إمام عبد الفتاح إمام - زواج الفلاسفة‏..‏ في الفلسفة القديمة‏..

1
القضية التي نود أن نناقشها في هذا المقال تتلخص في هذه الأسئلة‏:‏ هل دأب الفلاسفة علي رفض الزواج لأنه يشغلهم عن التفرغ للبحث عن الحقيقة‏,‏ والانقطاع للحكمة والعلم‏..‏؟‏!‏

وهل صحيح أن الزواج والتفلسف نقيضان لا يجتمعان: فإما أن تكون فيلسوفا, أو زوجا ولا ثالث لهما ولا جمع بينهما!! وكثيرا ما سألت نفسي: أليس الفلاسفة بشرا كغيرهم من البشر فيهم من يتزوج ويظل فيلسوفا, وفيهم من لا يتزوج ولكنه كان عاشقا, ومارس الجنس بلا زواج بل وأنجب أبناء غير شرعيين. ومنهم من كره الجنس بكل أصنافه ومعانية مثل أفلاطون. بل منهم من مارس الشذوذ الجنسي ولم يخجل منه قديما مثل سقراط الذي كان يعشق القبيادس Alcibiades فتي أثينا المدلل كما كانوا يسمونه وقدروي أفلاطون الكثير عنه في محاوراته لاسيما محاورة المأدبة Symposium التي راح الفتي يمتدح فيها سقراط بعشق وهيام!! وكان المجتمع الاثيني في ذلك الوقت يقر عشق الغلمان حيث كان مجتمعا انفصاليا يباعد بين الرجل والمرأة. ومن الفلاسفة من مارس الشذوذ الجنسي في الفترة المعاصرة, وكان عارا علي الفلسفة ومات بمرض الأيدز مثل ميشيل فوكو (1926-1984) الذي كان من هذه الزاوية سبة في جبين الفلسفة لما فعله: في تونس, وباريس, واليابان, والولايات المتحدة..إلخ. فصب اهتمامه كله تقريبا في دراسة الجنس والجنون. وكان بصفة عامة أسوأ مثل- في رأيي- للفيلسوف الذي لم يتزوج لكي يتفرغ للبحث عن الحكمة والحقيقة والعلم: فكان يتعاطي المخدرات, بل ويزرعها بين زهور بيته, ويمارس اللواط, ويفضح سمعه الفلسفة بغير حياء- حتي يصل بها إلي الوحل في باريس وتونس- علينحو ما ذكرنا منذ قليل! وعندما حذروه من الإصابة بالإيدز أجاب في وقاحة: وماذا في ذلك؟! أنني قد أموت في الشارع في حادث سيارة؟! ويموت فعلا بهذا المرض الذي لم يخافه!. وفي باريس عام1971 يؤسس جبهة الشواذ للعمل الثوري1 ويتخذ عشيقا هو دانييل ديفير..D.Defrt ويعاهده أن لا يفترقا إلي الأبد!! إلي آخر تلك الأعمال السيئة والأفعال المشينة التي قام بها فيلسوف لم يتزوج! لأنه لم يشأ أن يشغله الزواج أثناء بحثه عن الحقيقة والسير في ركاب الحكمة!.
لكن أصحيح أن الغالبية العظمي من الفلاسفة أضربوا عن الزواج؟! وهل أمتنع الكثير منهم عن هذا العمل الذي يترفع عنه من كان حكيما؟ دعدنا نتناول بعض الأمثلة:

نماذج من زواج الفلاسفة قديما:-
الفيلسوف الذي يضربون به المثل لعزوفه عن الزواج في الفلسفة القديمة هو أفلاطون: الملقب عند فلاسفة الإسلام بأفلاطون الإلهي, ولسنا ندري علي وجه الدقة لماذا لم يتزوج أفلاطون؟! فالمفسرون يذهبون مذاهب شتي في تأويل هذا الموقف الأفلاطوني لعل أهمها وأكثرها شيوعا ما يقوله جريجوري فلاستوس G.Vlastes الذي يروي أن أفلاطون كان يمارس الجنسية المثلية. وأن حملته ضدها واعتبارها مضادة للطبيعة أو أنها إنحطاط لإنسانية الرجل.. إلخ إنما هو ضرب من عقدة الذنب التراجعية. بينما يري جورج سارتون أنه لا يستلزم من ذلك أن أفلاطون كان ممن يزاولون اللواط بالمعني الفعلي, لكن يكاد يكون مؤكدا أنه كان مصابا بضرب الشذوذ الجنسي: انه لم يتزوج أبدا, وإذ كان يتحدث أحيانا عن العلاقات الجنسية التي تقوم بين الرجال والنساء, فحديثه مجرد عن كل عاطفة. لكنه كان يدخر مشاعره الرقيقة للعلاقات الشاذة مع بني جنسه كان ممن يبغضون المرأة ويبدو ذلك كثيرا في ثنايا حديثه.
ويري آخرون أن أفلاطون لم يتزوج إذ تدل كتاباته بأنه لم يكن لديه أي ميل جنسي نحو النساء.
ولكن إذا كانت هناك عوامل شخصية في حياة أفلاطون قد جعلته في البداية يتسامح مع الجنسية المثلية التي كانت من خصائص المجتمع الأثيني, فقد تغلبت ميتافيزيقاه في النهاية تلك التي تقوم علي الروح وتجعل الحقيقة كامنة في عالم منفصل عن ذلك العالم الحسي المتغير, لا نصعد إليه إلا بالروح, فالروح وحدها هي التي تعرف الروح علي حد تعبير هيجل- فإذا وجدنا عالما عقليا خاصا أزليا لا يعرف الكون والنساء.. هذه الميتافيزيقا هي التي تغلبت في النهاية ومكنت لنفسها فجعلته يشن هجوما عنيفا علي الجنسية المثلية ويصفها بأنها إنحطاط. ويقصر العلاقة الجنسية بين الرجل والمرأة في أضيق الحدود ويقصد الإنجاب فحسب حتي يبقي النوع البشري. لكن قد يقال إذا كان أفلاطون يكره جميع أنواع العلاقة الجنسية, وأنه لهذا السبب قد حرم الجنسية المثلية: فلماذا لم يمتد هذا التحريم إلي علاقة الجنس بين الرجل والمرأة..؟ وللأجابة عن هذا السؤال قد نضطر إلي العودة قليلا إلي فكرة أفلاطون العامة عن المادة, فلاشك أنه كره المادة ووصفها بأنها عنصر الشر في العالم, وأنها عامل الأضطراب في الكون كما جاء في محاورة طيماوس..
وكان لا بد أن تمتد كراهيته هذه إلي الجسد, وهكذا أصبح الجسد عند أفلاطون شرا مزدوجا: فهو من ناحية وسيلة لتشوية الحقيقة, وهو من ناحية أخري مصدر للشهوات, ولاشك أن الفيلسوف الحق عنده يزدري البدن ويعتبره سجنا للروح, ولهذا يود أن يتخلص من البدن ليعود إلي الروح ( محاورة فيدون64).. وفي استطاعتنا أن نسوق نصوصا لا نهاية لها تدل علي كراهية أفلاطون للجسد, ومحاورة فيدون زاخرة بأمثال هذه النصوص. لكن أفلاطون مع ذلك يحرم علي الفيلسوف الأنتحار فالزعم بأن الإنسان سجين البدن لا يجعل من حقه التخلص منه( فيدون62).
لأن الإنسان لم يهب نفسه هذا الجسد بحيث يحق له أن يطرحه عنه, وإنما خلقه الله فلا يحق له تدميره فنحن من ممتلكات الآلهة..( فيدون62). لكن لابد للإنسان أن يأكل ويشرب لكي يبقي حيا, لكنه يأكل ويشرب الحد الأدني الضروري الذي يجعل الجسم يبقي, وما يقال عن الفرد يقال أيضا عن النوع, أن الإمتناع عن الجنس تماما ضرب من الإنتحار للنوع, إذ لابد للنوع أن يبقي, فإذا كان الجسد يتغذي ليبقي الفرد, فإن علي الإنسان أن يمارس الجنس ليبقي النوع, مشاركا في الخلود عن طريق التوالد-(محاورة القوانين72) وهذا ما يفعله الحيوان نفسه عن طريق الحب الجنسي الذي يؤدي إلي التناسل فيحل مولود جديد محل الفرد الميت. وهكذا يبقي النوع عند الحيوان والإنسان معا( المأدبة207) ولهذا فإن علينا ألا نعجب عندما يتحدث أفلاطون عن العملية الجنسية بين الرجل والمرأة حديثا مجردا من العاطفة, لأنها في رأيه عملية آلية تستهدف الأنجاب لحفظ النوع.
تلك هي قصة عدم زواج أفلاطون, وقد أطلنا فيها لأن هناك تركيزا دائما عليها, فأفلاطون لم يتزوج عبارة كثيرا ما تتردد علي أن ذلك هو المثل الأعلي للفيلسوف الذي لابد أن يحتذيه الفلاسفة جميعا, ولست أدري لم لا يذكرون معها في نفس اللحظة أن سقراط أستاذ أفلاطون تزوج مرتين. وأن أرسطو تلميذ أفلاطون والمعلم الأول تزوج مرتين, وأنه كتب في وصيته يوصي بأن رفات زوجته الأولي وكامت قد توفيت قبله بفترة طويلة لتدفن معه في قبره. وحيثما أدفن فلتجمع رفات زوجتي بثياس Pythies وتضوع معي في قبري بجوار جثماني فقد كانت تلك رغبتها.
أما الزوجة الثانية وتدعي هربيليس Herpylis وهي التي أنجبت له أبنه نيقوماخوس فهو يشير في نفس الوصية إلي طيبتها وحسن معاملتها أكثر من مرة. ويطلب من نيكتار منفذ الوصية- أكراما لذكراي, ومن أجل عواطف هربيلس النبيلة نحوي أن يعتني بها ويرعاها في جميع الأمور, وإذا ما رغبت في الزواج بعد وفاتي فعليه أن يزوجها لشخص لا يكون تافها, أو غير جدير بها. وإلي جانب ما أخذته بالفعل فعليه أن يعطيها وزنة من الفضة خارج نصيبها وثلاث خادمات تختارهن بنفسها بالإضافة إلي الخادمة التي لديها بالفعل. وكذلك إلي جانب الخادم بيرهابس وإذا فضلت أن تبقي في مدينة خالقيس فلها بيتي بالحديقة, وإذا اختارت أن تعيش في مدينة استاجيرا( مسقط رأسه) فلها بيت أبي هناك, وعلي المنفذين لهذه الوصية أن يقوموا بتأثيث المسكن الذي تختاره من هذين المسكنين بالأثاث اللائق الذي يرونه مناسبا, والذي توافق عليه هربليس وتستحسنه بنفسها.!
لم يقل المعلم الأول أن زوجه أعاقه عن تشكيل مذهب شامخ أثر في الفكر البشري لأكثر من عشرين قرنا- أو أنه تنفس الصعداء عندما ماتت زوجته الأولي لأن موتها جعله يتفرغ كفيلسوف للبحث عن الحقيقة, والانقطاع للحكمة.. إلي آخر هذا الكلام الذي أوردناه فيما سبق عن أدعياء البحث عن الحقيقة.
وقبل سقراط وأفلاطون وأرسطو كان هناك فيثاغورس الذي افتتح أول مدرسة فلسفية في التاريخ تستقبل الرجال والنساء معا, وكانت ثيانو..Theano أول فيلسوفة فيثاغورية التحقت بالمدرسة في البداية كطالبة مع زميلاتها وزملائها, ثم أصبحت زوجة للمعلم, كما أصبحت هي نفسها معلمة في المدرسة ومديرة لها بعد وضع المذهب الذي كان يريد, بل علي العكس ثبت تاريخيا وعلي نحو قاطع أنه كان خيرا وبركة علي فلسفته التي بقيت سنوات طويلة بعد وفاته بسبب حسن إدارة زوجته وابنته للمدرسة بعده, وراحت الزوجة الوفية والفيلسوفة اللامعة تصحح فهم الاثينيين الخاطئ لفلسفة زوجها قالت: بلغني أن كثيرا من اليونانيين يعتقدون أن فيثاغورس ذهب إلي أن كل شيء في العالم نشأ من العدد.. غير أن فيثاغورس لم يقل أبدا أن الأشياء الحسية نشأ من الأعداد أو أنها مصنوعة من العدد. وهكذا صححت الزوجة فهم الاثينيين الخاطئ لفكر زوجها وفي استطاعتنا أن نقول مثل ذلك بالنسبة لأريجوت Arignote وميا Myia بنت فيثاغورس من ثيانو.. ولقد سبق أن تحدثنا عن هذا الموضوع الهام في كتابنا عن النساء الفلاسفة.
هذه نبذة سريعة تعارض كل من يرفع شعارا زائفا هو: امتنع عن الزواج لكي تكون فيلسوفا..! أن صاحبه يرفعه لحاجة في نفس يعقوب! وردا علي سؤال محرج هو لماذا لم يتزوج حتي الآن! فيكون الرد العجيب هكذا جميعا أفلاطون لم يتزوج وكذلك ديكارت وكذلك شوبنهور..إلخ مجموعة منتقاة لكن السائل ينبغي عليه أن يعيد السؤال: إذا كان أفلاطون لم يتزوج فقد تزوج أستاذه سقراط مرتين, وتزوج تلميذه أرسطو مرتين أيضا, وتزوج فيثاغوس أحد المؤثرات القوية التي تأثر بها أفلاطون- وإفتتح مدرسة فلسفية تضم الرجال والنساء معا وتزوج واحدة من تلميذاته!.
وقد اختصرنا في هذا المقال علي الفلاسفة القدماء لنفرد المقال القادم للحديث عن الفلاسفة المحدثين والمعاصرين:
وسوف نجعل شعارنا دائما أن نقول مع أمير الشعراء:
أن عشقنا فعذرنا = أن في وجهنا نظر!!
وأما فاقد النظر الذي يخشي أن تكشفه المرأة, فنحن نقدم له ثلاثة من أعظم فلاسفة العالم: واحد في كل عصر أرسطو عند القدماء- هيجل في الفلسفة الحديثة- رسل في الفلسفة المعاصرة!! وإلي مقال قادم نواصل فيه الحديث!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى