ديوان " بغير جناح" للشاعر الشاب ياسين الحراق. هو الديوان الذي حاز جائزة الإبداع الأدبي التي نظمتها القناة الثانية سنة 2016.
صدر عن دار مرسم، ويقع في ست وتسعين صفحة من الحجم المتوسط، بثلاثة عناوين، وهي: سدرة الفناء، وجذبة الظل، ونافذة أخرى، وكل عنوان يتضمن جملة من النصوص.
**
ياسين الحراق صوت شعري ذو نبرة مختلفة في مدونتنا الشعرية المعاصرة، كما يثبت ذلك عمله الشعري الذي يحمل عنوانا مثيرا للاهتمام 'بغير جناح"، ياسين صوت شعري قادم بقوة من خلال نصوصه الومضية والمقطرة بعناية وبتقتير لغوي ورحابة معنى.
الشعر بالنسبة له أفق مفتوح على المغامرة وليس قوالب جاهزة ينبغي التقيد بها لأن ذلك لن يقود إلى اكتشافات شعرية جديدة.
نصوصه تخرج من سجن القصيدة إلى رحابة الشعر، حيث إعادة اكتشاف اللغة، واستعادة صفائها الأول خارج دائرة التداول المتكرر ليثمر هذا التواصل الروحي شعرا بعيدا عن إطار القصيدة، شعرا حرا يحلق بأجنحة الخيال، حيث الاحتفاء بالإنسان، وبحرف يحلق في الأعلى وإن ظلت أقدامه ملتصقة بالأرض.
نصوصه الومضية ذات الكثافة اللغوية والعمق الفكري مكنته من أن يطير بمتعة ومن دون جناح سوى جناح الخيال الخلاق، وبأسلوب خاطف وومتع، يمزج بين عمق الفكرة وجمالية اللغة ذات البعد الصوفي.
معظم نصوص الديوان كتبت في فترة عمله، كما أخبرني في حوار خاص معه، حين كان مدرسا بأقا 2012/2014 هذا المكان المنطبع بالبعد الصوفي خاصة وأن به وليا يدعى "عبد الله بن مبارك".
بينما النصوص الخارجة عن هذا السياق فهي نصوص "حواسية" فغالبا ما كان يكتبها بعد منتصف الليل بعد أن يبتعد بدراجته النارية في الصحراء مستمتعا بأجوائها.
يقول عن عوالمه الصوفية:
حاولت بإمكنياتي المحدودة وقراءتي لعوالم التصوف أن:
أصيغ نتاجا يحاول التحرر من مسألة إعادة إنتاج القديم أي أن أضع بصمتي الصوفية الخاصة وليس نسخة من صوت الحلاج أو نسخة من صوت فريد الدين العطار أو جلال الدين الرومي ...
الكتابة الشعرية في الديوان ليست انفصاما أو معارضة للتراث الصوفي بل هي استكمال له بشكل متجانس مع واقع العصر الراهن.
وعن نص إسقاط نجمي ص47، يقول:
الإسقاط النجمي أو السفر خارج الجسد بالتحرر منه يدرجه بعض الباحثين اليوم ضمن عالم المتصوفة المقالات كثيرة عن هذا المفهوم، وما تزال إلى اليوم ظاهرة شاذة تحظى بدراسات الطب النفسي ولعل شهاب الدين السهروردي أهم متصوف اشتهر بهذا الجانب فقد روي أنه مات في سجنه بعد أن تحرر من جسده.
ثم يضيف:
تيمة التصوف في الديوان لا تقتصر على التصوف الإسلامي؛ فاستثمار التصوف مبني على المفهوم في بعده الكونني ( التصوف اليهودي، البوذية (نرفانا) الإسلامي ( العصر العباسي والأموي)
العنوان:
يستدعي عنوان الديوان "بفير جناح" كلمة تشاكله وتقوي معناه، ومن دونها يظل ضعيفا، وهش الحضور لكونه جاء شبه جملة؛ والمعروف أن شبه الجملة ضعيفة، وناقصة الحضور ولم تبلغ بعد مرتبة الجملة، وستبقى دونها رتبة وتركيبا. والكلمة التي تحتاجها، وترتبط بها ارتباطا الحبل السري أو المشيمة بالأم؛ هي التحليق. فالجناح لا معنى له إذا لم يرتبط بالتحليق لأنه ما خلق إلا ليحقق هذا البعد، وإلا صار ذا ثقل على الجسد الذي يحمله، يعرقل حركته. لكن الكلمة المضمرة تستدعي هي الأخرى كلمة تحقق بعدها وإن تضمنتها، ألا وهي فضاء التحليق، ونعني بها السماء. فلا معنى للتحليق إذا لم يتوفر له مكانه يحقق تجليه؛ ففي هذه الحالة سيكون معبرا عن الاعتقال بدل الحرية.
والبين أن العنوان اعتمد الإضمار، وترك للقارئ حرية ملء بياضاته. وبناء على ما سبق، يمكن القول إن الدلالة الأعمق التي تحملها عتبة العنوان هي الانتقال من الأسفل إلى الأعلى، بما يفيد السمو الروحي والتطهر الجسدي. وتجدر الإشارة إلى أن هذا العنوان مرحل من مقتطف لابن سيرين صدر به الديوان.
ومن هنا نفهم ما يشبه هيمنة حضور الأعلى في جملة من النصوص، منها: نص "قلب" ص10، حيث يقول:
ليس نجما
ذاك الهائم
في السماء
إنه قلبي الخافق
بين نجمتين
هاربتين.
بل إن النظر يمتد إلى ما وراء السماء، أي أن العينين ترنوان إلى ما أبعد من الأعلى إلى حيث منابع السمو والنور:
قلت:
ما بال عيني لا ترمشان
في العلياء
قال:
لعلهما ملتا عد النجوم
فترنوان إلى ما وراء السماء. ص58.
ويدخل هذا النص في حوار مع نص سابق له، يؤمن بقدرة الإنسان على الارتقاء والسمو:
أنا شاعر خرف
أومن بقدرة الأنسان
على عد النجوم
لذلك سأموت
وأنا اعد في السماء
نجمة
تلو
نجمة. ص9.
وهو يقوم يعد النجوم لا ينسى أن قلبه من ضمنها:
ليس نجما
ذاك الهائم
في السماء
إنه قلبي الخافق
بين نجمتين
هاربتين. 10
والجسد في الديوان مجرد وعاء محتضن للروح ولا قيمة له إلا إذا كان يعود لأنثى جميلة ففي هذه الحالة يعكس قوة الجمال الإلهي في الكون.
لذا، من اللازم التجرد من وعاء الطين لبلوغ الحكمة، كما جاء في قول شهاب الدين السهروردي:
نحن لا نعد حكيما
من لم يستطع أن يتجرد من بدنه حيا.
ويقول الشاعر في هذا المضمار:
أيها الخالد
فيّ
لا تدهن هذا الوعاء
بالطين
روح العالم
تفضي إليك. ص16.
هنا، تكتمل تجربة الإنصات الروحي التي انعدمت فيها كل صلة بالسوي، وتحركت الروح حركتها العلوية منفصلة عن ثوبها وغلافها الطيني، لأنها ليست منه. إذ إن الجسد الذي يخفيها لا تشابه له معها ولا سلطان له عليها. تفرق بينهما أسباب كثيرة، من بينها اختلاف التكوين والنشأة، وتباين الأصل، وتعارض النزوع والاتجاه، وإن كانت تختفي في الجسد اختفاء الطهر في الخسة، فإنها تخفي هي كذلك حقيقة الألوهية التي هي منها اختفاء أصل الطهر في الطهر. 1
نجد نفسية الشاعر المأخوذة بقبح العالم، وبالوحدة المتشوفة لأرض جديدة، تقتحم بجرأة ملذات الحب وجماله ، تناديه، وتحلم به، وتذكر تفاصيل تلك اللحظة المضيئة:
يوغل فيّ الحب
يطيل التأمل
إلى اليرقات الشازيات
يصّاعد في الضوء
يمشي الهوينا
أتراه كان معشوق سماء
أم أنه نسي
طلاسم النهاية
من فرط البداية !؟. ص66.
ويخبرنا الشاعر، في نص آخر، أن طريق العشاق وحده المضيء:
طريق الشمس
حالك
طريق القمر
حالك
وحده طريق العشاق
مضيء. ص73.
والملاحظ أن التناص مع قصة سيدنا إبراهيم تخلق لدى القارئ تماثلا بين كشف النبي وما بلغه بعد حيرته من إيمان راسخ، وبين العشاق في سمو مشاعرهم. فالعشاق كالأنبياء طريقهم مضيئة بما يعتمل في أنفسهم من مشاعر النبل والسمو.
وليس بدعا أن يستدعي، في هذا المقام، مجموعة من أعلام العشق الصوفي، يقيم معهم حوارا بناء يطبع نصوصه بخصويته المنفتحة على رحابة الحب الإلهي. وهو ما جعل الديوان يحفل بمعجمهم، حيث نجد، على سبيل المثال، لا الحصر:
الأسرار- الحيرة- قبس العشق- جبة الوجد- الخرقة- الدوران- الدراويش- الجذبة- التائهين- الأولياء...
يختار الشاعر رفقاء دربه المضيء بعناية الذائقة وشيء من الرؤيوية المضمرة..فمن هم صحب الشاعر الذين رافقوه في رحلته الشعرية نبعا وحوارا وتفاعلا؟
يفيدنا بأسمائهم من الداخل، ويبين مقتطفاتهم، ويظهر حواره معهم تعضيدا واختلافا... ومن بينهم، نجد مولانا جلال الدين الرومي، وأبو زيد البسطامي، وأبو حيان التوحيدي، وهم الأجداد المعاصرون، الذين يتجددون باستمرار، ويرحلون عبر الأزمنة وفوقها، إضافة إلى محمد الصباغ المبدع المعاصر، والقريب وجدانا وجغرافية وزمانا من الشاعر.
ونقول ما قاله رشيد أزروال عن شربل داغر في قراءته المنشورة بجريدة القدس العربي:
"لنصوص الشعرية التي أبدعها الشاعر/ المؤلف هي استحضار «الأصحاب» الأربعة، وهي أيضا تأسيس على فكرة أو توليد ومضة من المنجز الإبداعي للصحبة إياها ، ونوع من اقتسام القلق الوجودي،وسفر المخيلة في الذات وذوات الأربعة الكبار، كما هي «عدوى» القلق فهي عدوى التفكر شعريا في الأعماق وفي الممشى الذي تحفه «أوراق العشب» في وطى حوب، القرية المزهرة، قرية الانزواء الذي يحبه الشاعر. 2
يمكن اعتبار التصديرات في مطلع عدد من القاصئد كأهم مرجعيات القراءة الصوفية وتوجيها للقارئ على تأمل كيفية استثمار النص الصوفي وليس باعتباره تكثيفا يتمخض عنه النص ويولد.
لكن منابع شعره لا تقتصر على هؤلاء، فقط، بل نجد منبعا آخر يستقي منه، ألا وهو القرآن الكريم، يتدعي بعض نصوصه ليقيم معها حوار عميقا منفتح الأبعاد والدلالات، فنجده، مثلا، يستدعي قصة سيدنا يوسف حين خرج على النسوة فقطعن أيديهن في نصه "قطوف" ص53:
النسوة قطعن أيديهن
في فانوس شجرة
يدندن
لحن أغنية
أيديهن
تدرع الضوء.
ما يستدعي قصة قابيل وهابيل ودور الغراب في مواراة جثة القتيل، في نصه "قطوف" ص52:
...
كيف جنى غراب صريع
على هابيل التراب !؟.
حساسية الشاعر المرهفة بالأشياء مكنته، هنا، وفي نصوص أخرى، من أن يكون مغامراً، ليخوض غمار تجربة صعبة جعلته بدورها قادراً على بناء نصوصه بشكل مختلف بواسطة حدوسه ومشاعره الرقيقة.
نستخلص من هذا أنّ المعانى المبطنة بالصور المعبرة والرموز الإيحائية الكثيفة تشعر القارئ بالدهشة التي تتأتى من جماليات اللغة. فمن يروم قراءة نصوص الشاعر يا سين الحراق، عليه أن يتأمل الكلمة مراراً قبل أن يصل إلى سبر أغوارها.
**
1_ محمد بنعمارة الاثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر شركة النشر والتوزيع- المدارس- الدار البيضاء الطبعة الاولى سنة 2001 ص 40.
2_ رشيد أزرويل، التجارب المضيئة صحبة شربل داغر، القدس العربي.
صدر عن دار مرسم، ويقع في ست وتسعين صفحة من الحجم المتوسط، بثلاثة عناوين، وهي: سدرة الفناء، وجذبة الظل، ونافذة أخرى، وكل عنوان يتضمن جملة من النصوص.
**
ياسين الحراق صوت شعري ذو نبرة مختلفة في مدونتنا الشعرية المعاصرة، كما يثبت ذلك عمله الشعري الذي يحمل عنوانا مثيرا للاهتمام 'بغير جناح"، ياسين صوت شعري قادم بقوة من خلال نصوصه الومضية والمقطرة بعناية وبتقتير لغوي ورحابة معنى.
الشعر بالنسبة له أفق مفتوح على المغامرة وليس قوالب جاهزة ينبغي التقيد بها لأن ذلك لن يقود إلى اكتشافات شعرية جديدة.
نصوصه تخرج من سجن القصيدة إلى رحابة الشعر، حيث إعادة اكتشاف اللغة، واستعادة صفائها الأول خارج دائرة التداول المتكرر ليثمر هذا التواصل الروحي شعرا بعيدا عن إطار القصيدة، شعرا حرا يحلق بأجنحة الخيال، حيث الاحتفاء بالإنسان، وبحرف يحلق في الأعلى وإن ظلت أقدامه ملتصقة بالأرض.
نصوصه الومضية ذات الكثافة اللغوية والعمق الفكري مكنته من أن يطير بمتعة ومن دون جناح سوى جناح الخيال الخلاق، وبأسلوب خاطف وومتع، يمزج بين عمق الفكرة وجمالية اللغة ذات البعد الصوفي.
معظم نصوص الديوان كتبت في فترة عمله، كما أخبرني في حوار خاص معه، حين كان مدرسا بأقا 2012/2014 هذا المكان المنطبع بالبعد الصوفي خاصة وأن به وليا يدعى "عبد الله بن مبارك".
بينما النصوص الخارجة عن هذا السياق فهي نصوص "حواسية" فغالبا ما كان يكتبها بعد منتصف الليل بعد أن يبتعد بدراجته النارية في الصحراء مستمتعا بأجوائها.
يقول عن عوالمه الصوفية:
حاولت بإمكنياتي المحدودة وقراءتي لعوالم التصوف أن:
أصيغ نتاجا يحاول التحرر من مسألة إعادة إنتاج القديم أي أن أضع بصمتي الصوفية الخاصة وليس نسخة من صوت الحلاج أو نسخة من صوت فريد الدين العطار أو جلال الدين الرومي ...
الكتابة الشعرية في الديوان ليست انفصاما أو معارضة للتراث الصوفي بل هي استكمال له بشكل متجانس مع واقع العصر الراهن.
وعن نص إسقاط نجمي ص47، يقول:
الإسقاط النجمي أو السفر خارج الجسد بالتحرر منه يدرجه بعض الباحثين اليوم ضمن عالم المتصوفة المقالات كثيرة عن هذا المفهوم، وما تزال إلى اليوم ظاهرة شاذة تحظى بدراسات الطب النفسي ولعل شهاب الدين السهروردي أهم متصوف اشتهر بهذا الجانب فقد روي أنه مات في سجنه بعد أن تحرر من جسده.
ثم يضيف:
تيمة التصوف في الديوان لا تقتصر على التصوف الإسلامي؛ فاستثمار التصوف مبني على المفهوم في بعده الكونني ( التصوف اليهودي، البوذية (نرفانا) الإسلامي ( العصر العباسي والأموي)
العنوان:
يستدعي عنوان الديوان "بفير جناح" كلمة تشاكله وتقوي معناه، ومن دونها يظل ضعيفا، وهش الحضور لكونه جاء شبه جملة؛ والمعروف أن شبه الجملة ضعيفة، وناقصة الحضور ولم تبلغ بعد مرتبة الجملة، وستبقى دونها رتبة وتركيبا. والكلمة التي تحتاجها، وترتبط بها ارتباطا الحبل السري أو المشيمة بالأم؛ هي التحليق. فالجناح لا معنى له إذا لم يرتبط بالتحليق لأنه ما خلق إلا ليحقق هذا البعد، وإلا صار ذا ثقل على الجسد الذي يحمله، يعرقل حركته. لكن الكلمة المضمرة تستدعي هي الأخرى كلمة تحقق بعدها وإن تضمنتها، ألا وهي فضاء التحليق، ونعني بها السماء. فلا معنى للتحليق إذا لم يتوفر له مكانه يحقق تجليه؛ ففي هذه الحالة سيكون معبرا عن الاعتقال بدل الحرية.
والبين أن العنوان اعتمد الإضمار، وترك للقارئ حرية ملء بياضاته. وبناء على ما سبق، يمكن القول إن الدلالة الأعمق التي تحملها عتبة العنوان هي الانتقال من الأسفل إلى الأعلى، بما يفيد السمو الروحي والتطهر الجسدي. وتجدر الإشارة إلى أن هذا العنوان مرحل من مقتطف لابن سيرين صدر به الديوان.
ومن هنا نفهم ما يشبه هيمنة حضور الأعلى في جملة من النصوص، منها: نص "قلب" ص10، حيث يقول:
ليس نجما
ذاك الهائم
في السماء
إنه قلبي الخافق
بين نجمتين
هاربتين.
بل إن النظر يمتد إلى ما وراء السماء، أي أن العينين ترنوان إلى ما أبعد من الأعلى إلى حيث منابع السمو والنور:
قلت:
ما بال عيني لا ترمشان
في العلياء
قال:
لعلهما ملتا عد النجوم
فترنوان إلى ما وراء السماء. ص58.
ويدخل هذا النص في حوار مع نص سابق له، يؤمن بقدرة الإنسان على الارتقاء والسمو:
أنا شاعر خرف
أومن بقدرة الأنسان
على عد النجوم
لذلك سأموت
وأنا اعد في السماء
نجمة
تلو
نجمة. ص9.
وهو يقوم يعد النجوم لا ينسى أن قلبه من ضمنها:
ليس نجما
ذاك الهائم
في السماء
إنه قلبي الخافق
بين نجمتين
هاربتين. 10
والجسد في الديوان مجرد وعاء محتضن للروح ولا قيمة له إلا إذا كان يعود لأنثى جميلة ففي هذه الحالة يعكس قوة الجمال الإلهي في الكون.
لذا، من اللازم التجرد من وعاء الطين لبلوغ الحكمة، كما جاء في قول شهاب الدين السهروردي:
نحن لا نعد حكيما
من لم يستطع أن يتجرد من بدنه حيا.
ويقول الشاعر في هذا المضمار:
أيها الخالد
فيّ
لا تدهن هذا الوعاء
بالطين
روح العالم
تفضي إليك. ص16.
هنا، تكتمل تجربة الإنصات الروحي التي انعدمت فيها كل صلة بالسوي، وتحركت الروح حركتها العلوية منفصلة عن ثوبها وغلافها الطيني، لأنها ليست منه. إذ إن الجسد الذي يخفيها لا تشابه له معها ولا سلطان له عليها. تفرق بينهما أسباب كثيرة، من بينها اختلاف التكوين والنشأة، وتباين الأصل، وتعارض النزوع والاتجاه، وإن كانت تختفي في الجسد اختفاء الطهر في الخسة، فإنها تخفي هي كذلك حقيقة الألوهية التي هي منها اختفاء أصل الطهر في الطهر. 1
نجد نفسية الشاعر المأخوذة بقبح العالم، وبالوحدة المتشوفة لأرض جديدة، تقتحم بجرأة ملذات الحب وجماله ، تناديه، وتحلم به، وتذكر تفاصيل تلك اللحظة المضيئة:
يوغل فيّ الحب
يطيل التأمل
إلى اليرقات الشازيات
يصّاعد في الضوء
يمشي الهوينا
أتراه كان معشوق سماء
أم أنه نسي
طلاسم النهاية
من فرط البداية !؟. ص66.
ويخبرنا الشاعر، في نص آخر، أن طريق العشاق وحده المضيء:
طريق الشمس
حالك
طريق القمر
حالك
وحده طريق العشاق
مضيء. ص73.
والملاحظ أن التناص مع قصة سيدنا إبراهيم تخلق لدى القارئ تماثلا بين كشف النبي وما بلغه بعد حيرته من إيمان راسخ، وبين العشاق في سمو مشاعرهم. فالعشاق كالأنبياء طريقهم مضيئة بما يعتمل في أنفسهم من مشاعر النبل والسمو.
وليس بدعا أن يستدعي، في هذا المقام، مجموعة من أعلام العشق الصوفي، يقيم معهم حوارا بناء يطبع نصوصه بخصويته المنفتحة على رحابة الحب الإلهي. وهو ما جعل الديوان يحفل بمعجمهم، حيث نجد، على سبيل المثال، لا الحصر:
الأسرار- الحيرة- قبس العشق- جبة الوجد- الخرقة- الدوران- الدراويش- الجذبة- التائهين- الأولياء...
يختار الشاعر رفقاء دربه المضيء بعناية الذائقة وشيء من الرؤيوية المضمرة..فمن هم صحب الشاعر الذين رافقوه في رحلته الشعرية نبعا وحوارا وتفاعلا؟
يفيدنا بأسمائهم من الداخل، ويبين مقتطفاتهم، ويظهر حواره معهم تعضيدا واختلافا... ومن بينهم، نجد مولانا جلال الدين الرومي، وأبو زيد البسطامي، وأبو حيان التوحيدي، وهم الأجداد المعاصرون، الذين يتجددون باستمرار، ويرحلون عبر الأزمنة وفوقها، إضافة إلى محمد الصباغ المبدع المعاصر، والقريب وجدانا وجغرافية وزمانا من الشاعر.
ونقول ما قاله رشيد أزروال عن شربل داغر في قراءته المنشورة بجريدة القدس العربي:
"لنصوص الشعرية التي أبدعها الشاعر/ المؤلف هي استحضار «الأصحاب» الأربعة، وهي أيضا تأسيس على فكرة أو توليد ومضة من المنجز الإبداعي للصحبة إياها ، ونوع من اقتسام القلق الوجودي،وسفر المخيلة في الذات وذوات الأربعة الكبار، كما هي «عدوى» القلق فهي عدوى التفكر شعريا في الأعماق وفي الممشى الذي تحفه «أوراق العشب» في وطى حوب، القرية المزهرة، قرية الانزواء الذي يحبه الشاعر. 2
يمكن اعتبار التصديرات في مطلع عدد من القاصئد كأهم مرجعيات القراءة الصوفية وتوجيها للقارئ على تأمل كيفية استثمار النص الصوفي وليس باعتباره تكثيفا يتمخض عنه النص ويولد.
لكن منابع شعره لا تقتصر على هؤلاء، فقط، بل نجد منبعا آخر يستقي منه، ألا وهو القرآن الكريم، يتدعي بعض نصوصه ليقيم معها حوار عميقا منفتح الأبعاد والدلالات، فنجده، مثلا، يستدعي قصة سيدنا يوسف حين خرج على النسوة فقطعن أيديهن في نصه "قطوف" ص53:
النسوة قطعن أيديهن
في فانوس شجرة
يدندن
لحن أغنية
أيديهن
تدرع الضوء.
ما يستدعي قصة قابيل وهابيل ودور الغراب في مواراة جثة القتيل، في نصه "قطوف" ص52:
...
كيف جنى غراب صريع
على هابيل التراب !؟.
حساسية الشاعر المرهفة بالأشياء مكنته، هنا، وفي نصوص أخرى، من أن يكون مغامراً، ليخوض غمار تجربة صعبة جعلته بدورها قادراً على بناء نصوصه بشكل مختلف بواسطة حدوسه ومشاعره الرقيقة.
نستخلص من هذا أنّ المعانى المبطنة بالصور المعبرة والرموز الإيحائية الكثيفة تشعر القارئ بالدهشة التي تتأتى من جماليات اللغة. فمن يروم قراءة نصوص الشاعر يا سين الحراق، عليه أن يتأمل الكلمة مراراً قبل أن يصل إلى سبر أغوارها.
**
1_ محمد بنعمارة الاثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر شركة النشر والتوزيع- المدارس- الدار البيضاء الطبعة الاولى سنة 2001 ص 40.
2_ رشيد أزرويل، التجارب المضيئة صحبة شربل داغر، القدس العربي.