رسالة سنان انطون إلى كامو..

عزيزي السيد كامو،
تحيات طيبة وبعد،
لي الشرف أن أكون ضمن هذا الجمع، وأن أتحدّث عنك وعن أعمالك في هذا المحفل. فلقد قرأتك بإعجاب عندما كنتُ شابّاً يحلم بأن يكون هو الآخر كاتباً في يوم ما. كالعادة عند التحدّث أو الكتابة عن أي موضوع، فإن المرء يفكّر بالشكل الأنسب. وكما ترى، فقد قررت أن الرسالة قد تكون خياراً جيّداً لمحاولة قول شيءمختلف، أو قول ما قد قيل، ولكن بصيغة مختلفة.
حين قرأت عنوان هذه الحلقة لأول مرة «كيف يمكن لأفكار كامو أن تقودنا إلى مستقبل هادئ؟» ولاحظت ثيمة المؤتمر «المتوسطيّة»، شعرت أنّني قد أكون «الغريب» هنا. فأنا لم أولد في بلد متوسطيّ (أعشق البحر). بل ولدت في بغداد، بالقرب من نهر دجلة. لكن ربما ظنّ المنظمّون أن لديّ روحاً متوسطيّة. أو لعلّهم دعوني كي أعبّر عن الروح اللامتوسطيّة! السبب الآخر الذي يجعلني أشعر بأنني الغريب في هذه الحلقة هو أنّني أكتب، عموماً، عن الماضي وعن أهوال الطغيان، والحروب، والاحتلال في وطني الأم، العراق. وأنا أميل إلى السوداويّة، كما أنني متشائم إزاء المستقبل، أو متشائل، في أحسن الأحوال. وهذه المفردة العبقرية نحتها الكاتب الفلسطيني العظيم، إميل حبيبي، الذي أحبّ البحر المتوسط ومدينة حيفا، على ساحله، في فلسطين. «المتشائل» واحدة من المفردات المحبّبة إليّ لأنّها تبلور محنة لا مفرّ منها في العالم الحديث ونحن نواجه واقعه وتناقضاته. فالتشاؤم الخالص ترفٌ لا يملك الكثيرون الوقت للانشغال به، كما أنّه يتاخم العدميّة. أما التفاؤل الخالص فهو غير واقعي، ويقودنا إلى خطر السذاجة، وينطوي على شيء من اللامسؤولية.
لقد طلب منّي المنظمون أن أتحدّث عن أفكار كامويّة يمكن أن تساعدنا في أن نطفو (كي نصل) إلى مستقبل هادئ! لا يمكن للمرء أن يفكّر بالمستقبل دون أن يتعرّض للحاضر وإلى سلالته، وبدون أن ينقّب في تاريخ «الآن». حاضرنا كان المستقبل الذي تحدّثت أنت عنه ذات يوم. وحاضرك أصبح الآن ماضينا. يقول وليام فوكنر إنّ «الماضي لا يموت أبداً. وهو حتى لم يمض بعد.» كلّما فكّرت بالعلاقة الجدليّة بين الماضي والحاضر تذكّرت ڤالتر بنيامين. ولابد أن أستحضر ذكراه، الآن وهنا، لأن حياته انتهت في موضع قريب من هنا. في بورتبو، في السابع والعشرين من أيلول، عام ١٩٤٠، حين كان يحاول الهروب من النازيين وعبور الحدود من فرنسا إلى إسبانيا.

ألبير كامو

لقد كتب بنيامين عن أشباح الماضي وضحاياه. أتخّيل حواراً يدور بينكما. ولعلكما تحاورتما أكثر من مرّة. لكن دعني أحدّثك عن الحاضر وعمّا نحن فيه الآن.
غالباً ما يُذْكرُ المتوسط (الذي يحتلّ، معك، عنوان هذا المؤتمر وثيمته) والذي يحتضننا في هذه الجزيرة الجميلة، كاستعارة لثقافة منفتحة وتعدّدية، وكترياق ضد القوميّات الفجّة وخطابات وممارسات الإقصاء والأحاديّة الثقافيّة. لكن المتوسط، كحيّز، هو العالم مصغّراً أيضاً. وهو مسرح لأكثر أزمات العالم كارثيّة ولمآسيه المستمرّة. فهو حيّز يفصل ويربط أوروبا بـ/عن آخر/يها. مسرح لمدّ وجزر من البشر والبضائع، ومن الثروات والفقر. مد وجزر من الأجساد التي لا يصل معظمها، بل تغرق في البحر وفي عمق النسيان، لكي تطعم فقدان الذاكرة الجمعي المزمن الذي نعاني منه.
كان المتوسط وسواحله مسرحاً لأكثر فصول التاريخ دمويّة ووحشيّة. وبقدر ما أرغب في أن أرى أن السواحل سواسية، لكنها تختلف كثيراً. ومثل كل شيء في عالمنا، فهي الأخرى تخضع لتراتبيات، وتعيد إنتاج اللامساواة التي تهيكل هذا العالم.
قبل ستة عقود كتبت أنتَ «إن دور الكاتب لا يخلو من المهام الصعبة. ولا يستطيع أن يضع نفسه اليوم في خدمة أولئك الذين يصنعون التاريخ، فهو في خدمة أولئك الذين يعانون من التاريخ.» أعجبتني هذه الكلمات كثيراً وأود أنّ أعلّق عليها لأتناول مشكلة تلازمني بشكل يومي. تختلف الكيفية التي يتم فيها تمثيل المعاناة، وتصويرها، وفهمها، باختلاف موقع، وعرق، وطبقة، وجنسية الذي يعاني أو تعاني. هذه كلها تحدّد الكيفيّة التي سيتم فيها تسجيل واستيعاب وقراءة المعاناة (هذا إذا سجّلت أصلاً). فللمعاناة والموت جغرافيا وتراتبيّة. ولا مساواة في معاناة وموت الآخرين. كما أن الطريقة التي ننظر من خلالها إلى موت الآخرين تعتمد على رؤيتنا إلى حيواتهم. وللأسف، فيبدو أن هناك حيوات أكثر استحقاقاً للأسى والأسف من غيرها، لأنها لم تكن حيوات كاملة بحسب فهم البعض.
لعل المثال الأكثر وضوحاً هو رد فعل العالم بعيد الهجمات الإرهابيّة. فحين يقع هجوم إرهابيّ في باريسك المحبوبة، أو في بروكسل، أو في غيرها من مدن أوربا وشمال العالم، فإنّه يعتبر هجوماً «ضد الحضارة والثقافة». ويتبعه حزن وحداد كونيّ وممارسات تحتضن الرموز الوطنيّة للبلد المهاجَم وتتماهى مع الضحايا. لكن حين يهاجم الإرهابيون بغداد، أو لاهور، أو دمشق، أو غيرها من مدن جنوب العالم، وهي الأخرى غنيّة بتاريخها الثقافي والحضاري، فإنّه محض هجوم إرهابي. وليس هجوماً على ثقافة أو حضارة. وتظل أسماء ووجوه الضحايا مجهولة ومنسيّة.
[ملصق التجمّع الأدبي المتوسطي بمناسبة الذكرى السبعين لفوز كامو بجائزة نوبل في منورقة، إسبانيا ٢٩ نيسان، ١ أيار، ٢٠١٧] عزيزي السيد كامو، لقد شكّكتَ كثيراً بأسطورة التقدّم وغائية التاريخ، وكنت على حق في ذلك. عالمنا اليوم هو عالم تنمو فيه اللامساواة والحدود والهوى. عالم تكبر فيه المجتمعات المسوّرة المحميّة وتتناسل. بعد سنة من وفاتك تم بناء جدار برلين. ولعقود كان رمزاً للحدود بين أيديولوجيتين تنتصر لهما قوتان عظميان وحلفاؤهما. وفي عام ١٩٨٩ سقط الجدار، وانهار الاتحاد السوڤييتي الذي انتقدته كثيراً بعد ذلك بفترة قصيرة. تم الاحتفال بذلك السقوط كانتصار نهائي للرأسمالية. وبلغت الحماقة بأحد المنظّرين الأمريكان، واسمه فوكوياما، أن يدّعي نهاية التاريخ. كنت ستختلف معه بالتأكيد. قد يعرف الكثيرون عن نقدك الشديد للسلطوية وللحكم الشمولي باسم الماركسية، لكنهم لا يعرفون عن دعواتك لإحياء تقاليد الكومونات ذاتية الحكم والاتحادات النقابية الثورية. قرأت مؤخراً عن إيمانك بضرورة وجود التعاونيّات واتّحادات العمّال ودعمك لحقهم في امتلاك المؤسسات التي يعملون فيها وأمور أخرى تبحث عن بديل للأطر الليبرالية الرأسمالية.
أذكّر بهذا لأن الأسطورة المهيمنة اليوم هي أسطورة الرأسمالية الليبرالية وغائيتها. ولا بد من التشكيك بها ومواجهتها ومقاومتها، أكثر وأكثر، إذا ماكان لنا أي أمل في المستقبل.
بدلاً من عالم ثنائي القطب، ينقسم إلى غرب حر ورأسمالي وشرق شيوعي، فإن عالمنا اليوم منقسم بين شمال وجنوب. والشمال والجنوب هنا لا يشيران بالضرورة إلى إحداثيات جغرافية، بل إلى تركيز الثروات والقوى والامتيازات. وهناك شمال في الجنوب وجنوب في الشمال. وهذه يهيكلها ويعيد إنتاجها العنف، المباشر والبنيوي، وإرهاب الدول، وحروب دائمة، بعضها مرئية وأخرى ليست مرئية، لكنها تغذي شراهة الشركات الكبرى والنخب الاقتصاديّة وحملة الأسهم. (لعلك تتساءل الآن: هل كاتب الرسالة ماركسي غاضب؟).
ذكرى الكاتب وتراثه يصبحان حيّزاً نطرح من خلاله أسئلة نقدية مهمة. ولديّ عدد من الأسئلة: لو عشت مدة أطول فما الذي كنت ستكتبه؟ وكيف كان مسارك سيتغير؟ هل كنت ستضمّن رواياتك شخصيات جزائريّة عميقة ومتعددة الأبعاد، بدلاً من الشخصيات الهامشيّة والنكرات التي تظل في ضباب الخلفيّة؟ هل كنت ستراجع مواقفك ومقولاتك عن الجزائر وفرنسا، وعن فرنسا في الجزائر، والجزائر بعد فرنسا؟ هل كنت ستغيّر موقفك الذي ساوى بين حقوق المستعمرين-المستوطنين وبين حقوق أهل البلاد؟ أطرح هذه الأسئلة بصدق وسأكون مخادعاً لو لم أصارحك بما يدور في بالي. لا بد لنا من مواجهة ما لا يمكن تلافيه إذا أردنا أن نراجع التاريخ وآثاره. أطرح هذه الأسئلة لأن الفاصلة بين الجزائري-الفرنسي، والتي تسبق اسمك أحياناً، تختزن تاريخاً من العنف والاستعمار الاستيطاني.
وهذا يقودني إلى ما بعد الاستعمار. تُقرأ كتاباتك وتحلّل كثيراً في سياق دراسات ونظريات ما بعد الاستعمار. هناك من يسئ قراءة وفهم الـ «مابعد» على أنها نقطة ختام ونهاية. لكنها يجب أن تقرأ في سياق الديناميكيات والبنى والشروخ التي ولّدها الاستعمار والتي ما زالت آثارها ملموسة وفعّالة. ومع أن الاستعمار العسكري انتهى في معظم أنحاء العالم، فإن الآثار الماديّة والخطابيّة ما زالت. والأمثلة كثيرة وواضحة، من فلسطين إلى الولايات المتحدة، حيث يعاني أحفاد المستَعْمَرين وأحفاد المُسْتَعْبدين من عنف الدولة واللامساواة وظلم القانون بشكل يومي.
لقد كتبتَ في ما مضى «لا شك أن كل جيل يشعر بواجبه في إصلاح العالم. جيلي يعرف بأنه لن يصلحه، لكن واجبه أكبر بكثير من ذلك. وهو الحيلولة دون قيام العالم بتدمير نفسه. جيل ورث تاريخاً فاسداً تختلط فيه ثورات فاشلة وتكنولوجيا أصيبت بالجنون وآلهة ميتة وأيديولوجيات متعبة. هناك قوى تافهة بإمكانها أن تدمّر كل شيء لكنها لا تعرف كيف تقنع. ينحدر الذكاء إلى الحضيض ليصبح خادماً للكره والاضطهاد. . . في عالم مهدد بالتفتت، يعرف جيلنا أن عليه، في سباق جنوني مع الزمن، أن يعيد بين الأمم سلاماً ليس خضوعاً، وأن يصالح بين العمل وبين الثقافة، ويبني من جديد، مع كل البشر، فلك نوح.»
ما أشرت إليه قبل ستة عقود ينطبق على عالم اليوم. فواجبنا هو أن نمنع العالم من تدمير نفسه. كان شبح الحرب النوويّة بين القوتين العظميين يخيم على العالم حين كتبت كلماتك هذه. أكتب إليك اليوم من عالم فيه قوة عظمى واحدة، روما الجديدة في واشنطن، وفيها نيرون جديد. هناك قوة صاعدة في الشرق، لكنها لم تكسف الولايات المتحدة بعد. والمفارقة هي أن خطر الحرب النووية يعود إلى المشهد هذه الأيّام. لكن الخطر الأكبر على كوكبنا وكل من وما يعيش عليه هو الخراب البيئي الذي يستمر بمباركة ولاهوت رأسماليّة متوحّشة وأسطورة التقدّم التي تتشدّق بها.
أود أن أذكّرك وأذكّر نفسي بما كتبته أنت عن المستقبل: «إنّ الكرم الحقيقي إزاء المستقبل يكمن في إعطاء كل شيء للحاضر.»
أرجو ألا أكون قد أطلت رسالتي أكثر من اللازم. شكراً لأنك قرأتها. فأنت، بالتأكيد، تتلقى الكثير من الرسائل. أتطلع إلى ردك، وأرفق طيّاً عنوان بريدي الإلكتروني (قد يكون لديكم وايفاي؟).

المخلص
سنان أنطون





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى