محمد شمخ - مواطن.. قصة قصيرة

أمسك ذراعى ،استوقفنى ..
- أوراقك ؟
وجهُه مثل حجرٍ مدببٍ، حُفِرت فيه عينان وأنفٌ وخطٌ غليظٌ .
شدّنى منظُر الحفرتين ؛ فلم أنطق..
- أوراقك ياأخ ؟
- أوراقى ! ؟ "
كرر ضاغطاً على الحروف:
- أو ..را..قك، بسرعة .
- شرطة؟ "
هزّ الحجرُ المدببُ نفسَه .
فتشتُ فى جيوبي، وعينا الحجر تتابعاني؛ ارتبكتُ .
- بصراحة الأوراق ليست..
ولم أكمل ، أخدنى هو وآخرٌ معه ، ومشيا بى . حاولت أن أفسر لهما ،دونَ فائدةٍ ، لم يردا علىّ. سألت نفسى :
ماذا فعلتْ ؟ تَذكّر ... حاول أن تتذكرَ جيدًا .
كنتَ تترنح وأنت تمشى ؟
كنتُ متعباً – أى والله صحيح – ودائخًا جداً ، لدرجة أن عينىّ غربتا فى النوم وأنا أمشى ..
لكنك كنتَ ترقبُ الحسناواتِ،وتتأرجح عيناك على خصورهن، وتتزالق فوق السيقان الممتلئة ..
صحيح ، هي الأنوارُ ، أنوارُ المحالِ والسياراتِ والمصابيح الساطعةِ تجعلـك ترقب حتى طوب الأرض ..
هل عرف الرجلان ما كان يدور في صدرك ؟ !
معقول !؟
أيكون التقدمُ وصل بهم إلى أن يعرفوا ما فى نفوسنا ؟ !
إذن يجب أن تعترف..
ولكن بأي شيء تعترف ؟ !
وماذا كان يدور في صدرك ؟ !
لاشيء ، صحيح لاشيء..
أيةُ جريمةٍ إذن أنا متهمٌ بها ؟ !
الأوراق !؟
لم يتركنى لأشرح له ..
أتكون مكيدةً ؟ مكيدة ؟!
صحيح ممكن .
ولكن مكيدةُ مِمَن ؟!
لم أغضبْ أحدًا اليوم ، ولا أمس ، ولا من قبل ..
صحيح والله ،فأنا مسالمٌ مع الجميع..
قطع تفكيرى أن دخل الرجلان بى قسمَ الشرطةِ ، وأوقفانى أمام الضابطِ النوبتجى الذى كان جالسًا خلفَ مكتبه، منزلقًا بجسده على المقعد حتى بانت ركبتاه من تحت مُقدمة المكتب، وبدلته الرسمية مكرمشة عليه ،مفتوحة الأزرار العُليا، تظهر شُعيرات فى صدره سوداء. بينما وجهه يختفى تحت منديلٍ مبللٍ، فلم يظهرْ غير مقدمة رأسه ، وفيها شعرٌ قصيرٌ، عبثت فيه على ما يبدو أصابعُه .
شددتُ أنفاسى كأنما من جدارٍ أسمنتيّ ، وعيناى تدوران فى المكان، بين اللوحاتِ، والكئوسِ التذكاريةِ، وشهادات التقدير، والملفات، وسِلال القمامة، وقطع الأنتريه المزركش، والأبخرة المتصاعدة من فنجان قهوة فوق المكتب .
أزاح الضابط النوبتجى المنديل من على وجهه، بدا عابسًا ،حليقَ اللحيةِ، وليس به أى شواربٍ ،عيناه قريبتان من عينىّ النمر.
نظر ناحيتى، ومال بجسده إلى الأمام. أمسك أذنَ الفنجان،
وسألنى بصوتٍ ناعسٍ ملولٍ:
- اسمك..؟
- أنا..أنا اسمي
سمعتُ صوتَ صفعةٍ ، هوت على قفا كأنه قفاي .
امتلأ صدري بجزعٍ ، ورغبتُ فى البكاء.
رشفَ وجهَ القهوةِ ثم قال بنفس الصوت :
- معك أوراق..؟
وقبل أن أنطق بحرفٍ كانت أكُفُّ الرجلين في كلِّ جيوبي تفتش، وتقلّب ،حتى بانَ بياضُ الجيوب، ثم تقدمَا ووضعَا أمامَ الضابطِ بريزةً ، وحباتَ لبٍ أبيضٍ ، ولفافةً كنت في الصباح دسستُ بها بقيةَ الساندويتش الذي أعدته لي زوجتي، وورقةً كانت متكورةً وملتصقةً بأحد جيوبى، اتضح لمَّا فكّها الضابطُ أنها رُبعَ جنيهٍ غُسِل من قبل مع البنطلون :
- كلُّ ما معه يا أفندم .
لعبتْ أصابعه في حَبّاتِ اللُّب وهزَّ رأسه:
- ليس معك أوراق ؟
-معي ،واللهَِ معي .
- أينَ هي ؟
- فى الـ.. فى البيت .
- همم.. وتهزر أيضًا .
- أبدًا واللهِ يا أفندم هى فى البيت صحيح..
- فى البيت ؟!وماذا تفعل الأوراق فى البيت ..
- لاشىء .. لاشيء، ولكني كنتُ مُستعجلاَّ في الصباح ، وخرجت ونسيتها.. هذه والله أولُ مرةٍ تحدثُ لي .. صحيح والله يا افندم ..وتاهت عن عقلى طوالَ النهارِ فلم أتذكرها.. ليتنى كنتُ تذكرتها، كنتُ واللهِ رجعتُ فورًا إلى البيت وأخذتها ..أنا لاأخرج أبدًا بدونها ..وهذه المرة نسيت، والله صدقنى ياأفندم ..طيران أحضرها لسعادتكم ، غمضةُ عينٍ وأكونُ هنا..
قاطعنى دوىٌّ فى المكان ، اعتقدت بشكلٍ كبيرٍ فى هذه المرةِ أنه لشيء اصطدم بى ؛ كفٌّ هو أم قدم؟ صفعةٌ تلك أم ركلةٌ؟ لم يمهلني لأؤكد..
- بيتك قريب إذن من هنا..؟
أجبتُ بصوت مخنوق، وأنا أصغى لكل هزة صوت، وأمط سمعى إلى كل ما حولى وإلى الرجلين من خلفى: نعم
- قريب ،همم..أين؟
- فى آخر الشارع، فركة كعب والله ، ممكن سعادتكم تشوفه من هنا.
داخت عينى فى المكان، فلم تجد غير نافذة وحيدة مفتوحة ،عليها قضبان من الحديد. حاولت الاقتراب منها . شدتنى قبضات الرجلين:
- صدقنى يافندم.. بيتٌ قديمٌ متهدمٌ،كان..
برقت عيناه فىّ، سكت.
مال إلى الأمام قليلاََّ ثم قال:
- تعرف معنى خروجك بدون أوراق شخصية؟
- حماقةٌ يافندم ، جنون..
- فى القانون ياغبى .. تعرف؟
- يافندم أعرف أشياءَ كثيرةً، أى والله صحيح.. أعرف الكتابةَ على الآلة ، أعرف أماكن الملفات على الأرفف،أعرف زملائى واحدًا واحدًا وبأسمائهم الثلاثية، وأحفظ عن ظهر قلب - أى والله صحيح- درجاتِ السُلَّم الوظيفى وصيغة الإذن من العمل والأجازة المرضية ، وأعرف أسماء الوزراء جيدًا، ولاعبي المنتخب القومي، وأرقامَ الأتوبيسات التي تمُّر أمام بيتى، وأكثر من ذلك يافندم، أستطيع أن أفرق إن كانت أقراصُ الطعمية بزيتٍ؟ أم بسمنٍ؟ وإن كانت ملفوفةً بأوراقِ الأهرام؟ أم الأخبار ؟..وأعرف أيضًا سهرات التليفزيون بأيامها ولياليها أي والله يافندم أعرف الكثير أمّا تلك..
حرّك شفتيه بآخر رشفةٍ من قهوته وقال:
- أنا أقول لك ، تنص مواد القانون فى مثل هذه الحالات بأن على الشخص- الذي هو أنت - أن يقدِّم ما يثبت شخصه وسِنه ومحل إقامته وعمله - إن كان له عمل - وحيث إنك لم تقدم شيئًا من هذا وليست معك أى أوراق، تظل هنا حتى إثبات شخصك.
- عين العقل يافندم،وأستحق الشنق أيضا أي والله صحيح.. لكن يافندم، ضع سعادتكم مكاني.. صحوت مع الفجر، فطرت نصف إفطار، سريعًا سريعًا.. ونزلت بالأولاد إلى مدارسهم، ثم اشتريت بودرةَ غسيلٍ، ورجعت بها لزوجتي، ثم جريت إلى العمل ، أي واللهِ جريت ..وصلت فى الموعد ،وظللت أعمل طوال الوقت فالمدير رجلٌ حازمٌ ..يسبُّ ويصرخ كثيرًا ،لكنه رجلٌ طيبٌ لا أغضب منه مطلقًا ،رجلٌ عظيمٌ ، لايختلف عن سعادتكم ، أى والله يافندم.. زملائى فى العمل يقولون إنني أرتعش منه ، ماذا فى ذلك! السادة لهم مكانتهم ، والعين لاتعلو الحاجب، تصور سعادتكم ، لو علت الحاجب ماذا يحدث ؟! - صوتُ صفعةٍ – سأختصر سأختصر .. ، في الموعد انصرفت إلى البيت ، حملت لزوجتي السطل بالغسيل إلى البلكونة، ثم عدت بعد الغدا إلى العمل، كانت هناك بعض الأوراق يجب أن أنتهى منها ، المدير أصرًّ على ذلك وظللت أعمل، أنا لاأزهق من العمل أبدًا ، أي والله يافندم، وأنسى نفسي وأنا أعمل، أى والله ، أما أوراقى فلا أنساها مطلقًا، دائمًا معي – صوتُ صفعةٍ – صدقني يافندم ..لاأعرف كيف نسيتها اليوم..كنت مستعجلا وزوجتي تُعدُّ الغسيلَ وتصرخ فى الأولاد، والأولاد تأخروا ،وموعد العمل يقترب..صدقني يافندم ..صدقوني جميعًا..- لم أعد أهتم بأصوات الصفعات والركلات التى تتتابع- ..صدقونى ، كنت فى طريقي إلى البيت حين قابلتكما، ولم يتركنى لأشرح له ،فى البداية ظننت أننى ارتكبت شيئًا، لكنى رجلٌ مسالمٌ ..مسالمٌ مع الجميع لم أغضب أحدًا من قبل ، ولم يحدث مطلقًا أن ارتكبت أي شىء، ولاأفكر فى شىء،حتى مع العازب الذي يقف عاريًا أمام زوجتي في البلكونة، وماذا فى وسعى أن أفعل ؟! أنا رجلٌ فى حالى ،والله يشهد وزملائى وجيرانى ،وحتى مديرى بذلك ،صحيح والله يافندم ..لاأكره فى الدنيا غيرَ الناموسِ ، تضحك سعادتكم ؟!! صحيح يافندم أكرهه جدًا ، تصور سعادتكم ، يظل يلدغنى طوال الليل ويحوم حول أذنىّ كالطائرات أززززز.. أزززز حتى أصحوَ ،وأظل قلقًا أحاول الإمساك بواحدة ، هكذا ، هكذا .. لاأفلح أبدًا ،أي والله يافندم ، صدقني ، صدقونى ، الأوراق فى البيت .. والله فى البيت ، طيران أحضرها .. فى غمضة عين_ صفعاتٌ وركلاتٌ متتاليةٌ _ إنني سريع جدًا يافندم ، أترى ؟ كنت أسبق الفصل.. كله ، وأنا صغيرٌ ..أترى ..؟؟ أترى ..؟ سعادتكم ..أترى ؟؟.
كانت أصوات الصفعات والركلات تدوى ، وترج المكان، وأجرى .
يدور المكان بى ، وأجرى ..
أرى البلاط يتلون بلون القهوة ،ووجه الضابط يتزركش،وأجرى..
يضحك الضابط ،ويخرج البخار من بين أسنانه ، وأجرى..
يمتلىء الهواء بشعرٍ قصيرٍ أسودٍ ،وأجرى ..
أصطدم وأسقط ،فأغوص فى سوادٍ لزجٍ حارٍّ،وأصرخُ ، أصرخُ ...
يقهقه الضابط ويشير بيده :
- كفى ، ،كفى هىء هىء هىء هىء كفى ، قلبى سيقف من الضحك ، كفى .. الله يخرب بيتك كفى هىء هىء ، كُف عن البكاء هىء هىء ، قلت لك كُف عن البكاء..
حاولت أن أقف ، لم أعدْ أسمع فى المكان هِزةَ صوتٍ ، سوى رجيعِ ضحكاته ، علقت نظرتى الدائخة على حُمرةِ وجهه ، وعلى تشققات شفتيه ،وأثر القهوة فوقهما ، حتى قال وهو يبتسم فى وجهى- وكأن فكرة قد طقًّت في رأسه حالا- :
- اسمع .. قلت أنك تعرف أشياءَ كثيرةً ؟
- نعم يافندم .
كان صوتي مبحوحاً ..
- جميل وقلت أنك تعمل أشياءَ كثيرةً..صحيح ؟
هزَزْتُ رأسي ،ولكن أحد الرجلين لكزنى ، نطقت :
- صحيح يافندم ..
- جميل ، جميل .. ما رأيك أن تعمل امرأة ؟
- امرأة ؟! كيف !!؟ أقصد .. ربنا هو الذى يعرف، يعنى هو الذى يخلق الرجل ويخلق المرأة !
- أعرف هذا يامعتوه ،أعرف .. افهم كلامى ، أريدك أن تعمل مثل امرأة ،
أتعرف ؟..لو أفلحت سأتركك تخرج.. فهمت..؟
- ....
- يعنى أن تقلد مشيتها ، كلامها ، صوتها ،حركاتها ، فهمت ؟
- فهمت يافندم .
- هيا
- الآن يافندم ؟
- الآن ياغبى ..هيا
- حاضر ..
شددتُ جسدى ، وأرخيته. خطوتُ . سمعتُ خنفرة من خلفى، ورأيت عينيه ترقبانى بشدة ،ووجهه يكاد أن ينفجر من الضحك..
حاولت أن أتذكر صورةَ امرأةٍ واحدةٍ لإحدى زميلاتى فى العمل ، أو لإحدى المارات اللاتى رأيتهن فى الطريق منذُ لحظات ، لكن شعرت برأسى قد خلا من صورهن كأنى لم أر من قبل امرأةً واحدةً في حياتي .
خطوتُ خطوةً ثانيةً ثم أخرى ،وملتُ بساقٍ على الأخرى .انفجرتْ الضحكات فى المكان مثل صوت قطار .
قلت مناعمًا نبرتى :
- هيه ؟ ما رأيك يافندم ؟ أحاول ، بقدر ما أستطيع .. أترى ؟ المسألة صعبة ولكنى أحاول.. أترى ؟
قال وهو يكاد يسقط من الضحك :
- والله كأحسن مومس فى البلد ..هىء هىءهىء أنت شيطان يابن الكلب هىءهىء لا شيطانة هىءهىء هىءهىء
- يعنى ستتركنى أخرج يافندم ؟
- سأتركك ..هىءهىءهىء سأتركك ، لكن اسمع ..
وكأن فكرة أخرى جاءته، تابع :
- غدا نوبتجيتى فى نفس الوقت ، تحضر إلى هنا ، ومعك الأوراق ..هىءهىء سمعت ؟
- نعم ،نعم يافندم ..
وخرجت..
كنت لاأصدق ،
هل ما حدث كان واقعًا ؟..
وأصوات الصفعات والركلات ؟..
والوجوه المدببة ؟
أم أنى كنت متعبًا لدرجة التوهم ؟
تحسست وجهى. كان هشًا مبللًا، وأرنبة أنفى متورمة متربة، وأذناى خدرتان .
شعرت بوجعٍ في جميع جسدي .
كان واقعًا إذن ماحدث..
حاولت النظر إلى مؤخرتي . وجدت مطبوعًا عليها آثارَ أحذيةٍ .أكيد هى للرجلين الحجريين .
خببتُ بكفى على قفاى. شعرتُ به منمنمًا، وبه خطوطٌ وتعاريجٌ لأكفِّ الرجلين، تكفى لمن أراد أن يعرف طالعهماأن يقرأ قفاى .
خنفرتُ بضحكة، ابتلعتُ مخاطها، كان مملحًا ، كنت أبكى إذن.
أرخيتُ عينى على الطريق ، وعلى المارة، وددتُ لو يسألنى أحدهم : ما بك ؟
شددتُ ساقىّ ، اختلطتْ اليمنى باليسرى ، واليسرى اختلطت باليمنى.
دستُ على حجر مدبب . أسرعتُ إلى البيت . فتحتُ لى زوجتى ، ومشتْ من أمامى إلى الداخل . وقفتُ عند الباب . أرقبها ، ولم أدخل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى