لا أنكر أن حظوة التكريم التي حفَّني بعنايتها اليوم هذا المركز الثقافي العريق، جعل تفكيري يشرُد في كل الشعراء المغاربة الأحقُّ بالتوهج في هذه الهالة الضوئية مكاني، فمنهم الأحياءُ ومنهم أرواح هائمة في كل مكان، رحلوا وفي أنفسهم حسرةٌ يتأبطون بدل الضوء ظلا، أما أنا فكثرة الأضواء تعميني، ولشدَّ ما أخشى أن تصيبني من أشعَّتها مع هشاشةٍ في العظام شللُ الأفكار الذي يضرب النِّسْغَ في الأقلام..!
ما أكثر من فاز بجائزة فكانت مسمارا أخيرا في نعش تجربته الإبداعية قبل الجنازة، وما أكثر النَّحلَ من كل النِّحل والمِلل الأدبية، أخطأ التحليق ولم ينتبه لإشارات الأشجار في البراري تدله على موضع الرحيق في الزهور، فانغمس وغمَّس ساقطاً في صحن مُترعٍ بِعسل التكريمات حتى فقد حاسة الذوق، كان أحْرى به أن يرْشِفَ في معنوياته ما يجعل أيامنا بذائقته الإبداعية أحْلَى، لكن ماذا نصْنع وقد التصق العسل بجناحيه فضيَّع القُدرة على الطيران وانقلب مصيره الحُلْوُ مُرّاً..!
لا أعرف إذا ما كان يُناسبني التكريمُ عُمُرياً وشِعْرياً بعد أن راكمتُ من السِّنينِ خمسة عقود، عبثا أحاول فسْخَها كعقود البيع والشراء لأُحرِّرني من رِبْقة الزمن، ذلك أن مجتمعنا للأسف ما زال بأرقام العُمر يُفرِّقُ بين الناس كما في الوظيفة بسُلَّم الأجر، هذا كبير وذاك أقرب لرحم أمه يحبو صغيرا، والنتيجة فقدان الثقة في الأنفس بعد أن اختلَّ بظُلم التفريق الميزان الذي لا يعرفُ من حيثُ مبدإ الإبداع سِنّاً، فثمة من شَرب عقْلَه عِتيّاً ولو مع كأس نبيذ، وهنالك أقصى الهامش من يزن بِرجَحانِه بلدا ومع ذلك قمعته النظرة الشوفينية التي تعمُّ مجتمعنا فلم يصل مبلغَ الرُّشْدِ ما دام يعْمَه في ضَلالة الشباب، وليتهُم يعترفون وهم خالدون في كراسيهم لا يستطيعون كالمسامير عن خشبها فكاكا، أنَّنا سنصير يوماً ذلك الشيخ الذي يُغافل الجميع ليقفز من خلف الأستار على الأعمار عائدا إلى صباه..!
اُقِرُّ أني تجاوزْتُ العُمُريَّ إلى الشِّعْرِيِّ بالطفل الذي يسكنني مجانا مُحتلا مقر جسدي ولا أطالبه بدفع ثمن الإيجار، فأضطر لدفع ثمن شغبه المقرون بِحِكْمة سرقة النار باهظا، وذلك مما كلَّف بعضَ الشعراء الحياة، هل يصح القول إني انتصرت بهزائم الشِّعريِّ على العمري، وماذا يَضِيرُ أنْ أؤرخ لميلادي بأوَّل ديوان أصْدَرْتُه فكأني بعد أنْ أردفْتُه بثلاثِ مجموعاتٍ شعرية اُخَر أجعل سنوات عمري السحيقة في الطفولة بعَدد دواويني أربعاً، أما باقي كتاباتي ففي حوزة الناشر تحت الدمع، لكنني أعترف أن كل محاولاتي للارتقاء في سلم الإنسان الذي هو أنا باءت بالزَّلل وما زال فهمي تُجاه نفسي قاصرا، عزائي الوحيد أنني أكرِّر الخطأ بنفس الإصْرار دون يأسٍ أو كسْرٍ في الإيقاع، أريد بهذا الصنيع أن أحقق النضارة لثمرة تجربتي الشِّعرية حفاظاً على حداثة سنها، أليس التَّجربةُ حين تصل للذروة تُصبح بالدوران حول نفسها تقليدا ويدركها بعد النضج عطبُ السقوط، لكنني وأنا أكرِّر الخطأ أجد كل الصفح في الشعر فلا أكرِّر القصيدة..!
هؤلاءِ الأدباءُ والنقادُ الذين قدِموا اليوم من مسافات بعيدةٍ بأميالها قريبة من الروح في مَيْلها، لكي ينبضوا بذكري في قلوبهم بشهادات التكريم، أشهد والتاريخ قرينٌ يكتبُ للأسوء سيئاته وللأحسن حسناته، أنَّهُم أحقُّ مني بالحفاوة للتَّراكم الأدبي والفكري والإبداعي الذي أسْدَوه للثقاقة المغربية والعربية بنكرانِ ذات، فهُمُ الأجدر أن نأخذ من زمنية هذه اللحظات المنذورة لتكريمي والخالدة في رمزيتها، لنضاعف في أعمارهم الحياة أمدها الله وعاشوا أبدا، أما شِعري فلم ينْفعني عساه لا يضر أحداً، ولا أبالغ إذا قلتُ إنِّي في حضرة هذه الشخصيات الجليلة أقفُ هذا المساء خجلا وهي تُحدثني عن نفسي لعلي بعد جهل أعرفها، سيكون الوضع أهونَ مُريحاً لو كنت الآن مُستميتاً أهيِّء ملف تكريم لأحد هؤلاء الأساتذة الفُضلاء في عدد خاص بالملحق، فمن أكون في مُلك الله ليتحدَّثوا عن ما اقْتَرفْتُه باسم الأدب من شغب، من أكون ومنهم من يكْتَنِف من الأعمال مكتبةً لوحده، أرجوكم لا تجعلوني أمُدُّ عُنُقي مُتطاولاً فلستُ ممن يعْتصِمون بالجبل واهِمين عُلوّاً مزعوماً..!
يقول المثل المغربي: المعروضة من الخير، فكيف لا ألبِّي هذه الدَّعوة الكريمة وأنا أطأُ في طريقي إلى مراكش المبثوثةِ وردةً بين الجبال، كل النَّرجس في ذاتي لأقهر شيطان أنانيتي، كيف لا آتي على أهداب عيني والمعروضة هذه المرّة من الشِّعر وتحديداً من شاعر لا يُمكن القول عنه وهو يفتح مركزاً يحُفُّ أهل الفكر والشِّعر بالعناية إلا أنَّ عدد الصَّالحين في مراكش قد صاروا بالشاعر والإعلامي مصطفى غلمان عوض سبعةٍ ثمانيةَ رجال..!
(افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس 27 يونيو 2019، وهي شهادة قدمتها في ندوة خصَّصها مركز عناية بمراكش للإحتفاء بتجربتي الشعرية والإعلامية التي كما أسْلفتُ ذات تدوينة ما زلتُ أُجرِّبها، فلا تكاد تستقيم من جهة حتى تنبري مائلة من موضع آخر، وقد شارك في هذه الندوة الأساتذة: محمد زهير، حسن المودن، مصطفى غلمان، محمد مصطفى القباج (بعث كلمة لِتعذُّر الحضور)، رشيد منسوم، محمد تنفو، عزيز أيت بنصالح وجمال أماش).
ما أكثر من فاز بجائزة فكانت مسمارا أخيرا في نعش تجربته الإبداعية قبل الجنازة، وما أكثر النَّحلَ من كل النِّحل والمِلل الأدبية، أخطأ التحليق ولم ينتبه لإشارات الأشجار في البراري تدله على موضع الرحيق في الزهور، فانغمس وغمَّس ساقطاً في صحن مُترعٍ بِعسل التكريمات حتى فقد حاسة الذوق، كان أحْرى به أن يرْشِفَ في معنوياته ما يجعل أيامنا بذائقته الإبداعية أحْلَى، لكن ماذا نصْنع وقد التصق العسل بجناحيه فضيَّع القُدرة على الطيران وانقلب مصيره الحُلْوُ مُرّاً..!
لا أعرف إذا ما كان يُناسبني التكريمُ عُمُرياً وشِعْرياً بعد أن راكمتُ من السِّنينِ خمسة عقود، عبثا أحاول فسْخَها كعقود البيع والشراء لأُحرِّرني من رِبْقة الزمن، ذلك أن مجتمعنا للأسف ما زال بأرقام العُمر يُفرِّقُ بين الناس كما في الوظيفة بسُلَّم الأجر، هذا كبير وذاك أقرب لرحم أمه يحبو صغيرا، والنتيجة فقدان الثقة في الأنفس بعد أن اختلَّ بظُلم التفريق الميزان الذي لا يعرفُ من حيثُ مبدإ الإبداع سِنّاً، فثمة من شَرب عقْلَه عِتيّاً ولو مع كأس نبيذ، وهنالك أقصى الهامش من يزن بِرجَحانِه بلدا ومع ذلك قمعته النظرة الشوفينية التي تعمُّ مجتمعنا فلم يصل مبلغَ الرُّشْدِ ما دام يعْمَه في ضَلالة الشباب، وليتهُم يعترفون وهم خالدون في كراسيهم لا يستطيعون كالمسامير عن خشبها فكاكا، أنَّنا سنصير يوماً ذلك الشيخ الذي يُغافل الجميع ليقفز من خلف الأستار على الأعمار عائدا إلى صباه..!
اُقِرُّ أني تجاوزْتُ العُمُريَّ إلى الشِّعْرِيِّ بالطفل الذي يسكنني مجانا مُحتلا مقر جسدي ولا أطالبه بدفع ثمن الإيجار، فأضطر لدفع ثمن شغبه المقرون بِحِكْمة سرقة النار باهظا، وذلك مما كلَّف بعضَ الشعراء الحياة، هل يصح القول إني انتصرت بهزائم الشِّعريِّ على العمري، وماذا يَضِيرُ أنْ أؤرخ لميلادي بأوَّل ديوان أصْدَرْتُه فكأني بعد أنْ أردفْتُه بثلاثِ مجموعاتٍ شعرية اُخَر أجعل سنوات عمري السحيقة في الطفولة بعَدد دواويني أربعاً، أما باقي كتاباتي ففي حوزة الناشر تحت الدمع، لكنني أعترف أن كل محاولاتي للارتقاء في سلم الإنسان الذي هو أنا باءت بالزَّلل وما زال فهمي تُجاه نفسي قاصرا، عزائي الوحيد أنني أكرِّر الخطأ بنفس الإصْرار دون يأسٍ أو كسْرٍ في الإيقاع، أريد بهذا الصنيع أن أحقق النضارة لثمرة تجربتي الشِّعرية حفاظاً على حداثة سنها، أليس التَّجربةُ حين تصل للذروة تُصبح بالدوران حول نفسها تقليدا ويدركها بعد النضج عطبُ السقوط، لكنني وأنا أكرِّر الخطأ أجد كل الصفح في الشعر فلا أكرِّر القصيدة..!
هؤلاءِ الأدباءُ والنقادُ الذين قدِموا اليوم من مسافات بعيدةٍ بأميالها قريبة من الروح في مَيْلها، لكي ينبضوا بذكري في قلوبهم بشهادات التكريم، أشهد والتاريخ قرينٌ يكتبُ للأسوء سيئاته وللأحسن حسناته، أنَّهُم أحقُّ مني بالحفاوة للتَّراكم الأدبي والفكري والإبداعي الذي أسْدَوه للثقاقة المغربية والعربية بنكرانِ ذات، فهُمُ الأجدر أن نأخذ من زمنية هذه اللحظات المنذورة لتكريمي والخالدة في رمزيتها، لنضاعف في أعمارهم الحياة أمدها الله وعاشوا أبدا، أما شِعري فلم ينْفعني عساه لا يضر أحداً، ولا أبالغ إذا قلتُ إنِّي في حضرة هذه الشخصيات الجليلة أقفُ هذا المساء خجلا وهي تُحدثني عن نفسي لعلي بعد جهل أعرفها، سيكون الوضع أهونَ مُريحاً لو كنت الآن مُستميتاً أهيِّء ملف تكريم لأحد هؤلاء الأساتذة الفُضلاء في عدد خاص بالملحق، فمن أكون في مُلك الله ليتحدَّثوا عن ما اقْتَرفْتُه باسم الأدب من شغب، من أكون ومنهم من يكْتَنِف من الأعمال مكتبةً لوحده، أرجوكم لا تجعلوني أمُدُّ عُنُقي مُتطاولاً فلستُ ممن يعْتصِمون بالجبل واهِمين عُلوّاً مزعوماً..!
يقول المثل المغربي: المعروضة من الخير، فكيف لا ألبِّي هذه الدَّعوة الكريمة وأنا أطأُ في طريقي إلى مراكش المبثوثةِ وردةً بين الجبال، كل النَّرجس في ذاتي لأقهر شيطان أنانيتي، كيف لا آتي على أهداب عيني والمعروضة هذه المرّة من الشِّعر وتحديداً من شاعر لا يُمكن القول عنه وهو يفتح مركزاً يحُفُّ أهل الفكر والشِّعر بالعناية إلا أنَّ عدد الصَّالحين في مراكش قد صاروا بالشاعر والإعلامي مصطفى غلمان عوض سبعةٍ ثمانيةَ رجال..!
(افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس 27 يونيو 2019، وهي شهادة قدمتها في ندوة خصَّصها مركز عناية بمراكش للإحتفاء بتجربتي الشعرية والإعلامية التي كما أسْلفتُ ذات تدوينة ما زلتُ أُجرِّبها، فلا تكاد تستقيم من جهة حتى تنبري مائلة من موضع آخر، وقد شارك في هذه الندوة الأساتذة: محمد زهير، حسن المودن، مصطفى غلمان، محمد مصطفى القباج (بعث كلمة لِتعذُّر الحضور)، رشيد منسوم، محمد تنفو، عزيز أيت بنصالح وجمال أماش).