نجيب محفوظ يكتب الى مصطفى لطفي المنفلوطي

عزيزي المنفلوطي،

كنت متجهاً الى العلم، وذلك لتفوقي في الرياضيات، إلا أنك جعلتني أولي الكتابة أهمية لم افطن لها من قبل، وغيرت أحلامي بعد أن كانت تنحصر في الهندسة والطب، فاذا بي أصبح كاتباً. وهذا التحول، أنا مدين به لك، أيها الكاتب الكبير. بفضلك بدأت أقرأ العقاد وطه حسين وسلامة موسى وآخرين، وتلاحظ كم حدد هؤلاء نوعية اختياراتي في الكتابة. لكن الفكر يطغى في نتاجهم على الابداع الادبي. ولعل قراءاتي المبكرة لكتبك هي السبب المباشر الذي وجهني الى دراسة الفلسفة. ومر وقت طويل نسبياً قبل أن أفهم أن ميلي الحقيقي هو الى الكتابة الادبية وليس الى الفكر. وأتذكر الآن بين كتاباتك نصاً، كان بالنسبة اليّ بمثابة الموجّه الرئيسي، هو مقدمة أحد كتبك، "العبرات" أو "النظرات"، حيث كتبت في المقدمة عن فن الكتابة وقيمته.

وشغلني "الفكر"، وكان المفروض أن يشغلني "الابداع". فمعظم كتاباتك ترجمة، وكانت ثورتك اجتماعية. أما ثورة العقاد وطه حسين وسلامة موسى، ففكرية. المهم انني وصلت عبرك الى رجال التنوير، وكنت دائماً بين الفكر والابداع مع غلبة واضحة للفكر. ظلت الامور على هذه الحال، الى أن تخرجت من الجامعة سنة 1934. فبعد التخرج بعامين، تحولت الى الابداع. كنت أكتب المقالة بشكل أساسي والقصة على الهامش، فقررت اعطاء نفسي للقصة.

قرأتُ كل ما كتبت، فهديتني الى الطريق على المستوى الشخصي، وجدت فيك نفسي بلا شك، وهيأتَ لي أكبر متعة عرفتها في حياتي وأكبر تقدير كان نصيبي منها. وأنا الآن اكتب كي اقول لك كل الشكر والامتنان الذي تستحقه، وكل الفضل الذي أدين به اليك. وأعتقد أن الحب الذي اكنّه لك، هو في الحقيقة حب يعتز أي كاتب بأن يحمل لك القراء مثله. والمنفلوطي فاز بهذا الحب من اجيال عديدة.

والغريب انني لما دخلت عالم الكتابة، لم أكن امتداداً لرومانسيتك، بل نقيضاً لها. ولكن الشعلة كانت تستمد منك زخمها وتأججها. وأتذكر الآن أني ظللت، مدة طويلة بعد رحيلك، أحسبك لا تزال بيننا، حتى عرفت ذات مرة عن طريق المصادفة انك مت في يوم الاعتداء على سعد باشا زغلول، فكان النبأ بالنسبة الي بمثابة صدمة كبيرة. وأعترف لك أن صورة كبيرة لك كانت معلقة على حائط غرفتي... كما اذكر أنني قرأت مقالة حادة وعنيفة للمازني يهاجم فيها المنفلوطي وطريقته وأسلوبه، فآلمتني لدرجة أنني لم أذق طعم النوم تلك الليلة. فمصر لم تكن تعرف كتاباً كثيرين مثل المنفلوطي، حتى أن سعر المجلة كان يرتفع من قرش صاغ الى قرشين عندما كان يكتب في أحد اعدادها.

إن انتشارك كان هائلاً، ولا يزال. فكم كانت دهشتي حين أعيد طبع أعمالك قبل سنوات، فلاحظت أنها نفدت كلها في وقت قليل. يبدو أن الرومانسية ما زالت مطلوبة عند القراء العرب.




1994




والى رسالة تالية...

تعليقات

الاعتراف فضيلة للأسف لا يمارسها في زمننا هذا إلا القليل القليل مع الأسف كل الأسف.
رسالة من قامة عالية في الأدب إلى قامة عالية مثلها،فلا عجب إن فاز صاحبها بأكبر جائزة عالمية تمنح للأدباء و المفكرين لحد الآن ،و لا عجب إن كان المرسل إليه هو واحد من الأدباء العرب الذين بصموا الأدب العربي الحديث ببصمتهم الذهبية.
 
أعلى