إمام عبد الفتاح إمام - "وحديث عن المازوخية.!"

سبق أن تحدثنا عن السادية. Sadism وهو مذهب غريب يتلذذ صاحبه بإنزال الألم بالآخرين، واشتق اسمه من الكاتب الفرنسي غريب الأطوار "الماركيز دي ساد" - وإذا كان هذا المذهب هو القطب الإيجابي الفاعل الذي تقوم فيه "الأنا" بتعذيب الآخر وتشعره باللذة والسعادة من هذا الفعل، فهناك القطب المضاد للسادية وهو مذهب "المازوخية.سبق أن تحدثنا عن السادية. Sadism وهو مذهب غريب يتلذذ صاحبه بإنزال الألم بالآخرين، واشتق اسمه من الكاتب الفرنسي غريب الأطوار "الماركيز دي ساد" - وإذا كان هذا المذهب هو القطب الإيجابي الفاعل الذي تقوم فيه "الأنا" بتعذيب الآخر وتشعره باللذة والسعادة من هذا الفعل، فهناك القطب المضاد للسادية وهو مذهب "المازوخية. Masochism (ويكتب أحياناً الماسوشية أو المازوكية) الذي يعبر عن حالة الفرد في تقبله لما يمكن أن يقع عليه من ألم أو إيذاء جسمي أو نفسي من شخص آخر واستمتاعه بهذا الألم، ويُنسب هذا المصطلح إلى الكاتب الروائي النمساوي الذي أرتبطت باسمه هذه الظاهرة وهو "ليبولد زاخر مازوخ. Lepold Zacher Masoch " (1836 - 1895) الذي ألفَّ الرواية الشهيرة "فينوس في الفراء. Venus in Furs". وهي تعبّر في بعض أجزائها عن فترات وتجارب من حياة المؤلف نفسه وخاصة في طفولته، والحادثة التى استرعت اهتمام المحللين النفسيين، هي أن مازوخ". Masoch" كان في طفولته يعيش مع عمته التى كانت تعاشر عشيقاً لها بين الحين والآخر، وقد دفعه حب الاستطلاع ذات مرة إلى الاختفاء في دولاب الملابس، ليشاهد ما يحدث بالفعل، بينما كان "مازوخ" يرصد كل ذلك بحماس واهتمام، بدت منه حركة جلبت الاهتمام إليه، واكتشف أمره. وعاقبته عمته بضرب مؤلم. وهكذا يفسر المحللون قيام ارتباط وثيق بين الألم الذي وقع عليه وبين لذة الإثارة الجنسية التى كان "مازوخ" يستمتع بها، وبأن هذا الارتباط قد أثرَّ في نفسه إلى حد جعل من الممكن قيام اعتماد متبادل بين الشعور بالألم واللذة. ويبدو أن هذه التجربة قد تكررت مع "مازوخ" لدرجة أن "المازوخي" عموماً قد أصبح مهيأ بطبيعته النفسية إلى مثل هذا الانحراف.
وهكذا ظهر مصطلح جديد أو نظرية جديدة يطلق عليها اسم "النظرية السادومازوخية. Sadomasochism تعبر عن العلاقة الوثيقة بين السادية التى هي إيقاع الألم بالآخرين، والطرف الآخر وهو "المازوخية" التى هي - على العكس - تقبل إيقاع الألم على الذات والاستمتاع به، وقد يقُصد بهذا المصطلح أحياناً - من باب التوسع - تلذذ المرء بما يقع عليه من اضطهاد.
وعلينا أن نسوق هنا ثلاث ملاحظات مهمة: -
الملاحظة الأولى: هي أنه على الرغم من أن هذين المصطلحين قد ارتبطا في البداية بالجنس واستخدمتهما مدرسة التحليل النفسي في تفسير الكثير من مظاهر السلوك البشري، فإنهما قد انتقلا بعد ذلك إلى علم النفس الاجتماعي، ثم إلى علم الاجتماع، وأخيراً إلى ميدان الفلسفة السياسية وهي التى تعنينا هنا بالدرجة الأولى.
والملاحظة الثانية: هي أن هناك أرتباطاً وثيقاً بين المصطلحين أو بين النزعة السادية المتسلطة التى تفرض سيطرتها على شخص أو مجموعة من الأشخاص، وبين النزعة المازوخية التى تستسلم، بل وتستعذب الألم الذي يقع عليها مما يبرر جمعهما في مصطلح واحد هو ما نسميه بالعلاقة "السادومازوخية" وهي العلاقة التى يكون فيها الطرف الأول قوة مسيطرة متسلطة تفرض إرادتها، في حين يكون الطرف الثاني شخصية مستسلمة خاضعة.
والملاحظة الثالثة: هي أنه إذا كان علم النفس قد نظر في البداية إلى هذه العلاقة على أنها تمثل انحرافاً عن الطريق السّوي، فإن معظم علماء النفس يعتبرونها الآن نزعات طبيعية عند البشر رغم أنها قد توجد بصورة منحرفة عند بعضهم، يقول أريك فروم. Erich Fromm (1900 - 1980) "أن النزعات السادومازوخية" موجودة عند البشر بدرجات متفاوتة - في الأشخاص الأسوياء والمنحرفين على حد سواء". والعامل الخفي في هذه العلاقة هو تبعية كل طرف للآخر واعتماده عليه. وقد يبدو ذلك واضحاً في الشخص المازوخي الذي يمثل الجانب الضعيف الخانع المستسلم، وقد نتوقع أن تكون الشخصية السادية هي على العكس: قوية ومستقلة ويصعب اعتمادها على الشخصية الضعيفة أو تمسكها بها، ومع ذلك فالتحليل الدقيق يكشف عن وجود هذه التبعية بين الطرفين أو ما يُسمى في الفلسفة "بجدل العلاقة بين الطرفين". فالشخص السادي يحتاج إلى الذي يتحكم فيه ويسيطر عليه" إنه يحتاج إليه بشدة مادام شعوره بالقوة كامناً في واقعة أنه سيد لشخص ما، وهو قد لا يعي هذه التبعية على الإطلاق. ومن هنا فقد يعامل الرجل زوجته على نحو سادي تماماً. وقد يكرر على مسامعها أنها تستطيع أن تترك المنزل في أي وقت، وأنه سيكون سعيداً للغاية لو أنها فعلت ذلك. وكثيراً ما يعتصرها الألم حتى أنها لا تجرؤ على مغادرة المنزل. وهكذا يستمر كل منهما في الاعتقاد بأن موقفه هو الموقف الصحيح، غير أن الزوجة لو انتابتها شجاعة مفاجئة جعلتها تجرؤ على القول بأنها ستتركه، فقد يحدث شيء غير متوقع تماماً بالنسبة لهما معاً، إذ يصبح الزوج بائساً منهاراً يتوسل إلى زوجته ألا تتركه، وسوف يعلن كم هو يحبها.!
وربما كانت هذه العلاقة أوضح ما يكون في حقل السياسة وقد صورها الأديب الأمريكي هيمنجواي بالحاكم الظالم الجبار على شعبه، فيقرر الشعب ترك المدينة له، والذهاب للعيش في غابة ويستيقظ الحاكم ليجد نفسه وحيداً ويعلم أن شعبه يعيش في الغابة فيذهب إليهم ويلح عليهم في العودة واعداً ألا يعود أبداً إلى الظلم مرة أخرى فهو بدونهم لا يكون ملكاً ولا حاكماً.
وهي كلها أفكار مأخوذة من فكرة هيجل عن جدل السيد والعبد طوال التاريخ وهو صراع انحل مع اندلاع الثورة الفرنسية عندما أصبح الكل سادة وتمَّ إلغاء نظام الرق من المستعمرات الفرنسية أولاً ثم من العالم كله بعد ذلك.
أما بالنسبة لاحساس "المازوخي" بالألم على أنه لذة فليس ثمة رأي قاطع بالنسبة للشخص الذي يقع عليه الألم أنه يشعر به كألم أم أن الألم يتحول في احساسه إلى شعور باللذة، إذ يذهب بعض العلماء إلى أن احساس الألم في نفس "المازوخي" يتحول بطريقة ما إلى لذة، وهناك آخرون لا يتفقون مع هذا الرأي. وعلى أية حال فليس ثمة شك في أن "المازوخي" يشعر مع الألم بشيء من الراحة وأن الاحساس بالألم إذا استمر فقد يصبح احساساً مرغوباً فيه. وهكذا فإن ما يبدو في الأصل شعوراً بالطاعة أو خضوعاً ضرورياً، فإنه قد ينتهي أخيراً بتوفير اللذة لصاحبه ومن شأنه أن يدفع بالفرد إلى البحث عن هذه اللذة حتى ولو كانت عن طريق الألم وتقبله، وقد يدعم هذا الرأي، أن الألم كلما زاد كانت اللذة الناتجة عنه أكثر متعة لصاحبها، وهي ملاحظة معروفة منذ القدم، ولها ما يؤيدها في مفهوم العلم المعاصر. ولكن سبق أن أشرنا إلى أن السادية من ناحية والمازوخية من ناحية أخرى يمثلان ضرباً من ضروب الحكم السياسي يقوم على أساس "المتسلط" - وهو الحاكم "والخاضع" وهو المحكوم - وقد تستمر فترات طويلة من التاريخ - لكن ذلك يحتاج إلى تفسير طويل وهو ما سوف نعالجه في مقالنا القادم عن "خرافة المستبد العادل".!

إمام عبد الفتاح إمام


المصدر
الأهرام اليومى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى