وداد طه - خُذْني إلى البيت!.. قصة قصيرة

حين عاد، كان كلُّ شيء على حاله. الناس ما زالوا كما تركهم منذ ربع قرن. أمُّه ما زالت تبحث عن نظّارتها الطبّيّة كلَّ ليلة، تروح وتجيء، تتمتم متأفّفةً من تصرّفات أخته زهيّة، التي جعلتْ خادمتَها أمّ حسيب تتركها وترحل إلى غير رجعة.

لا يدري كمْ تغير هو نفسُه، لكنّه ما زال يمقت الضجيجَ ويهوى الخروجَ ليلًا. يقصد دكّانَ علي جمعة ليشتري السجائر. ينساب في الشوارع المعتمة بخفّة، ثمّ يعود إلى غرفته المطلّة على البحر. يفتح الشبّاكَ العالي، ويشرع جسدَه العاريَ للهواء، في بيت العائلة القديم، في البلد القديم، حيث صوتُ البحر يأتيه مع النسيم الخفيف. وحده صوتُ البحر ليلًا كان يعيده إلى ذلك المكان الذي طالما هرب منه من غير أن يعرفَ السبب. لطالما أغلق والدُه بابَ البيت بقفلٍ حديديّ كبير، محاولًا ثنيَه عن التأخّر ليلًا، لكنّه كان يعود دومًا إلى شوارع بيروت حين يرى البابَ مغلقًا. يهاتف “دارين،” أو يتوجّه مباشرةً إلى بيتها. تلاقيه ويمشيان حتّى الصباح.

***

كعادته كلَّ ليلة، كان قاصدًا الكورنيشَ على درّاجته. وإذ به يصطدم بامرأة. صرختْ ووقعتْ أرضًا. سارع نحوها. مدّ يدَه، فالتمع خاتمٌ يعرفه.”أما زلتِ مجنونة؟” قال وهو يرفع دارين عن الأرض. “خذني إلى البيت،” ردّت، وهي تتكّئ على ساعده وتنظر إلى وجهه.

ابتسم. شعر أنّها لا تعرفه. لم يُفاجأ؛ فقد تغيّر شكلُه كثيرًا. أخرج من علبة صغيرة في مؤخّرة الدرّاجة شاشًا وزجاجةَ سبيرتو. ضمّد جرحَ ساقها. أجلسها على صخرة قرب الشاطئ. نظر إليها طويلًا، وظلّت تنظر إليه طويلًا. استعاد صورًا ظنّ أنّها ماتت: لمسةَ يدها الخفيفة، تنّورتَها اللامبادا القصيرة، شعرَها الكستنائيّ، ضحكتَها الصغيرة، غمّازتيها العاجيّتين. ابتسم بحنان، ثمّ بكى بصمت حين كرّرتْ بصوت متهدّج: “هل تعرف الطريقَ إلى بيتنا؟”

***

في مكتبٍ مفروشٍ بالجلد الأسود اللامع، في وسط بيروت، جلس السيّد كارلوس سلامة أمامه ينفث دخانَ سيجاره الكوبيّ في وجهه. لم تفلح كلُّ محاولات “رضا” إقناعَه، لكنّه كلّما همّ بالانصراف، تذكّر أنّ هذا اللقاء فرصتُه الأخيرة والوحيدة للزواج من دارين. لقد نصّب السيّد كارلوس نفسه محاميًا عن المسيحيّة، وأبرز بشراسةٍ كبيرةٍ مهاراتِه كمحامٍ عتيق في مناهضة الإسلام، وفي اتّهام كلّ مسلمٍ بالإرهاب. لم يفهم “رضا” كيف يمْكن شخصًا متعلّمًا ومثقّفًا أن يكنّ كلَّ تلك العداوة لمن يختلف معهم في تفصيلٍ صغيرٍ كالمذهب أو الدين. لطالما اعتقد أنّ الإنسان اخترع هذا الوهمَ كي يمتلك الحقّ ويضمن جنّةً بعيدةً، فيما هو يخسر معنى الحياة. وهذا تمامًا ما يؤكّده له كلام كارلوس سلامة: “… هاتِ لي مسلمًا واحدًا يعتقد أنّ الخمر، الذي داوى به المسيحُ، ليس حرامًا.”

ــــ سيّد كارلوس، أنا لا أفهم علاقةَ هذا الموضوع بزواجي من دارين. نحن مجرّد شابّيْن متحابّيْن. ما شأنُنا بالخلافات بين محمّد وعيسى وأنصارهما؟

ــــ هذا هو جوهر الموضوع يا سيّد رضا. كيف سيصمد زواجٌ مبنيٌّ على خلافاتٍ عمرُها آلاف السّنين؟ هل ستعمّدان أولادَكما مثلًا؟ هذا موضوع جوهريّ بالنسبة إلينا. دينُك يرانا كفّارًا سذّجًا نصلب الله على خشبةٍ في النهار، ونتضرّع لقوّته ليلًا.

ــــ مع احترامي لكلامك ولكنّك تضخّم الموضوعَ يا عزيزي. فأنا عَلمانيّ حرّ، أنظرُ إلى روح الإنسان، لا إلى خانة صغيرة في بطاقة هويّته.

ــــ دارين ليست عَلمانيّة. هي مسيحيّة، من صلبٍ مسيحيّ، وستبقى كذلك ما دمتُ على قيد الحياة.

صمت كارلوس سلامة قليلًا ثمّ أضاف بنبرة باردة:

ــــ وأنت تعرف نفوذي في البلد.

***

لم يرَ دارين بعدها إلّا الآن: امرأةً تركتْ شعرَها يصطبغ بزبدٍ أبيضَ خفيف. نحيفة. سمراء. هرمة. هائمة في شارعٍ مظلم. خرجتْ من بيت حفيدها معن، تريد العودةَ إلى بيت طفولتها في البلد العتيق.

ظلّ رضا يومين يتخبّط في ذكرياته، يستعيد تلك الأحاديثَ الصّغيرةَ التي كانا يتبادلانها وهما هائمان في شوارع بيروت. الآن، بعد ربع قرن من العلاقات والسفر بين البلدان، ها هو يرى إلى تلك الأيّام بكثيرٍ من الامتنان والصفاء. صحيح أنّه احتاج سنواتٍ كي يستعيدَ عافيتَه، ويمشيَ في ركب الحياة من جديد، إلّا أنّه يعرف أنّ الفكر الذي صَلب قلبَه على خشبةٍ قد جعله يقوم حقًّا من سبات مجتمعٍ يحيا على حافّة بركان الطائفيّة.

قصد بيتَ معن، حفيدِ دارين. لم تخرجْ للقائه. قالت إنّه غريبٌ ولا تعرفه. جلس مع معن وتحدّثا. عرف منه أنّها باتت تخرج ليلًا، وقد أخبرهم الطبيبُ أنّها قد لا تعود، ولذلك يضعون عنوانَ البيت في جيب قميصها، ولولا ذلك لما عرف رضا كيف يعيدُها إليهم. أثنى رضا على كلامه، وأكّد أنّه مستعدٌّ لأيّة مساعدة. أطرق معن ثمّ قال: “نحتاج إلى مَن يجالسها. لم تتقبّلْ أيًّا من الممرّضين الذين أتينا بهم؛ فقد باتت صعبةَ المراس.” ثمّ أردف بنبرةٍ فيها من الرجاء أكثرُ ممّا فيها من السؤال:

ــــ ألديكَ وقتٌ لذلك؟ أعلمُ أنّك هنا في إجازة قصيرة. ساعتان في اليوم ستفيان بالغرض، وبعدها أكون قد عدتُ من عملي. ثمّ نتناوب أنا والأولاد وزوجتي على العناية بها.

أطرق رضا، ثمّ قال:

ــــ لكنّها لم تتقبّلْني. فكيف سأعتني بها؟

ــــ بلى، لقد رأيتُها تقف خلف زجاج الباب، وهي لا تفعل هذا عادةً مع مَن لا تعرفهم أو ترفضهم. لكنْ، لا عليكَ. سأتدبّر أمري. هي جدّتي ولن أقصّر في معاملتها. شكرًا لزيارتك سيّد رضا. أعتذر؛ عليّ الخروج.

مدّ يدَه. صافحه رضا وهو شبهُ غائب عن الوعي. خرج وقبل أن ينقل رجلَه عن عتبة الباب مودِّعًا، لمح شبحَها يقف خلف الزجاج. شدّ على يد الرجل. ليلًا، هاتفَه، واتّفقا على موعديْن في الأسبوع. كان عليه أن يقرأ عن مرضها كي يعرف كيف يعاملها، وأن يهاتف صديقَه “سليم” كي يطمئنّ إلى حاله ويخبرَه بتأجيل موعد سفره.

***

في اليوم الأوّل لزيارته دارينَ، شعر بانقباضٍ في معدته وهو يرنّ الجرس. لوهلةٍ، همّ بالرحيل. إلّا أنّ سهير، بنتَ معن الصغرى، الشقراءَ ذات العينين الواسعتين، فتحت البابَ واستقبلتْه ببسمةٍ حلوةٍ بعثتْ في جسده بعضَ الراحة. قالت وهي تشير إلى الصالون: “تفضّلْ. جدّتي لن تصحو قبل ثلاث ساعات، سيكون أبي قد حضر خلالها. سأقصد النادي خلال دقائق. شكرًا لاهتمامك بجدّتنا.” هزّ رضا رأسَه أنْ لا داعي للشكر. لكنّ الشابّة اليافعة لم تره، إذ كانت لاهيةً بتلفونها وهي تؤكّد لصديقٍ ما أنّها في الطريق إليه.

كانت دارين ترقد في سريرها، كملاكٍ يتمدّد بين الوسائد البِيض. جلس قربها على حافّة السرير. تلهّى بقراءة كتابٍ حمله معه، لكنّ الذكريات كانت أقوى من الحاضر، فلم يفهم شيئًا ممّا قرأه. أمسك قلمَه وأخرج من جيبه دفترًا صغيرًا. كتب: “هناك لحظاتٌ تترك بصمتَها فينا مهما غابت بعيدًا في متاهاتنا المظلمة. هناك مَن يبقوْن أحياءَ مهما تبدّلتْ أهواؤنا وطال الزمن. وهناك مَن يمْلكون الروحَ بلا شروط؛ فهم يعودون إلينا، ونعودُ إليهم، مهما تفرّقت الدروبُ…”

تململتْ دارين. استوى في مكانه، وتنبّه إلى أنّه يستلقي بقربها، ويحيط رأسَها بذراعه. قام سريعًا وجلس في كرسيّه. رنا إليها وهي تستفيق. بدا وجهُها أصغر، بهيًّا، تحيطه هالةُ نور. نظرتْ إليه وابتسمتْ. تساءل إنْ عرفتْه. قالت من دون مقدِّمات: “كيف عرفتَ طريقَ البيت؟ شكرًا أنّك جئتَ بي إلى هنا. هل أُحْضر لك شايًا؟”

قفزتْ من مكانها. قصدت المطبخ، ووضعتْ إبريقَ الشاي على النار. جاءت بكبّايتيْن شفّافتيْن، وقالت وهي تضعهما على الصينيّة: “أعرفُ أنّك تحبّ رؤيةَ لون الشاي الأحمر من خلال الزجاج…”

لم يكن رضا يفهم ما يجري. كيف استفاقت امرأةٌ سبعينيّة، وعادت ابنةَ عشرين، متوقِّدةَ القلب والجسد؟ اقتربتْ وهي تحمل الصينيّة. وضعتْ صحنَ البسكويت وغمزتْه، مشيرةً إلى حبّه غمسَ البسكويت في الشاي. عدّلتْ وضعَ بلوزتها، إذ بان منها صدرُها وهي تجلس قربه وتُناوله الشاي. كان يحتاج إلى لمس كوب الشاي الساخن كي يتأكّد أنّه يقظٌ لا يحلم.

تحدّثا طويلًا. أخبرتْه عن زوجها المتوفّى منذ خمس سنوات. عن عملها في مصرف لبنان بعد سفره. عن خضوعها لعمليّة قلبٍ مفتوح، جعلت والدها يرضى بأيّ عريس، ولو من غير طائفتها، كحال “مازن،” زوجِها. سألتْه عن النِّسوة اللاتي عرفهنّ. لم تُخفِ غيرتها: “…لكنّك أحببتَني أكثرَ منهنّ، أليس كذلك؟ وإلّا، فلِمَ لم تتزوّجْ حتّى الآن؟!” ابتسم رضا. لم يجبها. لا داعي لأن يقضّ مضجعَها بأخبار “سليم.”

أكمل كلامَه عن رحلاته، وعمله في أكثر من بلد، ودراستِه علمَ النفس، ونيّتِه إكمالَ دراسة الطبّ. استغربتْ دارين، فأكّد لها أنّ العمر لا يحدِّد هويّة الإنسان أو مصيرَه. هنّأها على الأوسمة والشهادات التي تعلّقها على جدران غرفة الجلوس. سألها عن والديها، فقالت إنّ والدتَها توفّيتْ بالسرطان، وأنّ والدها مات في الحرب الأخيرة، حين قُصف منزله ووَجدوا جثّتَه تحت الرُّكام وهو يمسك الإنجيل.

كانت تتكلّم بكامل حضورها ووعيها، ولكنّه احتاج إلى لمسها كي يتيقّن من حقيقتها. مدّ يدَه نحو خدّها، فأغمضتْ عينيها. اقترب أكثر، فشعر بحرارة لهاثها فوق عينيه وشفتيه. استسلما لقبلةٍ، اعترضها دخولُ معن فجأةً.

اعتدلا، ولم يكترث أيٌّ منهما لنظرة الدهشة التي علت وجهَ معن. قال رضا: “أعود بعد غد في الوقت ذاته.” خرج ولم يلتفتْ مودِّعًا دارين، التي توجّهتْ إلى باب غرفتها واستندتْ طويلًا إلى الزجاج.

***

بعد يومين، قصد رضا بيتَ معن. طرق البابَ فلم يُفتح له. همّ بالرّحيل. وإذ بباب البيت المقابل يُفتح. سأله رجلٌ يستتر بالباب عمّن يريد. “أنا صديق العائلة،” ردّ رضا ،”ولا بدّ من أنّني أخطأتُ التوقيت. هل اليوم هو الأربعاء؟”

“أجل هو الأربعاء،” ردّ الرجل، “لكنْ سيّد معن غير موجود هنا يا أستاذ. هذا باب بيتي من الجهة المقابلة، وأنت تزعج طفلتي النائمة.”

اعتذر رضا، وهمّ بالرّحيل، فأضاف الرجل:

ــــ السيّد معن رحل عن البيت منذ خمس سنوات، حين توفّيتْ والدتُه التي عانت طويلًا مرضَ الزهايمر. المسكين عانى معها أيضًا. باتت تهرب كلَّ ليلة، تبحث عن بيتها الذي هدمتْه الحرب. تفضّل أستاذ، أدخلْ، يبدو عليك التعب. هل تقصدهم من مسافة طويلة؟

لم يجب رضا. هزّ رأسَه امتنانًا. نزل الدرَج. مشى في شوارع بيروت ساعاتٍ وساعات. تلك المحالّ، المقاهي، الأسواق، الوجوه العابرة، البواخر الراسية، الميناء العتيق، اللافتات، السيّارات، الصراخ، الدخان… جلس على الرصيف. أمسك رأسَه يبحث عن ملجأ من ذلك التّيه، فشعر بحرارة الشمس فوق صلعته. قام من مكانه. وما كاد يخطو خطوتين حتّى سقط أرضًا.

في بيته الجبليّ المحاطِ بأشجار الصنوبر، كان في سريره حين تلقّى اتّصالًا من سليم يخبره أنّه سيأتي أقربَ ممّا يتوقّع. ابتسم. وما كاد يقفل الخطّ حتّى انفتح بابُ الغرفة ورآه واقفًا، فاتّسعت ابتسامتُه وفتح ذراعيْه. اقترب سليم وعانقه طويلًا، ثمّ اندسّ في الفراش إلى جانبه. خلع قميصَه الأزرق الكتّانيّ وأحاطه بذراعيه.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى