لا أعرف كيف تغيرت، أصبحتُ إنساناً آخر، كنت شاباً ساخراً ومستهتراً، وفاقد الثقة بكل شيء... لا شيء سيتغير سواءّ انضممت لخزبٍ سياسي، تكرّس له كل جهدك، أم وضعت ساقاً على ساق في مقهى، وجلست تراقب تفاصيل الحياة، لا بل إن التأمل الهاديء الرائق، وسط هذا الضجيج المتنامي، أفضل بدرجاتٍ من الإنغماس فيه، إذ ربما تفتح لك أبواب الحكمة!
ولكنّ مدّ وجزر الحياة، لم يتح لي مثل هذا الترف، لأكثر من لحظات قصيرة متقطعة، فالمشاهد المتقلبة تخطف بصري، وتشد انتباهي، وتغريني بالمشاركة، فربما أنجح لو حاولت في تحقيق المعجزة، بتغيير حياة ولو إنسان واحد..
ومن أعلى شرفة المقهى، لفتت نظري خطواتها القلقة، وترددها، والتنورة الفستقية الباهتة التي ترف على ساقبها، وقلت في نفسي هذه الفتاة بحاجة إلى المساعدة، هدتني لذلك غريزتي، وسرت موجة من الجرأة في دمائي، وقررت التدخل وهبطت الدرج مسرعاً، وحثثت خطاي خلفها، وحين أصبحت وراءها مباشرة، طلبت إليها أن تتوقف، بلا أي وازع من خوف أو تردد، استدارت نحوي وقالت بحدة نصفها غاضب ونصفها مصطنع، فالغارق في مشكلة لن يتردد في الإمساك بطوق النجاة لو ألقي إليه، لو تأكد من جدية من يلقي إليه به، ورغبته في إنقاذه:
- ماذا تريد؟
- أريد أن أساعدك!
- وما أدراك أنني بحاجة للمساعدة؟
- أنا ولي من أولياء الله!
انفرجت أساريرها عن ابتسامة خفيفة من تحت قناع الغضب والاحتجاج:
-لا يبدو عليك ذلك!
-هذا لأني متنكر كإنسان عادي، لا نستطيع أن نكشف شخصياتنا أمام كل الناس، وإلا ضاعت البركة!
وهنا لم تملك إلا أن تنفجر ضاحكة بشكل لفت أنظار بعض المارة، فاستعادت تماسكها على عجل، وقالت بصوت مرهق:
- حقا ماذا تريدّ؟
- أريد أن أساعدك!
وبنبرة مستيئسة أخيرة، ألقت إلي بالنداء :
- حسناً ساعدني إذن، إذا كنت تعرف ما هي مشكلتي!
- بالطبع أعرف، فليس في حقيبتك أية نقود، وقد استنفدت كل فرص الإقتراض، وكل الذين ذهبت إليهم للحصول على عمل حاولوا استغلالك، وأنت لست من ذلك النوع السهل، أنت من النوع المقاوم العنيد، أنت امرأة قوية ومقاومة ولا تستسلمين بسهولة، وقبل أن أتقدم لأعرض عليك المساعدة، كنت تدعين الله في سرك أن يفرج عنك بمعجزة، ولله تدابيره التي تنوب عن المعجزات..
كان وجهها قد اكتسى بجدية عميقة، وكنا قد قطعنا مسافة ونحن نسير جنباً إلى جتب دون أن نشعر، ومضينا في السير دون أن نقول شيئاً، وقطعتُ أنا هذا الصمت لأقول:
- والدي محامي وقد استقالت السكرتيرة التي تعمل عنده لتتزوج، غداً ستحلين محلها، العنوان بسيط وستحفظينه دون كتابة، فليس في حقيبتك ورقة ولا قلماً، أما اليوم فسأقرضك بعض النقود، وستردينها لي من مرتب آخر الشهر، فأنت لا تقبلين منة من أحد، عودي بحاجيات البيت، وإذا سألتك أمك العجوز من أين، قولي لها أنك حصلت على عمل عند المحامي فلان وأنك أخذت سلفة، ليس لك إخوة بالطبع، فأنت وحيدة أمك!
سأراك غدا في المكتب قلت وأنا أناولها النقود، فأخذتها باستسلام كامل، وإذا حدث أن نسيت العنوان تعالي إلى المقهى الذي قابلتك تحته، فسأنتظرك هناك إذا لم تحضري للمكتب في الموعد، فأنا جالس هناك معظم الوقت فأولياء الله متفرغون لطاعته دائماً ورزقهم كما رزق الجميع عليه هو وحده.
نزار حسين راشد
ولكنّ مدّ وجزر الحياة، لم يتح لي مثل هذا الترف، لأكثر من لحظات قصيرة متقطعة، فالمشاهد المتقلبة تخطف بصري، وتشد انتباهي، وتغريني بالمشاركة، فربما أنجح لو حاولت في تحقيق المعجزة، بتغيير حياة ولو إنسان واحد..
ومن أعلى شرفة المقهى، لفتت نظري خطواتها القلقة، وترددها، والتنورة الفستقية الباهتة التي ترف على ساقبها، وقلت في نفسي هذه الفتاة بحاجة إلى المساعدة، هدتني لذلك غريزتي، وسرت موجة من الجرأة في دمائي، وقررت التدخل وهبطت الدرج مسرعاً، وحثثت خطاي خلفها، وحين أصبحت وراءها مباشرة، طلبت إليها أن تتوقف، بلا أي وازع من خوف أو تردد، استدارت نحوي وقالت بحدة نصفها غاضب ونصفها مصطنع، فالغارق في مشكلة لن يتردد في الإمساك بطوق النجاة لو ألقي إليه، لو تأكد من جدية من يلقي إليه به، ورغبته في إنقاذه:
- ماذا تريد؟
- أريد أن أساعدك!
- وما أدراك أنني بحاجة للمساعدة؟
- أنا ولي من أولياء الله!
انفرجت أساريرها عن ابتسامة خفيفة من تحت قناع الغضب والاحتجاج:
-لا يبدو عليك ذلك!
-هذا لأني متنكر كإنسان عادي، لا نستطيع أن نكشف شخصياتنا أمام كل الناس، وإلا ضاعت البركة!
وهنا لم تملك إلا أن تنفجر ضاحكة بشكل لفت أنظار بعض المارة، فاستعادت تماسكها على عجل، وقالت بصوت مرهق:
- حقا ماذا تريدّ؟
- أريد أن أساعدك!
وبنبرة مستيئسة أخيرة، ألقت إلي بالنداء :
- حسناً ساعدني إذن، إذا كنت تعرف ما هي مشكلتي!
- بالطبع أعرف، فليس في حقيبتك أية نقود، وقد استنفدت كل فرص الإقتراض، وكل الذين ذهبت إليهم للحصول على عمل حاولوا استغلالك، وأنت لست من ذلك النوع السهل، أنت من النوع المقاوم العنيد، أنت امرأة قوية ومقاومة ولا تستسلمين بسهولة، وقبل أن أتقدم لأعرض عليك المساعدة، كنت تدعين الله في سرك أن يفرج عنك بمعجزة، ولله تدابيره التي تنوب عن المعجزات..
كان وجهها قد اكتسى بجدية عميقة، وكنا قد قطعنا مسافة ونحن نسير جنباً إلى جتب دون أن نشعر، ومضينا في السير دون أن نقول شيئاً، وقطعتُ أنا هذا الصمت لأقول:
- والدي محامي وقد استقالت السكرتيرة التي تعمل عنده لتتزوج، غداً ستحلين محلها، العنوان بسيط وستحفظينه دون كتابة، فليس في حقيبتك ورقة ولا قلماً، أما اليوم فسأقرضك بعض النقود، وستردينها لي من مرتب آخر الشهر، فأنت لا تقبلين منة من أحد، عودي بحاجيات البيت، وإذا سألتك أمك العجوز من أين، قولي لها أنك حصلت على عمل عند المحامي فلان وأنك أخذت سلفة، ليس لك إخوة بالطبع، فأنت وحيدة أمك!
سأراك غدا في المكتب قلت وأنا أناولها النقود، فأخذتها باستسلام كامل، وإذا حدث أن نسيت العنوان تعالي إلى المقهى الذي قابلتك تحته، فسأنتظرك هناك إذا لم تحضري للمكتب في الموعد، فأنا جالس هناك معظم الوقت فأولياء الله متفرغون لطاعته دائماً ورزقهم كما رزق الجميع عليه هو وحده.
نزار حسين راشد