كان منصور الحاف رجلاً من دمشق يهابه أشرس الرجال، بحرًا بلا موج، رابط الجأش في ساعات العسر وساعات اليسر، غير أن خنجره كان سريع الغضب، يجرح بازدراء ولا يقتل، ولا مهرب لخصومه من برق نصله الهبّار وندامة متأخرة لا تنجي اللحم من التمزق. وكان منصور الحاف يرحب بالسجن كأنّه مصح في مصيف، ويردد يوم يخرج منه: (الأهبل وحده يفرح بالانتقال من سجن صغير إلى سجن كبير).
وقد أحب منصور الحاف زوجته نزيهة منذ أن لمحتها عيناه أول مرة، ولم يبح لها يومًا بكلمة واحدة تفصح عن ناره المخبأة، ولكنه لم يكن يخجل من الاعتراف علانية بأنّ كل ما تقوله نزيهة هو أوامر يسارع إلى إطاعتها بغير نقاش. ولو طلبت منه أن يحلق شاربيه لما تردد لحظة. ولكنه تبدل لحظة تكلمت مصادفة عن طربوشه، ونصحته بالتخلي عنه، واستحال رجلاً غريبًا فظّا لا تعرفه. وقال لها باعتداد وتجهم: إنّ الطرابيش خلقت زينة للرجال. فقالت له: إنّ الطربوش ضيف قبيح سمج. فقال لها إنّه ولد مطربشًا وسيموت مطربشًا. فقالت له إنّها لم تعد تطيق رؤية أي طربوش. فقال لها إن الطرابيش للرجال والملاءات للنساء والأغصان للشجر.
وفي أحد الأيام، قالت نزيهة لزوجها بصوت حانق، نافد الصبر: (إمّا أن تطلق الطربوش، وإمّا أن تطلقني).
فغضب منصور الحاف، ولكنه لم يشهر خنجرًا، واكتفى بأن قال لزوجته عابس الوجه: (باب البيت عريض يخرج منه جمل، فهيا اركضي إلى أهلك. أنت طالق.. أنت طالق.. أنت طالق).
فبهتت نزيهة، وخرجت من البيت بغير ملاءة وهي تصيح بصوت متهدج مستغيث: (واغوراه!).
فحمل هواء فضولي واش صيحتها إلى أذني الجنرال الفرنسي هنري غورو، فبادر إلى نجدتها، وسار بجيوشه إلى دمشق، ودخلها غازيا منتصرًا ملطخًا بدماء أبنائها القتلى على أرض ميسلون. فاستقبلته دمشق بحزن صقرٍ حُرم سماءه وسُجن في قفص. ولكن شرذمة من وجهائها وخدمهم حاولت أن تحمل سيارته على ظهورها تعبيرًا عن ترحيبها الحار به، فمست يده المتوارية في قفاز جلدي أيدي مستقبليه المرتعشة فخرًا. وسارع إلى زيارة قبر صلاح الدين الأيوبي، وقال له بتشف وشماتة: (ها قد عدنا).
فتكلم صلاح الدين الأيوبي، وقال للجنرال غورو بصوت أرض غسل مطرٌ مباغتٌ دموعها، واستعادت قدرتها على النطق بعد أن فقدتها طوال سنين: (ولكنكم ستعودون يومًا إلى بلادكم في توابيت سود).
فلم يبال الجنرال غورو بما قيل له، وطاف في شوارع دمشق مرح الوجه محاطًا بالكثير من حراسه اليقظين المتسلحين بآخر زي من أزياء المسدسات والبنادق الحديثة، والمتأهبين لإطلاق النار على أي غيمة قد تعبر السماء من دون إذن مسبق. وكانت خطاه المتمهلة خطى من يرغب في الإقامة بها حتى موته، ولكنه تأفف من تلك الطرابيش الحمر الجاثمة على رؤوس الرجال. وعاد إلى مكتبه الرسمي، وأصدر أمرًا صارمًا مفعمًا بالتهديد والوعيد، ينصُّ على إلغاء الطرابيش وحظر صنعها. فجمعت الطرابيش كافة، وقذفت إلى مياه نهر بردى. واضطر الرجال إلى السير في الطرقات حاسري الرؤوس، متعثري الخطى كأنّهم حفاة، ولكن رأس منصور الحاف أصرّ على التشبث بطربوشه، فقبض عليه الجنود الفرنسيون، ووضعوه في السجن بغير تحقيق أو محاكمة.
وعندما ملّ الجنرال غورو مغازلة النساء والطعام الدسم واحتساء الخمور، وتاق إلى تسلية من نوع مختلف، أمر بإحضار الرجل الذي عصى أمره وظل محتفظًا بطربوشه، فاقتيد منصور الحاف مكبل اليدين إلى قاعة فسيحة الأرجاء ملأى بالضباط والجنود، وأُوقف قبالة الجنرال غورو الذي سأله بصوت نزق: (أتعرف ما عقوبة كل من يتجرأ على مخالفة أمر من أوامري).
فابتسم منصور الحاف، وأجاب بهدوء: (الموت فقط).
قال الجنرال غورو: (أنصحك ألاّ تحاول تمثيل دور الرجل الشجاع الذي يرحب بالموت، وهو تمثيل لن ينفعك الآن).
فحاول منصور الحاف أن يتكلم، ولكنه تلعثم إذ تخيل الكرة الأرضية على شكل طربوش مقلوب يتساقط في جوفه الجنود من مختلف الجنسيات جثثًا باردة. وسمع الجنرال غورو يقول له بصوت متسائل ساخر: (ما بك خرست).
فقال منصور الحاف بصوت واثق خشن: (الموت في سبيل الطربوش شرف يتمناه كل رجل).
فتصنع الجنرال غورو أنّه يرى طربوشًا أول مرة في حياته، وحملق إليه بنظرات متفحصة، ثم قال لمنصور الحاف: (أعجبني طربوشك، ويصلح هدية طريفة لزوجتي، بكم تبيعه? سأدفع لك عشر ليرات ذهبية.. عشرين.. مائة.. ألفًا.. ألفين..).
فقاطعه منصور الحاف قائلاً: (طربوشي ليس للبيع، ولن أبيعه ولو دفع لي مال هارون وقارون).
فغضب الجنرال غورو، وعاوده ملله، وأشار بسبابته إلى منصور الحاف صائحًا بجنوده: (أعدموه فورًا).
فصرخ منصور الحاف: (جيفة لا تعكر بحرًا).
واقترب أحد الضباط من الجنرال غورو، وسأله بصوت خفيض: (وكيف نعدمه? أنشنقه أم نطلق الرصاص عليه?).
فقال الجنرال غورو مخاطبًا كل من كان حوله وبلهجة معلم يخاطب تلاميذه الصغار السذج: (اسمعوا.. لكل بلد خصائصه المتوارثة، وينبغي لنا بوصفنا من رسل الحضارة والمدنية أن نحترمها ولا نستهتر بها. ونحن الآن في بلاد يألف سكانها قطع الرؤوس).
فتراكض الجنود نحو منصور الحاف، وأرغموه على الركوع وإحناء رأسه، فصاح باستنكار: (ما هذا الظلم ألن أسأل عن رغباتي الأخيرة).
فقال الجنرال غورو لأحد جنوده: (اسأله. لعله يريد أن يتوضأ). قال الجندي لمنصور الحاف: (ما آخر رغباتك).
فضحك منصور الحاف، وقال: (أن أقتل على ركبتي زوجتي السابقة!).
فسأله الجندي: (وأين تريد أن تدفن).
قال منصور الحاف: (لحمي لا يفرّق بين دود ودود).
وسأل الجنرال غورو منصور الحاف: (أتعرف لماذا ستموت الآن).
فشحب وجه منصور الحاف، ولكنه قال بصوت مطمئن واثق: كل شيء هالك إلاّ وجهه..
فتساءل الجنرال غورو: (وجه من عمن تحكي).
قال منصور الحاف بصوت متبتِّل خاشع: قل أعوذ برب الناس ، ملك الناس ، إله الناس ، من شر الوسواس الخناس ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ودمَّرْنا ما كان يصنع فرعون وقومه
فقال الجنرال غورو: (أأنت أعمى! نحن الأعلون، ولا أحد غيرنا يدمر أعداءه).
فقال منصور الحاف: ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رَشَدًا أزِفَت الآزفة ، ليس لها من دون الله كاشفة .. ليس لها من دون الله كاشفة
وبدا منصور الحاف لعيني الجنرال غورو في تلك اللحظة وهو راكع على ركبتيه مخلوقًا بغيضًا محيرًا غبيا متكبرًا مغرورًا منفرًا بليدًا، كأنّه لا يدرك ما يحدث حوله، ويشترك في مبارزة يرحب بخاتمتها الفاجعة موقنًا أنّها ليست نتيجة عقوبة أو هزيمة، ويردد كالحاكي ما سجل على أسطوانته من كلمات ليست بكلماته. فامتلأ الجنرال غورو بسخط جموح حاول التخلص منه بأن صاح بجنوده آمرًا بصوت صارم: (أعدموه حالاً).
فأهوى سيف على رقبة منصور الحاف الجاثي على ركبتيه، وأطاح رأسه الذي تدحرج على الأرض كأنّه كرة ركلتها قدم طفل، ولكن الطربوش ظل ملتصقًا بالرأس، فأمر الجنرال غورو جنوده بنزعه عن الرأس، فبادروا إلى إطاعة أمره. ولم تنجح كل الوسائل التي لجأوا إليها، وبدا الطربوش كأنّه جزء عنيد من الرأس. فطلب الجنرال غورو من جنوده إحراق الرأس وطربوشه، فبادروا إلى إشعال نار في ساحة من ساحات ثكنتهم تكفي لإحراق بقرة، ورموا فيها الرأس وطربوشه. ولما انطفأت النار وصارت رمادًا، اختفى الرأس كأنّه لم يكن في يوم من الأيام حيا مفعمًا بالنزوات مرفوعًا بفخر بين كتفين، ولكن طربوشه ظل أحمر سليمًا لم يمسسه أي سوء.
ولما أُعلم الجنرال غورو بما جرى، دهش واغتاظ وتحير، وأمر بحفظ الطربوش ريثما يرسل إلى مختبرات فرنسا العلمية لتحليله والكشف عن أسرار قوته الغامضة. ولكن الطربوش لم يقيض له أن يزور فرنسا، إذ فُقد في ظروف غامضة، وشوهد يومًا على رأس رجل أسمر الجلد يطلق الأعيرة النارية من مسدسه على طائرة حربية كانت تحلق فوق دمشق وتقصف حيا من أحيائها، وشوهد ثانية على رأس رجل يصنع توابيت ويخبئها ليوم تتضاعف فيه أسعارها وتباع في السوق السوداء، وشوهد مرة ثالثة وقد تحوّل كرة مرحة حمراء يتقاذفها أطفال ضاحكون
وقد أحب منصور الحاف زوجته نزيهة منذ أن لمحتها عيناه أول مرة، ولم يبح لها يومًا بكلمة واحدة تفصح عن ناره المخبأة، ولكنه لم يكن يخجل من الاعتراف علانية بأنّ كل ما تقوله نزيهة هو أوامر يسارع إلى إطاعتها بغير نقاش. ولو طلبت منه أن يحلق شاربيه لما تردد لحظة. ولكنه تبدل لحظة تكلمت مصادفة عن طربوشه، ونصحته بالتخلي عنه، واستحال رجلاً غريبًا فظّا لا تعرفه. وقال لها باعتداد وتجهم: إنّ الطرابيش خلقت زينة للرجال. فقالت له: إنّ الطربوش ضيف قبيح سمج. فقال لها إنّه ولد مطربشًا وسيموت مطربشًا. فقالت له إنّها لم تعد تطيق رؤية أي طربوش. فقال لها إن الطرابيش للرجال والملاءات للنساء والأغصان للشجر.
وفي أحد الأيام، قالت نزيهة لزوجها بصوت حانق، نافد الصبر: (إمّا أن تطلق الطربوش، وإمّا أن تطلقني).
فغضب منصور الحاف، ولكنه لم يشهر خنجرًا، واكتفى بأن قال لزوجته عابس الوجه: (باب البيت عريض يخرج منه جمل، فهيا اركضي إلى أهلك. أنت طالق.. أنت طالق.. أنت طالق).
فبهتت نزيهة، وخرجت من البيت بغير ملاءة وهي تصيح بصوت متهدج مستغيث: (واغوراه!).
فحمل هواء فضولي واش صيحتها إلى أذني الجنرال الفرنسي هنري غورو، فبادر إلى نجدتها، وسار بجيوشه إلى دمشق، ودخلها غازيا منتصرًا ملطخًا بدماء أبنائها القتلى على أرض ميسلون. فاستقبلته دمشق بحزن صقرٍ حُرم سماءه وسُجن في قفص. ولكن شرذمة من وجهائها وخدمهم حاولت أن تحمل سيارته على ظهورها تعبيرًا عن ترحيبها الحار به، فمست يده المتوارية في قفاز جلدي أيدي مستقبليه المرتعشة فخرًا. وسارع إلى زيارة قبر صلاح الدين الأيوبي، وقال له بتشف وشماتة: (ها قد عدنا).
فتكلم صلاح الدين الأيوبي، وقال للجنرال غورو بصوت أرض غسل مطرٌ مباغتٌ دموعها، واستعادت قدرتها على النطق بعد أن فقدتها طوال سنين: (ولكنكم ستعودون يومًا إلى بلادكم في توابيت سود).
فلم يبال الجنرال غورو بما قيل له، وطاف في شوارع دمشق مرح الوجه محاطًا بالكثير من حراسه اليقظين المتسلحين بآخر زي من أزياء المسدسات والبنادق الحديثة، والمتأهبين لإطلاق النار على أي غيمة قد تعبر السماء من دون إذن مسبق. وكانت خطاه المتمهلة خطى من يرغب في الإقامة بها حتى موته، ولكنه تأفف من تلك الطرابيش الحمر الجاثمة على رؤوس الرجال. وعاد إلى مكتبه الرسمي، وأصدر أمرًا صارمًا مفعمًا بالتهديد والوعيد، ينصُّ على إلغاء الطرابيش وحظر صنعها. فجمعت الطرابيش كافة، وقذفت إلى مياه نهر بردى. واضطر الرجال إلى السير في الطرقات حاسري الرؤوس، متعثري الخطى كأنّهم حفاة، ولكن رأس منصور الحاف أصرّ على التشبث بطربوشه، فقبض عليه الجنود الفرنسيون، ووضعوه في السجن بغير تحقيق أو محاكمة.
وعندما ملّ الجنرال غورو مغازلة النساء والطعام الدسم واحتساء الخمور، وتاق إلى تسلية من نوع مختلف، أمر بإحضار الرجل الذي عصى أمره وظل محتفظًا بطربوشه، فاقتيد منصور الحاف مكبل اليدين إلى قاعة فسيحة الأرجاء ملأى بالضباط والجنود، وأُوقف قبالة الجنرال غورو الذي سأله بصوت نزق: (أتعرف ما عقوبة كل من يتجرأ على مخالفة أمر من أوامري).
فابتسم منصور الحاف، وأجاب بهدوء: (الموت فقط).
قال الجنرال غورو: (أنصحك ألاّ تحاول تمثيل دور الرجل الشجاع الذي يرحب بالموت، وهو تمثيل لن ينفعك الآن).
فحاول منصور الحاف أن يتكلم، ولكنه تلعثم إذ تخيل الكرة الأرضية على شكل طربوش مقلوب يتساقط في جوفه الجنود من مختلف الجنسيات جثثًا باردة. وسمع الجنرال غورو يقول له بصوت متسائل ساخر: (ما بك خرست).
فقال منصور الحاف بصوت واثق خشن: (الموت في سبيل الطربوش شرف يتمناه كل رجل).
فتصنع الجنرال غورو أنّه يرى طربوشًا أول مرة في حياته، وحملق إليه بنظرات متفحصة، ثم قال لمنصور الحاف: (أعجبني طربوشك، ويصلح هدية طريفة لزوجتي، بكم تبيعه? سأدفع لك عشر ليرات ذهبية.. عشرين.. مائة.. ألفًا.. ألفين..).
فقاطعه منصور الحاف قائلاً: (طربوشي ليس للبيع، ولن أبيعه ولو دفع لي مال هارون وقارون).
فغضب الجنرال غورو، وعاوده ملله، وأشار بسبابته إلى منصور الحاف صائحًا بجنوده: (أعدموه فورًا).
فصرخ منصور الحاف: (جيفة لا تعكر بحرًا).
واقترب أحد الضباط من الجنرال غورو، وسأله بصوت خفيض: (وكيف نعدمه? أنشنقه أم نطلق الرصاص عليه?).
فقال الجنرال غورو مخاطبًا كل من كان حوله وبلهجة معلم يخاطب تلاميذه الصغار السذج: (اسمعوا.. لكل بلد خصائصه المتوارثة، وينبغي لنا بوصفنا من رسل الحضارة والمدنية أن نحترمها ولا نستهتر بها. ونحن الآن في بلاد يألف سكانها قطع الرؤوس).
فتراكض الجنود نحو منصور الحاف، وأرغموه على الركوع وإحناء رأسه، فصاح باستنكار: (ما هذا الظلم ألن أسأل عن رغباتي الأخيرة).
فقال الجنرال غورو لأحد جنوده: (اسأله. لعله يريد أن يتوضأ). قال الجندي لمنصور الحاف: (ما آخر رغباتك).
فضحك منصور الحاف، وقال: (أن أقتل على ركبتي زوجتي السابقة!).
فسأله الجندي: (وأين تريد أن تدفن).
قال منصور الحاف: (لحمي لا يفرّق بين دود ودود).
وسأل الجنرال غورو منصور الحاف: (أتعرف لماذا ستموت الآن).
فشحب وجه منصور الحاف، ولكنه قال بصوت مطمئن واثق: كل شيء هالك إلاّ وجهه..
فتساءل الجنرال غورو: (وجه من عمن تحكي).
قال منصور الحاف بصوت متبتِّل خاشع: قل أعوذ برب الناس ، ملك الناس ، إله الناس ، من شر الوسواس الخناس ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون ودمَّرْنا ما كان يصنع فرعون وقومه
فقال الجنرال غورو: (أأنت أعمى! نحن الأعلون، ولا أحد غيرنا يدمر أعداءه).
فقال منصور الحاف: ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رَشَدًا أزِفَت الآزفة ، ليس لها من دون الله كاشفة .. ليس لها من دون الله كاشفة
وبدا منصور الحاف لعيني الجنرال غورو في تلك اللحظة وهو راكع على ركبتيه مخلوقًا بغيضًا محيرًا غبيا متكبرًا مغرورًا منفرًا بليدًا، كأنّه لا يدرك ما يحدث حوله، ويشترك في مبارزة يرحب بخاتمتها الفاجعة موقنًا أنّها ليست نتيجة عقوبة أو هزيمة، ويردد كالحاكي ما سجل على أسطوانته من كلمات ليست بكلماته. فامتلأ الجنرال غورو بسخط جموح حاول التخلص منه بأن صاح بجنوده آمرًا بصوت صارم: (أعدموه حالاً).
فأهوى سيف على رقبة منصور الحاف الجاثي على ركبتيه، وأطاح رأسه الذي تدحرج على الأرض كأنّه كرة ركلتها قدم طفل، ولكن الطربوش ظل ملتصقًا بالرأس، فأمر الجنرال غورو جنوده بنزعه عن الرأس، فبادروا إلى إطاعة أمره. ولم تنجح كل الوسائل التي لجأوا إليها، وبدا الطربوش كأنّه جزء عنيد من الرأس. فطلب الجنرال غورو من جنوده إحراق الرأس وطربوشه، فبادروا إلى إشعال نار في ساحة من ساحات ثكنتهم تكفي لإحراق بقرة، ورموا فيها الرأس وطربوشه. ولما انطفأت النار وصارت رمادًا، اختفى الرأس كأنّه لم يكن في يوم من الأيام حيا مفعمًا بالنزوات مرفوعًا بفخر بين كتفين، ولكن طربوشه ظل أحمر سليمًا لم يمسسه أي سوء.
ولما أُعلم الجنرال غورو بما جرى، دهش واغتاظ وتحير، وأمر بحفظ الطربوش ريثما يرسل إلى مختبرات فرنسا العلمية لتحليله والكشف عن أسرار قوته الغامضة. ولكن الطربوش لم يقيض له أن يزور فرنسا، إذ فُقد في ظروف غامضة، وشوهد يومًا على رأس رجل أسمر الجلد يطلق الأعيرة النارية من مسدسه على طائرة حربية كانت تحلق فوق دمشق وتقصف حيا من أحيائها، وشوهد ثانية على رأس رجل يصنع توابيت ويخبئها ليوم تتضاعف فيه أسعارها وتباع في السوق السوداء، وشوهد مرة ثالثة وقد تحوّل كرة مرحة حمراء يتقاذفها أطفال ضاحكون