أكثر أيام الربيع والصيف، وكلما يأتي الأصيل, يكون الحبيب على موعد مع وردة البلاد عند الدروب السعيدة.
كل مرة تأتي بهيئة أنيقة، وترشه بسيل من البسـمات، فينظر بعينين ضاحكتين إلى وجهها المعبأ بالصحة، وجسدها المتناسق، وشـعرها الأسود الطـويل الذي يزيدها جاذبية، ويتمنى أن يحملها بين الضلوع، تمد يدها فيصافحها، ثم يبدأ المشوار، ويبدأ معه الحديـث عن الشوق والغرام، والقلب الظمآن، وعن الفرح القادم بعد موسم الخير الذي أعلنت بشائره عن نفسـها بوضوح.
صارا وجهين مألوفين لكل من يسير على الطريق السـريعة، المارة بالقرب من القرية التي تسـتريح حول تل اثري في الجزيرة، وكثيرا ما تجاهلا تعليقات وحسرات وآهات أصحاب السـيارات والركاب، فهما لا يهمهما أي شيء في الدنيا ما دام القلب برفقة القلب.
يا أيها الليل يا مسرح الجرائم, كم من وحوش تناسـلت في ظلامك؟ وكم من ذئاب تركت وراءها الخراب والجراح والنواح؟
كزوجين من حجل، انهيا المشـوار وهما يحلمان بالغد الجميل وبمشوار جديد، فهذا المشوار هو السابع بعد الخمسين ولم يأخذا كفايتهما من العسـل بعد.
كفها الناعمة الطرية كانت ترتاح في كفه, يهـزها بمرح في الهواء، ويرسم الآمال والأفراح بريشة من نور، ثم راح يبدع مثلـما تبدع (فيروز) دائماً:
"يا كرم العلالي عنقودك لنا.. يا حلو يا غالي شو بحبك أنا"
لعلع الفرح في داخلها، شعرت بالنشوة تسري في كامل جسـدها، فراحت تهز يده هي الأخرى وتبتسم وتبدع بصوت ناعم حنون:
"ع النهر التقينا وما قلنا لحدا.. والتقو عينينا وما شفنا الهدا..قللي شـو بكي وشو اللي ما بكي.. وقللي يا دلي الموسم ع الجنى"
احتضنها فجأة وحاول أن يأخذ منها قبلة حارة اشـتاقت نفسه إليها، لكنه التفت إلى جهة الزرع عندما سمع خشخشة ما.
بعد لحظات خرج ذئب بقدمين وبلا ذنب من بين السـنابل المشبعة بالصـحة، اقترب منهما وفي عينيه يلتمع الخبث والدهاء، حياهما بأدب مصطنع، اخرج من جيبه علبة الدخان, وطلب منه أن يشعل له لفافته.
ما إن اخرج القداحة من جيبه حتى خـرج ذئب آخر وفي فمه لفافة غير مشتعلة, تقدم نحوهما بحركات شبه رعناء، فانتاب الحبيب إحسـاس من يستعد لمواجهة خـطر قادم، وقف خلف الحبيب وهو يبتسـم، فلم يعره اهتماما, أشعل القداحة، قرّبها من لفافة الأول, حينئذ انقض عليه الآخـر، أمسك به بقوة ومنعه من القيام بحركة واحدة، سحب الأول سـكيناً حادة من تحت سترته، غرز نصلها في رقبته وهدده بقطـعها إن تحرك أو قاوم، وبسرعة سحبه الاثنان إلى داخل الحقل وسـط دهشة الوردة التي دخلت في صدف الخوف وتسربل وجهها بالليمون.
بقيت واقفة في مكانها غير مصدقة ما يحدث ولم تقو على الكـلام، عادت إليها الروح، فخلعت حذائها، وعلى غفلة منهما هرولت صـارخة باتجاه القرية التي بدأت أنوارها تلمع للتو, لكنهما لحقا بها قبل أن يراها أو يسمعها أحد, حملها أحدهم على كتفه، بينما أمسـك الآخـر برجليها وهي تبكي وتصيح:
ـ أرجوكم اتركوني.. أنا مخطوبة...
كيف لذئاب جائعة أن تستمع لأنين فريسة تبدو لهما لذيذة؟
عادا بها إلى حيث الحبيب، فشـاهدته مربوطـاً بحبل رفيع وعلى فمه لاصق عريض، مدداها بالقرب منه, ربطا رجليها، الصقا اللاصـق على فمها، مزقا قميصها الأزرق، عندئذ أطلق الحبيب صـيحات معبأة بالغضب، تكسرت على أثرها حنجرته، غير أن صـيحاته بقيت داخـل فمه، أيقنت الوردة أن المصيبة ستقع لا محالة، فأطلقت صيحاتها الخافتة وتوسـلاتها الكثيرة، وصرخ الليل، وصرخت السـنابل الشاهدة على كل ما جرى، وجفلت كل الطيور النائمة في الحقول، وخرجـت دفعة واحدة وهي تطلق زقزقات غريبة، وتطير وتضرب أجنحتها بوجوهها.
بدأ المشهد الأول من الفصل الأول من المسـرحية الدموية، ارتمى الذئب الأول فوقها، غرز أنيابه ومخالبه في عمق جسدها الطاهر، حتى انبثق الدم من الروح والجسد، وروى الأرض، وظل يجري.. يجـري فيضانات من الدم.
اشـبع الذئب رغباته، فتركها للآخـر كي ينهش ما يريد من اللحم، بينما الحبيب الجريح يغمض عينيه ويئن ولا يدري إن كان حياً أم ميتاً.
امتطى الاثنان دراجة نارية وهربا كلصين حصـلا على كنز لا يقدر بثمن، فنبت العذاب والغضب, وصار أشجاراً عالية تكاد تصـل إلى حدود الغيوم، اسـتطاعت الوردة أن تحل وثاقها، لملمـت أوراقها الممزقة والمبعثرة، ومع النحيب تقدمت من الحبيب بروح مغروزة بآلاف السكاكين، حلت وثاقه، جلست إلى جانبه, وراحت تنسج من آهاتها ثوباً للزمـن القادم، أما الحبيب فراح يبكي على نفسـه وعلى وردة قطفـوها قبل أن تمتلئ بالعطر، وأسقطوها في مسـتنقع مليء بالطمي والروائح الكريهة، وظل يبكي.. يبكي.. يبكي، ولا يدري ماذا يفعل، ينقذها من العار، أم يتركـها للمجهول؟
كل مرة تأتي بهيئة أنيقة، وترشه بسيل من البسـمات، فينظر بعينين ضاحكتين إلى وجهها المعبأ بالصحة، وجسدها المتناسق، وشـعرها الأسود الطـويل الذي يزيدها جاذبية، ويتمنى أن يحملها بين الضلوع، تمد يدها فيصافحها، ثم يبدأ المشوار، ويبدأ معه الحديـث عن الشوق والغرام، والقلب الظمآن، وعن الفرح القادم بعد موسم الخير الذي أعلنت بشائره عن نفسـها بوضوح.
صارا وجهين مألوفين لكل من يسير على الطريق السـريعة، المارة بالقرب من القرية التي تسـتريح حول تل اثري في الجزيرة، وكثيرا ما تجاهلا تعليقات وحسرات وآهات أصحاب السـيارات والركاب، فهما لا يهمهما أي شيء في الدنيا ما دام القلب برفقة القلب.
يا أيها الليل يا مسرح الجرائم, كم من وحوش تناسـلت في ظلامك؟ وكم من ذئاب تركت وراءها الخراب والجراح والنواح؟
كزوجين من حجل، انهيا المشـوار وهما يحلمان بالغد الجميل وبمشوار جديد، فهذا المشوار هو السابع بعد الخمسين ولم يأخذا كفايتهما من العسـل بعد.
كفها الناعمة الطرية كانت ترتاح في كفه, يهـزها بمرح في الهواء، ويرسم الآمال والأفراح بريشة من نور، ثم راح يبدع مثلـما تبدع (فيروز) دائماً:
"يا كرم العلالي عنقودك لنا.. يا حلو يا غالي شو بحبك أنا"
لعلع الفرح في داخلها، شعرت بالنشوة تسري في كامل جسـدها، فراحت تهز يده هي الأخرى وتبتسم وتبدع بصوت ناعم حنون:
"ع النهر التقينا وما قلنا لحدا.. والتقو عينينا وما شفنا الهدا..قللي شـو بكي وشو اللي ما بكي.. وقللي يا دلي الموسم ع الجنى"
احتضنها فجأة وحاول أن يأخذ منها قبلة حارة اشـتاقت نفسه إليها، لكنه التفت إلى جهة الزرع عندما سمع خشخشة ما.
بعد لحظات خرج ذئب بقدمين وبلا ذنب من بين السـنابل المشبعة بالصـحة، اقترب منهما وفي عينيه يلتمع الخبث والدهاء، حياهما بأدب مصطنع، اخرج من جيبه علبة الدخان, وطلب منه أن يشعل له لفافته.
ما إن اخرج القداحة من جيبه حتى خـرج ذئب آخر وفي فمه لفافة غير مشتعلة, تقدم نحوهما بحركات شبه رعناء، فانتاب الحبيب إحسـاس من يستعد لمواجهة خـطر قادم، وقف خلف الحبيب وهو يبتسـم، فلم يعره اهتماما, أشعل القداحة، قرّبها من لفافة الأول, حينئذ انقض عليه الآخـر، أمسك به بقوة ومنعه من القيام بحركة واحدة، سحب الأول سـكيناً حادة من تحت سترته، غرز نصلها في رقبته وهدده بقطـعها إن تحرك أو قاوم، وبسرعة سحبه الاثنان إلى داخل الحقل وسـط دهشة الوردة التي دخلت في صدف الخوف وتسربل وجهها بالليمون.
بقيت واقفة في مكانها غير مصدقة ما يحدث ولم تقو على الكـلام، عادت إليها الروح، فخلعت حذائها، وعلى غفلة منهما هرولت صـارخة باتجاه القرية التي بدأت أنوارها تلمع للتو, لكنهما لحقا بها قبل أن يراها أو يسمعها أحد, حملها أحدهم على كتفه، بينما أمسـك الآخـر برجليها وهي تبكي وتصيح:
ـ أرجوكم اتركوني.. أنا مخطوبة...
كيف لذئاب جائعة أن تستمع لأنين فريسة تبدو لهما لذيذة؟
عادا بها إلى حيث الحبيب، فشـاهدته مربوطـاً بحبل رفيع وعلى فمه لاصق عريض، مدداها بالقرب منه, ربطا رجليها، الصقا اللاصـق على فمها، مزقا قميصها الأزرق، عندئذ أطلق الحبيب صـيحات معبأة بالغضب، تكسرت على أثرها حنجرته، غير أن صـيحاته بقيت داخـل فمه، أيقنت الوردة أن المصيبة ستقع لا محالة، فأطلقت صيحاتها الخافتة وتوسـلاتها الكثيرة، وصرخ الليل، وصرخت السـنابل الشاهدة على كل ما جرى، وجفلت كل الطيور النائمة في الحقول، وخرجـت دفعة واحدة وهي تطلق زقزقات غريبة، وتطير وتضرب أجنحتها بوجوهها.
بدأ المشهد الأول من الفصل الأول من المسـرحية الدموية، ارتمى الذئب الأول فوقها، غرز أنيابه ومخالبه في عمق جسدها الطاهر، حتى انبثق الدم من الروح والجسد، وروى الأرض، وظل يجري.. يجـري فيضانات من الدم.
اشـبع الذئب رغباته، فتركها للآخـر كي ينهش ما يريد من اللحم، بينما الحبيب الجريح يغمض عينيه ويئن ولا يدري إن كان حياً أم ميتاً.
امتطى الاثنان دراجة نارية وهربا كلصين حصـلا على كنز لا يقدر بثمن، فنبت العذاب والغضب, وصار أشجاراً عالية تكاد تصـل إلى حدود الغيوم، اسـتطاعت الوردة أن تحل وثاقها، لملمـت أوراقها الممزقة والمبعثرة، ومع النحيب تقدمت من الحبيب بروح مغروزة بآلاف السكاكين، حلت وثاقه، جلست إلى جانبه, وراحت تنسج من آهاتها ثوباً للزمـن القادم، أما الحبيب فراح يبكي على نفسـه وعلى وردة قطفـوها قبل أن تمتلئ بالعطر، وأسقطوها في مسـتنقع مليء بالطمي والروائح الكريهة، وظل يبكي.. يبكي.. يبكي، ولا يدري ماذا يفعل، ينقذها من العار، أم يتركـها للمجهول؟