صدر عن دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع/ الشارقة، بغداد، الديوان الجديد للشاعر العراقي المغترب ضياء الجنابي الموسوم ب "شهقات بحاجة إلى الأوكسيجين" سنة 2018 في طبعته الأولى؛ ويضم بين دفتيه تسعا وأربعين قصيدة؛ وقد بوبها على أربعة أبواب على غرار فصول السنة مما يعني دورة الحياة وتجددها، ويؤكد انتماء الشاعر لبلاد الموت والانبعاث.
هل قدر شعراء العراق الغربة والترحال الدائم؟ هل كتب عليهم أن يكونوا رحالة جوابين للآفاق كالسندباد؟ هل عليهم أن يحملوا مصيرهم المأساوي منذ ما قبل التاريخ؟ هل بلاد الرافدين جغرافية جذب ونبذ؟ هل هي أرض اقتلاع وإحلال؟
أقول هذا وبين يدي ديوان "شهقات بحاجة إلى الأوكسجين" للشاعر العراقي المغترب، ضياء الجنابي. هذا الديوان الذي يحمل مفردات الوجع، ويكتظ بتعابير الغربة والحنين، ويتشكل من عجينة الغربة: لكنني لا أظن أنه يحمل مسألة الهوية، فمن ينتمي إلى تلك النقطة من العالم لا شك أنه يحمل معه إرثا إنسانيا عظيما يفتخر به، ولا يشعر بنقص في بلاد الغربة؛ فمن تلك الأرض تعلم الإنسان اللغة والكتابة، ومنها تعلم العمارة والزراعة والري، ومنها اكتسب فن العيش: الأكل واللباس. فحق له أن يرى في كل الحضارات امتدادا لحضارته، بل هي أسها وركن مهم من أركان بنائها.
ضياء الجنابي شاعر مغترب كالسياب، والبياتي، وسركون بولس، والصايغ، وباسم فرات، والقائمة طويلة وممتدة.
نراه، من خلال عنوان ديوانه، يختنق حين يبتعد عن وطنه كما الأسماك عن مياهها؛ فالشهقات، وهي جمع لشهقة، لا يمكن أن تحقق للرئتين الهواء الذي به تعيش إذا كانت مفرغة من الأوكسجين، ونعتبر العراق أوكسجين الشهقات، بل لك الشهقات ما هي إلا تعبير مجازي لذلك الحنين إلى الأم/ الأرض. هذه الأرض التي احتضنت بمحبة الأمهات كل الأجناس التي ساهمت في ثرائها، ونبذت في سلة النسيان كل الأقوام التي سعت إلى خرابها.
فبلاد الرافدين هي أرض:
رأيت المعدان يجرون دوابهم
من سود الجواميس المكحولة العينين
والمندائيين يتبعون سرب البشوش
المزنرة بالماء والخضار
الأكراد يسقون المارة بلبن أربيل المدخن
التركمان يرشقون ملح الأرض بعين الدبش
الكلدوآشوريين يدعون اليتامى
إلى مائدة العشاء الأخير
الشبك يفلون الشباك الملقاة على زمكانيتهم
البدو يرسمون بخف الأباعر خارطة صماء
... ص 88 و89.
هي تركيبة من أعراق متنوعة وأقوام مختلفة، أغنت وأثرت، وما كانت فاعل فصل وتشتيت، وهو ما يؤكد قدرة بلاد ما بين النهرين على استيعاب الجميع بصدر رحب، كما أم رؤوم.
لكن ما يؤلم القلب أن يكون قدر أبنائها، وخاصة الشعراء، الابتعاد عن حضنها، وفي إقاماتهم البعيدة يحملون حنينا حارا وشوقا لاهبا لها:
جلجامس عراقي
مات صديقه
صعق...
وراح يبتكر الخلود لدحر الموت
نحن عراقيون بالطبع كذلك
في كل لحظة
يموت لنا عشرات الأصدقاء والأحباب
ولا نبالي
نخبئ الموت تحت جلودنا
لنذيقه مرارة الفراق. ص92.
هناك افتخار بالانتماء للعراق التي كتبت فيه أول ملحمة عابرة للمكان والزمان، وفي القلب منها ملحمة جلجامس الذي سعى إلى دحر الموت بالبحث عن نبتة الخلود، كان أول مسعى للإنسان في سبيل البقاء، وكانت أول محاولة في مغالبة الموت.
يأتي ضمير "نحن" للتعبير عن الانتماء بفخر للعراق، وللتعبير عن قوة الجماعة المشكلة من شعوب وقبائل عدة، وللتعبير عن ما تمتلكه الذات المتكلمة من طاقة وصب في مواجهة الصعاب. قد تكون الغربة موتا معنويا لكن العراقي تعود على ذلك، وعرف كيف يدحر الموت.
هكذا نجد الشاعر يعدد ثنائيات حياة العراقي:
موت وترحال
غربة وحنين
اتصال وانفصال
بحث عن الخلود وتسكع بين دروب التلاشي.
كما نجده وهو يرسم معالم هذا الألم والمعاناة معتمدا على السرد كمكون فني وجمالي لتحقيق بعد الدرامية. ولتتساوق مشاعر الحنين وإيقاع الحركة المعبرة عن التنقل والترحال.
لم تك دجلة قريبة مني
حين مسح العصفور بزقزقته أجفاني
فعيناي كانت تهرولان في الزقاق الممتد
بين "كنيسة سيدة النجاة" و"جامع ام الطبول"
وتتشبثان بالقبتين الخضراء والفضية
اللتين تشبهان ثدي أمي
.. ص88
في المشهد حركة وزمان ومكان، وفي الوقت نفسه تلميح إلى تساكن الديانات، وارتباطهما العاشق بالوطن المكنى عنه بالأم.
بيد أن أياد آثمة أبت إلا أن تصنع الألم برصاصها الغادر، ومن هنا نفهم صرخة الرفض لدى الشاعر وهو يقول منددا:
ربما كانت حنجرتي تغص بكلمات
تمسح بمنديلها الشفيف
صراخا تطاير من عيون الرصاص
ذاك الذي أحال أيامنا رصاصية. ص94.
ولأن القصائد نثرية فإن الشاعر اعتمد على مقومات عدة لتحقيق إيقاعية لنصوصه، منها، التكرار، والتضاد على سبيل المثال:
يتشظى من حليب النجوم..
شهقة
فشهقة
ص164.
أو
أتلمسه
أتنفسه
ص163.
أو
دعني
دعني ولو هنيهة
أعلق روحي
ص160.
ومعلوم أن للتكرار وظائف عدة منها ترسيخ الفكرة وتأكيدها وتبئيرها ولفت الانتباه إليها لأهميتها فضلا عن بعدها الإيقاعي الذي يطرب الأذن، ويمتع الذهن، كما في هذا المقطع:
أنفاسي
وأنفاس الألوان والأضواء
تتداخل
تتمازج
تنصهر
تتماهى
مع اجتراح الحروف
رويدا
رويدا
في رفيف الصور.. ص161.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض النصوص اختارت لنهايتها جمالية السؤال كمخرج، سؤال استنكاري ذي نبرة تنديد وتنفير، ورفض، واستغراب:
من الذي يحرق الآخر؟
الزمن !
أم القصيدة؟ ص162.
وهو يتحدث عن القصيدة، نجده قد خصص نصا للحديث عن تلوث الشعر بالتفاهة:
وأعلن الشعر عن سكوته
وعجت الوديان بكل ناعق
إلا من الشعراء
الله
لم يبق واد لهم
به يهيمون. ص149.
شهقات بحاجة إلى الأوكسجين، ديوان جدير بالمتابعة والدراسة والتحليل، ديوان بحاجة إلى أوكسجين النقد ليحصل على شهقاته المشتهاة.
هل قدر شعراء العراق الغربة والترحال الدائم؟ هل كتب عليهم أن يكونوا رحالة جوابين للآفاق كالسندباد؟ هل عليهم أن يحملوا مصيرهم المأساوي منذ ما قبل التاريخ؟ هل بلاد الرافدين جغرافية جذب ونبذ؟ هل هي أرض اقتلاع وإحلال؟
أقول هذا وبين يدي ديوان "شهقات بحاجة إلى الأوكسجين" للشاعر العراقي المغترب، ضياء الجنابي. هذا الديوان الذي يحمل مفردات الوجع، ويكتظ بتعابير الغربة والحنين، ويتشكل من عجينة الغربة: لكنني لا أظن أنه يحمل مسألة الهوية، فمن ينتمي إلى تلك النقطة من العالم لا شك أنه يحمل معه إرثا إنسانيا عظيما يفتخر به، ولا يشعر بنقص في بلاد الغربة؛ فمن تلك الأرض تعلم الإنسان اللغة والكتابة، ومنها تعلم العمارة والزراعة والري، ومنها اكتسب فن العيش: الأكل واللباس. فحق له أن يرى في كل الحضارات امتدادا لحضارته، بل هي أسها وركن مهم من أركان بنائها.
ضياء الجنابي شاعر مغترب كالسياب، والبياتي، وسركون بولس، والصايغ، وباسم فرات، والقائمة طويلة وممتدة.
نراه، من خلال عنوان ديوانه، يختنق حين يبتعد عن وطنه كما الأسماك عن مياهها؛ فالشهقات، وهي جمع لشهقة، لا يمكن أن تحقق للرئتين الهواء الذي به تعيش إذا كانت مفرغة من الأوكسجين، ونعتبر العراق أوكسجين الشهقات، بل لك الشهقات ما هي إلا تعبير مجازي لذلك الحنين إلى الأم/ الأرض. هذه الأرض التي احتضنت بمحبة الأمهات كل الأجناس التي ساهمت في ثرائها، ونبذت في سلة النسيان كل الأقوام التي سعت إلى خرابها.
فبلاد الرافدين هي أرض:
رأيت المعدان يجرون دوابهم
من سود الجواميس المكحولة العينين
والمندائيين يتبعون سرب البشوش
المزنرة بالماء والخضار
الأكراد يسقون المارة بلبن أربيل المدخن
التركمان يرشقون ملح الأرض بعين الدبش
الكلدوآشوريين يدعون اليتامى
إلى مائدة العشاء الأخير
الشبك يفلون الشباك الملقاة على زمكانيتهم
البدو يرسمون بخف الأباعر خارطة صماء
... ص 88 و89.
هي تركيبة من أعراق متنوعة وأقوام مختلفة، أغنت وأثرت، وما كانت فاعل فصل وتشتيت، وهو ما يؤكد قدرة بلاد ما بين النهرين على استيعاب الجميع بصدر رحب، كما أم رؤوم.
لكن ما يؤلم القلب أن يكون قدر أبنائها، وخاصة الشعراء، الابتعاد عن حضنها، وفي إقاماتهم البعيدة يحملون حنينا حارا وشوقا لاهبا لها:
جلجامس عراقي
مات صديقه
صعق...
وراح يبتكر الخلود لدحر الموت
نحن عراقيون بالطبع كذلك
في كل لحظة
يموت لنا عشرات الأصدقاء والأحباب
ولا نبالي
نخبئ الموت تحت جلودنا
لنذيقه مرارة الفراق. ص92.
هناك افتخار بالانتماء للعراق التي كتبت فيه أول ملحمة عابرة للمكان والزمان، وفي القلب منها ملحمة جلجامس الذي سعى إلى دحر الموت بالبحث عن نبتة الخلود، كان أول مسعى للإنسان في سبيل البقاء، وكانت أول محاولة في مغالبة الموت.
يأتي ضمير "نحن" للتعبير عن الانتماء بفخر للعراق، وللتعبير عن قوة الجماعة المشكلة من شعوب وقبائل عدة، وللتعبير عن ما تمتلكه الذات المتكلمة من طاقة وصب في مواجهة الصعاب. قد تكون الغربة موتا معنويا لكن العراقي تعود على ذلك، وعرف كيف يدحر الموت.
هكذا نجد الشاعر يعدد ثنائيات حياة العراقي:
موت وترحال
غربة وحنين
اتصال وانفصال
بحث عن الخلود وتسكع بين دروب التلاشي.
كما نجده وهو يرسم معالم هذا الألم والمعاناة معتمدا على السرد كمكون فني وجمالي لتحقيق بعد الدرامية. ولتتساوق مشاعر الحنين وإيقاع الحركة المعبرة عن التنقل والترحال.
لم تك دجلة قريبة مني
حين مسح العصفور بزقزقته أجفاني
فعيناي كانت تهرولان في الزقاق الممتد
بين "كنيسة سيدة النجاة" و"جامع ام الطبول"
وتتشبثان بالقبتين الخضراء والفضية
اللتين تشبهان ثدي أمي
.. ص88
في المشهد حركة وزمان ومكان، وفي الوقت نفسه تلميح إلى تساكن الديانات، وارتباطهما العاشق بالوطن المكنى عنه بالأم.
بيد أن أياد آثمة أبت إلا أن تصنع الألم برصاصها الغادر، ومن هنا نفهم صرخة الرفض لدى الشاعر وهو يقول منددا:
ربما كانت حنجرتي تغص بكلمات
تمسح بمنديلها الشفيف
صراخا تطاير من عيون الرصاص
ذاك الذي أحال أيامنا رصاصية. ص94.
ولأن القصائد نثرية فإن الشاعر اعتمد على مقومات عدة لتحقيق إيقاعية لنصوصه، منها، التكرار، والتضاد على سبيل المثال:
يتشظى من حليب النجوم..
شهقة
فشهقة
ص164.
أو
أتلمسه
أتنفسه
ص163.
أو
دعني
دعني ولو هنيهة
أعلق روحي
ص160.
ومعلوم أن للتكرار وظائف عدة منها ترسيخ الفكرة وتأكيدها وتبئيرها ولفت الانتباه إليها لأهميتها فضلا عن بعدها الإيقاعي الذي يطرب الأذن، ويمتع الذهن، كما في هذا المقطع:
أنفاسي
وأنفاس الألوان والأضواء
تتداخل
تتمازج
تنصهر
تتماهى
مع اجتراح الحروف
رويدا
رويدا
في رفيف الصور.. ص161.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض النصوص اختارت لنهايتها جمالية السؤال كمخرج، سؤال استنكاري ذي نبرة تنديد وتنفير، ورفض، واستغراب:
من الذي يحرق الآخر؟
الزمن !
أم القصيدة؟ ص162.
وهو يتحدث عن القصيدة، نجده قد خصص نصا للحديث عن تلوث الشعر بالتفاهة:
وأعلن الشعر عن سكوته
وعجت الوديان بكل ناعق
إلا من الشعراء
الله
لم يبق واد لهم
به يهيمون. ص149.
شهقات بحاجة إلى الأوكسجين، ديوان جدير بالمتابعة والدراسة والتحليل، ديوان بحاجة إلى أوكسجين النقد ليحصل على شهقاته المشتهاة.