-1-
المرأة سر الوجود، المشتهى والمبغى رحمها بحر وحضنها بيت الإنسان.
سأنشر نشيدي عنها مقطعا مقطعا بقصتي -عشتار العراقية-
ـ يا حبيبي أحنه في حكاية من ألف ليلة وليلة!.
قالتها، وعيناها اللامعتان منشغلتان عني بالسقف الخفيض المغطى بلوحات محشودة بالجواري والمغنين والراقصات المتطوحات وكأنهن سيسقطن بعد لحظة في أحضان الرواد.
كنتُ مذهولاً ممتلئاً بها، وبالعكس تماماً من مخاوفها أخذتها تلك الليلة إلى مطعمٍ منزوٍ. كانت ترتدي بدلتها الترابية الضيقة حد الوركين، الفضفاضة خلف الربوة المتماسكة اللدنة. هبطنا في عالمٍ آخر حال عبورنا العتبة، توقفنا لبرهة مسحورين بمزيج الأضواء الخافتة التي تسقط من أركان غير مرئية وكأنها ظلال ألوان في لوحةٍ، تتخايلُ وسطَ بحرٍ من الشمعداناتِ الموزعة على طاولات صغيرة مرتبة بطريقة تجعل من المكان حميماً ونائياً بنفس اللحظة. اصطحبنا النادل الأنيق إلى طاولة متطرفة اختارتها، جلست في زاوية تتيح لها رؤية أركان المطعم، وتركتني بمواجهتها مزدانة الجوانب، بمشاكي الجدران الناثرة رذاذاً ملوناً خافتاً من أضواء ينتشر من باطنها دون رؤية مصدر النور، نوافذ عمياء صغيرة درفاتها ملونة نصف مفتوحة على عمق أزرق كأنه فضاء نهارٍ صيفي رائق، كانت أمامي مبهورة تحدق بعينيها الواسعتين المندهشتين في أرجاء المكان بينما أبحر في مزيج الأضواء الرائع المنعكس في سوادهما المتلألئ. في فسحة الصمت التي استطالت كنتُ أمسح بعيني الشغوفتين نحول كتفيها العاريين، عنقها الأتلع ولون مهبطه الأشد سمره، وما يكشفه الزيق المخّروم من تدوير الثديين الصغيرين اللذين بديا لشّدة طلاوتهما وكأنهما مطليان بزيتِ الزيتون الخالص.
كنت كمن أمسك حلمه صاغراً مندهشاً مسحوراً.
هاهي الجنية التي بحثتُ عنها منذُ الطفولة متجليةً أمامي بلونها الخمري وثوبها الترابي المتشرب بمزيج الأضواء.. هاهي من كنتُ أحلم بها وأنا أغفو في باحات الجوامع، أفياء النخيل، على ضفاف سواقي الحقول الصغيرة، وفي وحدتي بين أكداس الخشب في دكان خالي النجار.. المرأة التي ستستحيل مع غرقي في بحور الكتب إلى كيان لا تحقق له إلا في مخيلة جامحة تصوغ من أساطير الحب القديمة السومرية والفرعونية وحكايات ألف ليلة وليلة تفاصيل الأنوثة المطلقة، بحيث أصبحت هش القلب أتعلق بكل جميلة تخطف أمام ناظري، فدخلت في قصص حب خاطفة أبكتني كثيراً وأنا أخيب في العثور على امرأة أحلامي بينهن. هاهي الأصل عشتاريَّ العراقية تنبثقُ من جديد بحلتها الترابية وسمرتها الخمرية وشرود عينيها وكأنها لا تعرفني. قلتُ لها هامساً:
ـ حبي.. حبي.. وين وصلتي؟!.
ألتفت نحوي مثل من يستيقظ لتوه من حلمٍ. افترستني بعينيها الجريئتين وقالت:
ـ أريد أن أسكر هذي الليلة!.
لا أدري ماذا أصابني فقد فاجأتني حقاً. ارتبكت حقاً من مزيج نشوة بعثته فكرة أن أراها سكرانة وخوف من تجليات عشتاريَّ البرية في ضباب السكر، فهي دون شربٍ تفعل الأعاجيب ما أن تنفرد بيَّ، فكيف بها إذا أخذها الخمر إلى حدود السيل، خفتُ أن يجرفني، يلقي بيَّ على جرف رطبٍ منهكاً ويسدر بعيداً نحو الآخرين. طفح ارتباكي مما جعلها تتساءل:
ـ أش بيك يا حبيبي.. عندك مانع؟!.
قبل أن أتمالك نفسي وأجيب أردفت:
ـ إذا ما تقبل.. فلا داعي.. فأنا لم أذق طعم الخمر في عمري!.
وجدتني أهتف من أعماقي، حالماً بمرآها مخمورة، متخلصةً، من بقايا أسوارها الواهية أصلاً:
ـ ليس لدي مانع
وناديت على النادل. تألقت ملامحها بوهج الرغبة السابقة لنهل الخمر، وابتسمتْ تلك البسمة الفاتنة التي لا تُظْهِرْ سوى سنيها الأماميين العلويين البارزين بروزاً خفيفاً يضفي على شكلها المزيد من السحر، والمتفارقين بشقٍ معتمٍ يزيد من توهج بياضهما الناصع وكأنه إطار لحبتي لؤلؤ.
أقبلتْ على كأسها المترع بالنبيذ الأصفر المترقرق في محيط الزجاج الشفاف بعد أن مست بحافته كأسي فرنَّ في هدوء المطعم.. في حيرتي، وسحبت ذراعها العارية نحو شفتيها المطليتين بلون وردي خفيف جعلني النهل منهما أذوق طعم الماء الأول المرتشف بعد فعل الخلق. رشفتْ مقدار قطرة. أبعدت الكأس مسافةً. ورمتني من تحت أهدابها الفاحمة بنظرة فاحصةٍ. كنتُ مأخوذاً بأرستقراطية رشفتها الملكية ذاهباً إلى العمق.. إلى التراب والفرات حيث نشأنا جوار مدينة نفر السومرية.
ـ أتكون روح عشتار قد حلتْ بروح محبوبتي الجالسة قبالتي بترابها المطلي بزيت الزيتون، وملامحها البرونزية المتراقصة في خافت أضواء شموع الطاولة والفوانيس المثبتة على أعمدة القاعة خفيضة السقف؟!.
ـ أأكون أنا دموزي زوجها الذي انتقته دون كل عشاقها؟!.
ـ أسوف أنتهي إلى نفس المصير؟!.
أرعدني الخاطر فانتفضتُ متشبثاً بكأسي.
ـ أش بيك يا عيني؟!.
قالتها معاودةً نفس ابتسامتها، سَبتني، فرحتُ أنهج قبل أن أقول:
ـ يا لسحرك.. يا لفتنتكِ!.
تضرج وجهها بالنشوة فأخذتها إلى قمة ليس بعدها علو، واتسعت ضحكتها الصامتة فأعطت إيقاعاً أخر لا يوصف للقسمات المتناغمة.
ـ ألم أكن وقتها كائناً صاغته الكتب والقراءات والعزلة في غرفة؟!
ـ ألم أكن أضفي على كيانها الجالس أمامي ما ليس فيه؟..
بعد عشرين عاماً سوف أتيقن من هذا وأنا أكتشف أنني أضفى على واحدة عابرة في مقهى ما أضفيته عليها في ذلك المطعم البعيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من مجموعة قصص بعنوان - قالت لي - ستصدر في القاهرة
المرأة سر الوجود، المشتهى والمبغى رحمها بحر وحضنها بيت الإنسان.
سأنشر نشيدي عنها مقطعا مقطعا بقصتي -عشتار العراقية-
ـ يا حبيبي أحنه في حكاية من ألف ليلة وليلة!.
قالتها، وعيناها اللامعتان منشغلتان عني بالسقف الخفيض المغطى بلوحات محشودة بالجواري والمغنين والراقصات المتطوحات وكأنهن سيسقطن بعد لحظة في أحضان الرواد.
كنتُ مذهولاً ممتلئاً بها، وبالعكس تماماً من مخاوفها أخذتها تلك الليلة إلى مطعمٍ منزوٍ. كانت ترتدي بدلتها الترابية الضيقة حد الوركين، الفضفاضة خلف الربوة المتماسكة اللدنة. هبطنا في عالمٍ آخر حال عبورنا العتبة، توقفنا لبرهة مسحورين بمزيج الأضواء الخافتة التي تسقط من أركان غير مرئية وكأنها ظلال ألوان في لوحةٍ، تتخايلُ وسطَ بحرٍ من الشمعداناتِ الموزعة على طاولات صغيرة مرتبة بطريقة تجعل من المكان حميماً ونائياً بنفس اللحظة. اصطحبنا النادل الأنيق إلى طاولة متطرفة اختارتها، جلست في زاوية تتيح لها رؤية أركان المطعم، وتركتني بمواجهتها مزدانة الجوانب، بمشاكي الجدران الناثرة رذاذاً ملوناً خافتاً من أضواء ينتشر من باطنها دون رؤية مصدر النور، نوافذ عمياء صغيرة درفاتها ملونة نصف مفتوحة على عمق أزرق كأنه فضاء نهارٍ صيفي رائق، كانت أمامي مبهورة تحدق بعينيها الواسعتين المندهشتين في أرجاء المكان بينما أبحر في مزيج الأضواء الرائع المنعكس في سوادهما المتلألئ. في فسحة الصمت التي استطالت كنتُ أمسح بعيني الشغوفتين نحول كتفيها العاريين، عنقها الأتلع ولون مهبطه الأشد سمره، وما يكشفه الزيق المخّروم من تدوير الثديين الصغيرين اللذين بديا لشّدة طلاوتهما وكأنهما مطليان بزيتِ الزيتون الخالص.
كنت كمن أمسك حلمه صاغراً مندهشاً مسحوراً.
هاهي الجنية التي بحثتُ عنها منذُ الطفولة متجليةً أمامي بلونها الخمري وثوبها الترابي المتشرب بمزيج الأضواء.. هاهي من كنتُ أحلم بها وأنا أغفو في باحات الجوامع، أفياء النخيل، على ضفاف سواقي الحقول الصغيرة، وفي وحدتي بين أكداس الخشب في دكان خالي النجار.. المرأة التي ستستحيل مع غرقي في بحور الكتب إلى كيان لا تحقق له إلا في مخيلة جامحة تصوغ من أساطير الحب القديمة السومرية والفرعونية وحكايات ألف ليلة وليلة تفاصيل الأنوثة المطلقة، بحيث أصبحت هش القلب أتعلق بكل جميلة تخطف أمام ناظري، فدخلت في قصص حب خاطفة أبكتني كثيراً وأنا أخيب في العثور على امرأة أحلامي بينهن. هاهي الأصل عشتاريَّ العراقية تنبثقُ من جديد بحلتها الترابية وسمرتها الخمرية وشرود عينيها وكأنها لا تعرفني. قلتُ لها هامساً:
ـ حبي.. حبي.. وين وصلتي؟!.
ألتفت نحوي مثل من يستيقظ لتوه من حلمٍ. افترستني بعينيها الجريئتين وقالت:
ـ أريد أن أسكر هذي الليلة!.
لا أدري ماذا أصابني فقد فاجأتني حقاً. ارتبكت حقاً من مزيج نشوة بعثته فكرة أن أراها سكرانة وخوف من تجليات عشتاريَّ البرية في ضباب السكر، فهي دون شربٍ تفعل الأعاجيب ما أن تنفرد بيَّ، فكيف بها إذا أخذها الخمر إلى حدود السيل، خفتُ أن يجرفني، يلقي بيَّ على جرف رطبٍ منهكاً ويسدر بعيداً نحو الآخرين. طفح ارتباكي مما جعلها تتساءل:
ـ أش بيك يا حبيبي.. عندك مانع؟!.
قبل أن أتمالك نفسي وأجيب أردفت:
ـ إذا ما تقبل.. فلا داعي.. فأنا لم أذق طعم الخمر في عمري!.
وجدتني أهتف من أعماقي، حالماً بمرآها مخمورة، متخلصةً، من بقايا أسوارها الواهية أصلاً:
ـ ليس لدي مانع
وناديت على النادل. تألقت ملامحها بوهج الرغبة السابقة لنهل الخمر، وابتسمتْ تلك البسمة الفاتنة التي لا تُظْهِرْ سوى سنيها الأماميين العلويين البارزين بروزاً خفيفاً يضفي على شكلها المزيد من السحر، والمتفارقين بشقٍ معتمٍ يزيد من توهج بياضهما الناصع وكأنه إطار لحبتي لؤلؤ.
أقبلتْ على كأسها المترع بالنبيذ الأصفر المترقرق في محيط الزجاج الشفاف بعد أن مست بحافته كأسي فرنَّ في هدوء المطعم.. في حيرتي، وسحبت ذراعها العارية نحو شفتيها المطليتين بلون وردي خفيف جعلني النهل منهما أذوق طعم الماء الأول المرتشف بعد فعل الخلق. رشفتْ مقدار قطرة. أبعدت الكأس مسافةً. ورمتني من تحت أهدابها الفاحمة بنظرة فاحصةٍ. كنتُ مأخوذاً بأرستقراطية رشفتها الملكية ذاهباً إلى العمق.. إلى التراب والفرات حيث نشأنا جوار مدينة نفر السومرية.
ـ أتكون روح عشتار قد حلتْ بروح محبوبتي الجالسة قبالتي بترابها المطلي بزيت الزيتون، وملامحها البرونزية المتراقصة في خافت أضواء شموع الطاولة والفوانيس المثبتة على أعمدة القاعة خفيضة السقف؟!.
ـ أأكون أنا دموزي زوجها الذي انتقته دون كل عشاقها؟!.
ـ أسوف أنتهي إلى نفس المصير؟!.
أرعدني الخاطر فانتفضتُ متشبثاً بكأسي.
ـ أش بيك يا عيني؟!.
قالتها معاودةً نفس ابتسامتها، سَبتني، فرحتُ أنهج قبل أن أقول:
ـ يا لسحرك.. يا لفتنتكِ!.
تضرج وجهها بالنشوة فأخذتها إلى قمة ليس بعدها علو، واتسعت ضحكتها الصامتة فأعطت إيقاعاً أخر لا يوصف للقسمات المتناغمة.
ـ ألم أكن وقتها كائناً صاغته الكتب والقراءات والعزلة في غرفة؟!
ـ ألم أكن أضفي على كيانها الجالس أمامي ما ليس فيه؟..
بعد عشرين عاماً سوف أتيقن من هذا وأنا أكتشف أنني أضفى على واحدة عابرة في مقهى ما أضفيته عليها في ذلك المطعم البعيد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* من مجموعة قصص بعنوان - قالت لي - ستصدر في القاهرة