فصول في كتابه (نظرية العرض المسرحي) ،ويستهدف فيها كينونة العرض المسرحي وعلاقة المؤدي (الممثل) بالجمهور المسرحي، ولكي نتتبع العلاقة بين النظريتين سنقدم نظرية (هلتون) على وفق النقاط الأربعة :-
أولا:- العرض المسرحي وأصالة الوجود:-
جوهر الوجود الممكن وعناصره الخمسة في العرض المسرحي:- تنطلق نظرية أصالة الوجود في إثبات جوهر الوجود من خمسة عناصر، وهي كما يأتي:
الجسم :الجوهر الممتد في جهاته الثلاث (الطول، العرض ،الارتفاع) وهذه الجهات الثلاثة موجودة في العرض مسرحي ، والتي تشكل البناء الظاهري للعرض .
والجسم يأتي في شكلين هما:
الأول : هو وجود معمارية المسرح الذي يقدم فيه العرض المسرح ،ويسمى أيضا الحيز المكاني ، أو الفضاء الذي يتشكل فيه العرض ، وهذا وان كان جزءاً مهما من العــرض المسرحي ،لكنه يقـع بـين ما يسمى بالإحاطة بالمحيط ، أي إحاطة الشيء بشي، وهنا يرتبط المكان المعماري داخلة بجوهر العرض وظاهره الى الجمهور بما يسمى في نظرية أصالة الوجود بالعَرَض ، وسوف نتناوله في فقرة الأعراض التسعة .
الثاني: هو الجسم المكون للعرض المسرحي، والذي يقـــع في داخل فضــاء العرض، أو الحيز المكاني ويمـتد في جهاته الثلاثة . والجسم في هذه الحالة لن يبقى ساكناً ،أو جامداً بل هو في حركة مستمرة نتيجة الفاعلية في مادته ، ويكون إمتداده بحسب ما يتطلب تشكيله من قبل المخرج وبحسب ما تمليه عليه الأفكار المسرحية ، والرسالة التي يريد أن يقدمها وما تحويه من جوانب فكرية والجمالية، وهنا يرى هلتون في جسم العرض بأنه يجب أن يتكون من الشروط الأساسية لتحقيقه ،إذ يقول: إما المتطلبات الجسدية واللازمة لتحققها فهي ثلاثة: مكان للعرض والأداء ، زمن مخصص للعرض والأداء وممثل ،أو ممثلون وكلمة ممثل لا تعني فقط الممثل الحي، بل تصف ايضاً أي عنصر يشارك في أداء الحدث وان لم يكن بشراً, وان كان جماداً .إن الجوهر الممتد في جهاته الثلاثة هو (الجسم) الداخلي الذي يكون وجود العرض المسرحي ولبناته الأساسية المندمجة كلها في بناء مكونات هيكل العرض المسرحي الداخلية ،والتي إن وضعت في فراغ ما (مكان ما) تولد وجوداً مادياً حقيقياً يملأ هذا الفراغ بكل أجزائه المرئية.
الصورة الجسمية : هي إطار مفيد لفعلية المادة من حيث الإمتدادات الثلاثة (العقل, النفس، المادة)، إذ يصاغ العرض المسرحي عادة في إطار صوري خارجي يمثل المظهر الخارجي لمكوناته المادية، والتي تظهر في جانبها الخارجي الفعلي لتعبر عن وجود مادي واقعي في الحيز المكاني , هذه الصورة الجسمية للعرض المسرحي تعطي انطباعاً في الوجود الذهني للمتلقي على فعلية المادة على وفق إمتداداته . وفي نظرية هلتون المسرحية يرى بأن الصورة الجسمية للعرض المسرحي هي صورة حقيقية تمثل القدرة التوليدية لفعلية المادة المجسمة بصورة عرض مسرحي ،إذ يرى بأن قبول العرض كشيء حقيقي على الرغم من مجافته للحقيقة الواقعية ، هو قبولنا لإحتمال أن تكون الإحداث التي نشاهدها قد وقعــت على الصورة التـــي تعرض بها أمامنا ، وتمثل قدرة العرض هذه على تحويل الممكن والمحتمل الى واقع ,وعلى تجسيد الأفكار الكامنة في الوعي الجمعي ، وتمثل هذه القدرة أخطر جوانبه من الناحية الثقافية .
إن أمتدادات الصورة الجسمية في العقل ، تظهر في الأفكار الكامنة في الوعي الجمعي التي يعبر عنها العرض المسرحي ، وهذه الأفكار هي امتداد طبيعي لعقول مبدعي العرض المسرحي من (مؤلف، مخرج، ممثلين ...الخ) الذين استوحوا الأفكار الكامنة في الوعي الجمعي ، وتحويلها الى منتج إبداعي يحاكي تطلعات الجمهور المسرحي ،والذي هو شريحة متنوعة ممثلة للوعي الجمعي للمجتمع.
وجوهر النفس المتعلقة بمادة وجود العرض الحقيقي، وهذه النفس التي هي جوهر مجرد عن ذات ، ولكنها مرتبطة بها فعلاً من خلال حركية العناصر الجسمية التي تعطي فعلية المادة المكونة من الوجود الممكن للعرض المسرحي ،ولاسيما فأن جوهر النفس في العرض يكمن في سلوكية الحركة الموضوعية، وما تعطيه من انطباع للمشاهد عن العرض بحسب انتماءاته الفكرية ،وبحسب فلسفته التي ينطلق منه والتي يصيغ منها المخرج فاعلية مادة العرض المسرحي .
إذن، فعناصر جوهر العرض الخمسة المكونة من الجسم في امتداداته الثلاثة ، والصورة الجسمية الممتدة في العناصر الثلاثة المتبقية (العقل، النفس والمادة) ،هي من تعطي للعرض المسرحي وجوده الواقعي في الحيز المكاني المقدم به، ومن ثم يأتي جوهر العرض المسرحي في وجوده الإمكاني القابل على التعامل والتفاعل لينتج أثاراً فعلية تشير الى أصالته ووجوده الواقعي المستقل عن الماهية .
عَرَض الوجود الخارجي للعرض:
إن نظرية (أصالة الوجود) تقدم (العَرَض)، وهو القسم الثاني للوجود الإمكاني الذي هو ماهوية الموجود الذي ستكّون رابطة بين الوجودين الحقيقي ،والوجود الذهني ، والعَرَض في هذه النظرية يتكون من تسع مقولات، وهي:
الكم : ويقع في قسمين : الكم المتصل وهو ما يمكن ان يفرض فيه أجزاء بينهما حد مشترك، والكم المنفصل ،هو عكس الكم المتصل.
إن الصورة المنبثقة عن الوجود الحقيقي ،هي ليست الوجود ذاته ،بل هي ماهية الوجود ، وتعد عَرَضَاً وليس جوهراً للوجود. إن هذا التصنيف بين الجوهر والعرض يأتي لتحديد عمل الوجود والماهية في الواقع الحقيقي ، ويأخذ الكم هنا دوراً مهماً في عمل الماهية وتكوينها .إن الكم يبين ما يمكن ان يبثه الجسم وصورته الجسمية في الماهية من تكوين متماسك ،وكذلك يبين مدى البنائية في المادة الجسمية وبين ما يخرج من هذه المادة البنائية ،والذي يدخل في حيزه بنائه المنفصل، ليعطي صورة أخرى عن حدود فاصلة بين الأجزاء التي ليس بينها حد مشترك.
أن للكم ثلاث صور يظهر بها ،وهي الخط والسطح والجسم ، وهو المتصل ،أما المنفصل فهو الذي يختص بالعدد ،فالأول يوجد في الماديات ،كالأوضاع الثلاثة ،والمنفصل يوجد في الأعداد والساعات والأيام فيما يخص الزمان وخارج الأوضاع الثلاثة.
إن مفردات الكم بشقيها المتصل والمنفصل توجد في نظرية العرض المسرحي لـ(هلتون)، وفي البناء الفكري التي يريد من خلالها تشكيل العرض المسرحي وشكله كواقع حقيقي من خلال تركيزه على تعدد الأزمنة في آن واحد وفي زمانية العرض ،وهو ما يشير الى الكم المنفصل ،إذ نلحظ هذا الكم في توصيفه لمسرحية (اوديب) ،إذ يرى (هلتون) :بأن العرض المسرحي يتيح لنا ان نعايش في ان واحد مسرحية (اوديب) كتجربة جديدة للمرة الأولى ،وان نعايشها ايضاً كحادثة تاريخية في الماضي ،وأيضا كاسترجاع شعري لأسطورة لها دلالات محورية في ثقافتنا ،وليس ثمة ما يمنع من تواجد هذه المستويات الثلاثة للمعايشة الفنية في وقت واحد في خطوط متوازية .فليس هناك قانون معرفي أو سيكولوجي يحول بيننا وبين التواجد على مستوي الوعي في نظامين زمنيين مختلفين أو أكثر في نفس الوقت،وهذا التعدد في الأزمنة يمكن ان نقارنه بالكم المنفصل في نظرية آصاله الوجود .
أما الكم المتصل فيظهر في نظرية العرض المسرحي من خلال رؤيته، لتنظيم المكان والعلاقة مع الجمهور، إذ يرى بأن الرسم المعماري للمكان يدخل فيه عنصران ، هما :البيئة الطبيعية والبيئة المصنوعة ، إذ يعكس المسرح في تصميمه الداخلي التقابل الجدلي بين التشكيل الإنساني للمساحة الذي يمتاز بخطوطه المستقيمة وبين الأشكال الطبيعية التي تميل الى الإستدارة والخطوط المنحنية وتفرض جدلية الخطوط المستقيمة والمنحنية نفسها على الإنسان عادة إذ يحاول أن يحدد موقعه في المكان عامة. هذا فيما يخص المكان ،أو الحيز المكاني للعرض المسرحي أما الذي يخص الكم المتصل فيمكن أن نلاحظه في نظرية العرض عند هلتون ،وذلك من خلال الديكور ، وعلاقته بالمكان المسرحي ,وهنا يحدد هلتون وظيفتين للديـكور المسرحي ،الأولى :هي الوظيفة التقليدية ،والثانية الدرامية التي تحديد مواقع الإحداث ،وكلا الوظيفتين تستخدم الخطوط والسطوح والأجسام سواء أكان في علاقة المكان بالعرض أم في علاقته بالجمهور ، ويرى (هلتون) في ذلك بأن تكتفي هذه الوسائل المحايدة بتحديد منطقة الأداء فقط دون ان تضيف دلالات أخرى . ولكن الديكور يستطيع ايضاً ان يحدد الموقع عن طريق المناظر والتشكيلات المركبة التي تلتزم بالدقة التاريخية في كل تفصيلاتها.
الكيف :- ويقسم في نظرية أصالة الوجود الى:
الكيفيات النفسانية :مثال ذلك (العلم، الإرادة، الجبن، الشجاعة وغيرها)،وهذه كلها ترتبط بأداء الممثل للشخصية الدرامية لأنها تكون جزءاً من صفات الشخصية الدرامية .
الكيفيات المختصة بالكميات: مثال(الاستقامة، الانحناء ،والشكل)،وهذه ترتبط بعمل الممثل وعمل الديكور ايضاً.
الكيفيات الاستعدادية : مثال (الانفعال واللين ) ، وهي مرتبطة بأداء الممثل.
الكيفيات المحسوسة المختصة بالحواس الخمسة : وهذه كلها مرتبطة بعمل الممثل على جسده وصوته .
يستثمر (هلتون) في نظريته هذه الكيفيات الأربعة في عمل الممثل ،وهما اللعب والتدريب على وفق الإطار الوجودي ،وذلك من خلال طرحه صورة ديالكتيكية يصبح اللعب نظيراً للوجود والتدريب نفسه هو التجميع الذي يوحد الاثنين في توليفية جديدة). وهذه التوليفة الجديدة تدخل من ضمن الكيف بالعَرَضَ في نظرية أصالة الوجود.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى