عياد أبلال - قراءة سيميو-أنثربولوجية (1) دلالة الجسد الأنثوي في الصورة الإشهارية

سنتناول في مقالنا هذا موقع الإشهار في الحياة العامة والخاصة استنادا إلى تصور يصالح بين السميوطيقي والأنتروبولوجي. وسنقوم بذلك بدراسة الأبعاد التالية: من خلال الحديث عن: الهويةوالتمثيل البصري والجمالية وبناء المعنى, الغاية الإشهارية, المدلول الإيديولوجي.

- 1) الهوية والتمثيل البصري
لا يمكن للتفكير في الصورة الإشهارية، أي في نمط بنائها وفي طريقة إنتاجها لدلالاتها ووقعها على المتلقي أن يتم خارج القضايا التي تطرحها العلامة البصرية ذاتها، فالدلالات داخلها لا تنبثق من الأشياء التي تدرك باعتبارها المهد الأساس الذي تنطلق منه الصيرورة المنتجة للآثار الدلالية، إذ بالرجوع إلى الصورة موضوع هذه القراءة يتضح أن هذه العلامات تكتسي طابعا رمزيا في إحالاتها الدلالية، فما هو رمزي ليس شكل زجاجة العطر »»روبيرتو كافالي»« بكل إحالاتها المتعددة، وفق الشفرة الثاوية في شكلها الأيقوني والدال رمزيا فقط، بل إن التسنين الثقافي يطال ويؤطر كل العناصر والمكونات الأيقونية والتشكيلية الأخرى، والتي تؤثث من خلال تعالقاتها وتشكالاتها السيميولوجية الصورة الإشهارية كتجل رمزي للتمثلات الاجتماعية والقيم والمعايير التي تشكل خلفيتها المقنعة، وفي هذا الصدد كتب كوبريش: «»لا يمكن عزل شكل التمثل عن أهدافه الخاصة ولا عما يتوخاه أو يفرضه المجتمع، حيث أن اللغة البصرية التي يستعملها تتخذ نوعا من القيمة««. وهذه الانعكاسات والتصورات تقودنا إلى فكرة (وهي صالحة و منطبقة على جميع أنماط الصور) أن الصورة البصرية تعكس دائما بشكل أو بآخر التمثلات والمعتقدات والقيم لمن أنتجها، كما أنها تعكس أيضا تمثلات ومعتقدات وقيم من هي موجهة إليهم، لهذا فالصورة تفصح عن خطاب سوسيو-أنتربولوجي ثقافي وفق حجم الفراغ الدلالي الذي تتركه للمتلقى الذي يملؤه بمساحات تأويلية ومسارات سيميو قرائية تتحدد بثقافته ومرجعيته الحضارية والجغرافية التي تجعل من الشفرة الدلالية الثاوية في عمق هذه الصورة ترتد إلى هذا البعد الأساسي في استهلاك الصورة وتلقيها، والذي يبلور في النهاية هوية المنطق الإشهاري، والذي لا يرتكز فقط على مايثبت خصوصية المنتوج ويميزه، بل يروم خلخلة الكون الثقافي للمستهلك برمته، فالغاية الإشهارية تطمح إلى إدراج هذا المنتوج ضمن عالم ثقافي يؤكد مجموعة من القيم التي يزعم المنتوج الانتماء إليها أو الدفاع عنها.
إن الجسد الأنثوي الممدد في انسياب وغنج مفصول بقنينة العطر التي تتخذ شكل القضيب (العضو التناسلي للذكر)، والذي سوف نأتي إلى تحليل دلالاته المباشرة الظاهرة وإيحاءاته الجنسية الكامنة، فوضع القنينة سينوغرافيا يشكل حاجزا وفاصلا ينشر من خلاله الجزء العلوي للجسد الأنثوي إلى نصفين، حيث ركزت عدسة المصور على المستوى العلوي:
الصدر المكتنز في امتداد جسدي مع الرأس الذي تم التركيز فيه على الوجه الماثل للسمرة، وجه يتجسد من خلال إيماءات فيها اللذة والانتشاء: فم نصف مفتوح، الشفتان من خلال شكلهما المسنن ثقافيا والذي يحيل على المرجع الجنسي، وبؤبؤ العين المائل باتجاه القنينة القضيبية الشكل، والعين نصف مفتوحة، وكأنها شمس تميل الى الغروب، إذ يوهم هذا الجسد الأيقوني من خلال مختلف أعضائه وإيماءاته والشكل المنقوش للشعر، وكأنه يجسد حركة انسيابية الرمال الصحراوية التي تشكل سينوغرافيا خلفية الصورة والأرضية التي يستريح عليها هذا الجسد، وكأنه خارج لتوه من لقاء جنسي ساخن.
إن تركيز الأنثى التي يخترقها الدفء والحرارة الشبقية على قنينة العطر المجسمة قضيبيا كاستعارة للقضيب الذكري، تحضر من خلال شكلها الخارجي وجماليته: بيضاء، زجاجية، مزخرفة بتموجات ذهبية انسيابية تنتهي بمفتاح ملولب على شكل أفعى، إذ يكفي الضغط على رأس هذه الأفعى / الحشفة، لتستمتع المرأة بالسائل العطري الساحر والأسطوري، والذي يمتح نسغ أسطورته من الإيحاءات المتعددة التي تحيل عليها مختلف الأيقونات الموظفة في التداوي والشفاء والتطبيب، طالما أن العلامة ذاتها ترمز إلى عالم الطب والصيدلة، وهنا الأفعى أو (حية) عشتار سيدة الشفاء، التي من خلال تجوالها الطويل في البرية بحثا عن الجذور والأعشاب البرية اكتسبت - المرأة - معرفة عظيمة بفضائل الأعشاب وأنواعها وطرق الإفادة منها، ثم قادتها الخبرات في هذا المجال إلى الخواص الشافية لبعض الأعشاب والخواص السامة المميتة لبعضها الآخر، فاستلبتها وصنعت منها الأكاسير، مضيفة بذلك نشاطا جديدا إلى نشاطاتها التحويلية الخلاقة المتحكمة بسر آخر من أسرار الطبيعة، به تشفي وبه تميت، أودعته عشتار الخضراء في نباتاتها ولم تكشف عنها إلا لوكيلاتها على الأرض، وقد تجلت هذه الأبعاد الميثولوجية في العديد من الكتابات والإنتاجات الأدبية العربية والغربية على حد سواء، ففي السياق العربي يمكن الإشارة إلى تجربة زهرة زيراوي التي اشتغلت على الموضوع بشكل مكثف من خلال ربطه بالسحر، مشيرة إلى توارث هذه الثقافة بأنساقها التخييلية جيلا بعد جيل. فمنذ أقدم العصور والسحر وتطبيقاته الشعبية ينتقلان من جيل لآخر بفضل عدة عوامل أبرزها الخرافة في الثقافة الشعبية، التي تدين بالكثير إلى التفكير الميثولوجي في المحافظة على جل مكوناتها الأنثربوثقافية خاصة الشفهية منها ذات العمق الأنطولوجي، فالخرافة خزان التجارب الإنسانية، ومستودع لا شعورها ومكبوتاتها الجمعية، خاصة تلك التوترات والإشكاليات التي تلخص جوهر تعاطي الإنسان مع العالم والأشياء في سياق ممارسة كينونته في ظل مصير يلفه المجهول، وتتجاذبه شبكات عنكبوتية آلياتها من المقدس في صراع دائم مع المدنس. لذلك جاء توظيف زهرة زيراوي لحرز مرجانة أو الغسالة بلغته التجريدية/الرمزية الذي يتعدي التوظيف الشكلي إلى التوظيف الأثربورمزي، من خلال كشف وتعرية لغة السحر وعوالمه.
في هذا السياق تكتب القاصة قصة التواتر والتوارث لحرز مرجانة مثلما أتى مضمنا في بنية خرافية للمحكي الشعبي، الذي يتلخص في الحكاية التالية: »روى الشيخ الأصفهاني أن الملك كانت له جوار في غاية الحسن ماعدا واحدة سوداء يقال لها مرجانة, خرجت عليها مرة حيوانات متوحشة فتبعتها وتراجعت، رأى الملك ذلك فقال: إن هذه الجارية تصلح للملوك، قرب الملك إليه الجارية ونزلها منزلة كبرى، فكان يجلس إليها كل ليلة. أغاظ الجواري أن الملك قربها إليه وأنه يفضلها عليهن جميعا وذات يوم مرضت مرجانة مرض الموت, فأوصى الملك أن يحضروا لها طبيباً، غير أنه لم ينفعها دواء، وتوفيت فما قدر أحد أن يخبر الملك بوفاتها، فدخل عليه رجل من مقربيه وكان مقبولاً عنده فقال: صبراً أيها الملك، فبكى الملك ثم أمر الغسَّالة أن تجهزها وتخبره بعد الفراغ من غسلها ليودعها قبل الدفن، فلما جردتها من ثيابها وجدت بين نهديها هذا الحرز المبارك، فحملته معها ولما غسلتها وجهزتها، أرسلت إلى الملك كي يحضر توديعها، فلما حضر ونظر إلى مرجانة، نفرت نفسه من رؤيتها لما بعد عنها هذا الحرز المبارك، ثم نظر إلى الغسالة فرآها رائعة الحسن ببركة الحرز فسألها ألكِ زوج؟ فأجابته: إنه توفى منذ مدة يسيرة، فقال لها أتتزوجينني، فردت عليه أتهزأ يا مولاي، فأجابها: لا بل هو حق، ثم أمر الملك في الحال بإحضار القاضي والشهود، وكتب كتابه عليها وصارت عنده أحسن وأحب من مرجانة وغيرها، ثم مرضت مرض الموت، فأرسلت إلى الشيخ الأصفهاني، وأعطت له الحرز وأوصته بأن يحفظه وبأن لا يعطيه إلا لمستحقه، فشاع خبره في جميع البلاد وانتفع به العباد لما فيه من أسماء روحانية وخُدَّام.
إن سيدة الحياة في الميثولوجيا هي من يستعيد المريض ويرجعه إلى الحياة، وسيدة النبات التي أخرجت الحب والمرعى فجعلته طعاماً للبشر والحيوان، هي من وضعت فيه سراً آخر من أسرار الحفاظ على الحياة، ولايزال رمز الحية التي تحمل الهلال على رأسها قائماً لدى بعض هذه القبائل للدلالة على الحياة الأبدية، لكن التركيز أيقونوغرافياً على عدد من العناصر والعلامات الدالة دون غيرها يبعد الدلالة الثانية ولو جزئياً لصالح الدلالة الأولى/ الجنسية، ولو أن هناك تعالقاً كبيراً بينهما مادام الجنس، بشكل أو بآخر، دواء، بل وحاجة بيوثقافية للجسد الإنساني، والوسيط العلائقي بين الذكر والأنثى. وهذا النسيج الدلالي يردنا إلى البدايات الأولى، إلى سفر الخروج، وقصة آدم وحواء، فالميثولوجيات القديمة الغربية والاسلامية تزخر بتأويلات لهذه العلاقة المعقدة بين الذكر والأنثى، التي من خلالها سوف تتحدد الأنوثة كشكل من أشكال أدلجة علاقة الذكر والأنثى لصالح أطر إيديولوجية تحافظ على هيمنة الذكر بشكل مخاتل، بيد أن الملصق الإشهاري، ومن خلال التمفصلات السينوغرافية لمختلف المكونات/ العلامات الدالة التي لا تدل على ذاتها، بقدر ما تشير إلى أشياء تقع خارجها، وتجد في التسنين الثقافي مبررها التداولي، يستثمر هذه المرجعية الميثولوجية للتأثير في المتلقي والمستهلك للصورة الإشهارية.

- 2) الجمالية وبناء المعنى
تكمن اللمسة الجمالية في تصميم هذه الصورة الإشهارية في كونها تعتمد سجلاً أيقونوغرافياً غنياً بالعلامات الدالة في بعدها الرمزي الموغل في الفكر الأسطوري، ليس من خلال المضمون وتسلسل الأحداث، مادام أن الصورة هي صورة ثابتة، بمعنى أن البعد السردي المباشر يغيب غياباً تاماً، بل من خلال البنيات والأشكال التي تتخذ صيرورة مجازية ورمزية لكي تعاود الظهور في الصور الإشهارية، تاركة المتلقي يربط ويجمع شتات العلامات التي تمثلها من خلال استحضار وتذكر بشكل تزامني تجاربه السابقة ومعارفه الأنثربوثقافية، والتي تمتد، كما سوف نرى إلى البدايات، ومما يعمق البعد الجمالي للصورة، كونها، ومن خلال التصميم والمونطاج، وكذا روعة الرؤية السينوغرافية التي جعلت من العلامات المشكلة للصورة باعتبارها نسقاً سيميولوجياً تحتمي بأكثر من تأويل، وهو العمق ذاته الذي نجده في الملاحم الكبرى والخرافات والأساطير، فالخرافة أيضاً شكل من أشكال التفكير الجماعي الذي لا يفترق عن النشاط التصوري.
إتيمولوجياً، تحدثنا الخرافة عن أشياء خيالية تشدها إلى الواقع روابط غامضة، يفسرها جيلبير دوران: »كونها، أي الخرافة، قصة تضع شخوصاً في مشهد، وديكوراً وأشياء رمزياً قيمة( ... )وفيها توظف إلزامياً معتقدات، ومن وجهة نظر أنثربولوجية، فالخرافة مؤسسة وقصة وإبداع، فحسب »دوران« دائماً، فالخرافة هي البداية، وترتكز على الواقع، لأنها تحكي عن أصل ما هو موجود، »إن الخرافة وهي في حلة قصة تلمح إلى حقيقة تاريخية للأحداث (...) وانتسابها إلى مجال خرافي أسطوري يبعدها عن ما هو معتاد ويخول لها وضع المطلق( Sauvageot,1987:20)، وأخيراً فالخرافة منظمة لأنه عند الرجوع إلى الأصل، فإنها تمنح إطاراً ومشروعية للحاضر. وهذا بالفعل، ما يجعل المختصين في الإشهار يعمدون إلى توظيف الأسطورة والخرافة، ليس من خلال مضمونهما المباشر، ولكن من خلال التركيز على بنية وشكل الخطاب الأسطوري، فليس المحتوى هو الأهم، بل البنية والشكل والعمق، كما يذهب إلى ذلك كلود ليفي ستروس.
من هذا المنطلق، فالتواصل بالصورة يعطي نفس الأهمية للشكل والعمق، للدال والمدلول. فعند قراءتنا لنص مكتوب، فإن نظرتنا إلى الحروف التي تكونه هي أولاً كونها حاملة للدلالة، وعكس ذلك، عندما نتأمل صورة ما، فإن العناصر التي تكونها يمكن أن تفهم كما هي، ومن هنا وأكثر من أي نمط آخر للتواصل، فإن الصورة تفسح المجال لقدراتنا الإدراكية، لحساسيتنا، وإذن لعواطفنا. فإذا كان آدم قد مكث طويلا في الجنة ينعم بالخلد والسعادة الأبدية، فإن حواء/ اللذة الجنسية كانت وراء اقترافه الخطيئة الكبرى، كما تصور ذلك النصوص المقدسة، خاصة التوراة والإنجيل، وكتب التفاسير في الثقافة الاسلامية والنصوص الحافة بتعبير علي تركي ربيعو, و على حد سواء، وذلك بعد أن خلقت من ضلعه الأيسر. هكذا كان للشبق والغنج وسحر الأنثى تأثير في اقتراف المحظور والأكل من شجرة المعرفة/ الخلد.
إن الشيطان لم يستطع دخول الجنة إلا رمزياً من خلال استعارة شكل الأفعى، والأفعى في نهاية التحليل هي اللذة الجنسية التي لم تكن معروفة من قبل آدم في الجنة، التي أنهت خلوده بالطرد إلى الأرض، رمز الشقاء والنهايات والحدود الشقية، والتي هي بالنهاية الثقافة في حالة تهذيب وتهجين وتكييف وضبط للإنسان، وهو ما تمثله الجهة اليمنى للصورة الإشهارية، الزاحفة بانسياب ونعومة على خصر الجسد الأنثوي المهيمن تجسيدياً على باقي العلامات الأيقونية، فهذه الأفعى القادمة من خارج الإطار الذي تحدده حافات الملصق/ الصورة في حد ذاته، يدل على الغياب، إذ تبدو الأفعى وهي تزحف وكأنها قادمة من الفرج الذي ترك خارج الإطار، وهو ما وظفه مصمم الملصق، وكأنه يقول: الذي يتحدد من خلال الرسالة الكاليغرافية التي تتوسط الملصق وإلى الأسفل، بلون أسود قاتم كشكل من أشكال تبئير هذه الإرسالية:
Cavalli profumo Roberto روبيرتو كافالي العطر الجديد للنساء.
فلا يجب على العلامة، حسب خيسوس إيبانيت، لكي تصبح مقروءة ودالة على نوعية الفئة المستهدفة من الملصق الإشهاري، التي هي النساء، أن تحدد المنتوج في حد ذاته، بل المستهلك كعضو في الجماعة المستهلكة لتلك العلامة، بحيث إن شراء واستعمال هذا المنتوج أو ذاك يعني الانخراط في جماعة المستهلكين.
إن حالة الروتين والخضوع للرجل/ الذكر الذي لا يستغويه ويتحكم فيه ويجعله موضوعاً للهيمنة والسلطة التقريرية النسائية، سوى اللذة الجنسية والحرارة المتدفقة دوماً من جسد إيروسي بامتياز، شأن حواء، وباقي النساء اللواتي احترفن البغاء المقدس في الميثولوجيات القديمة والملاحم الكبرى، لذلك إذا كنت تريدين الإغواء والإغراء وتأكيد وجودك الأنثوي، الباذخ، ومحور الروتين الذي جعل اليوم من الصعب على النساء التفرد والتميز فيما بينهن بالغياب / الحضور، فبالرغم من الوجود الطبيعي الذي هو الاصل، والمحدد لكلا الجنسين، فإن الوجود الثقافي والذي يستند اليه التسنين والتشفير الدائمين، يحيل هذا العطر الى فردوسهن المفقود. لذلك فإن روبيرتو كافالي يحمل مفتاحه بالنسبة الى النساء الراغبات، اللاهثات وراء الحضور المتميز. مادام التميز لا يستقيم الا اذا استند الى صفات أو أسماء أو رموز تقود الى فصل هذه الذات عن تلك، والنظر اليها في خصوصياتها و تفردها، فلا وجود لكائن يضع نفسه خارج أي تمييز، ولا يمكن للانسان ان يتقدم في الحياة بلا شكل ولا تاريخ ولا اسم ولا صفة، وتظل اسماؤنا هي أول وأبسط مميزاتنا، لهذا فالتميز المرغوب فيه يحيل المرأة على روبيرتو كافالي الذي لن يبقى مجرد اسم ماركة مسجلة للشركة او المنتوج فقط، بل يتحول الى المنتوج الايتيكي، بما هو انتماء وهوية، لأن تأثير الصورة الإشهارية لا ينتهي بمجرد الاطلاع عليها أو حتى اقتناء المنتوج، خاصة وأن الناس فضلوا دائما الصور على العلامات الاخرى، لكونها تمثل المجال الخصب للوهم، لذلك لا تحتضن القوة الاساسية الضرورية للسحر والرغبة في الخلود فحسب, بل هذا الوهن نفسه يمتد عميقا وفق أبعاد رمزية متعددة الى دواخلنا، ومن ثم يساهم في بناء تمثلاتنا الاجتماعية.
ان الطبيعة العلائقية والتفاعلية للصورة تخترق تصوراتنا وجسدنا وتغدو بذلك جزءا مكونا لنا، بحيث انها تؤثر فينا من داخلنا، ليس لأننا ننساق معها طواعية، ولكن أيضا لأنها تشتغل كضرورة لمخيلتنا وجسدنا وآلياتهما الباطنية، ومادام الرمز يشير الى شيء غائب أو غير مرئي، كما يشير الى ذلك ماريون, اذ الكلمة تقبل عدة تفسيرات مختلفة حسب اعتبارنا للرمز, سواء كان محافظا على المعنى الوحيد في مختلف اشكاله، أو بالعكس متعدد المعاني، فالرمز في مفهومه العريض يشير دائما الى شيء مختلف عن انظارنا وعن فهمنا السريع، وهو الدال المتمثل في الشيء الرمزي والموجود واقعيا، لذلك سنحاول تعميق القراءة بخصوص الدلالة الجنسية للجسد الانثوي كما هو موظف في الصورة الاشهارية، وذلك من خلال التقابل: بارد / ساخن، أنثى / ذكر.

2-1 روبيرتو كافالي العطر الجديد للنساء، وتمثلات «الساخن» و»البارد»
لتفكيك السجل الايقونوغرافي المشكل لهوية الصورة الاشهارية - موضوع القراءة - سوف نركز الملاحظة على المواقع والعلامات الدالة رمزيا على تجليات هذه الثنائية ومختلف صيغ حضورها الدلالي، ومن ثم سنحلل الإرسالية الاشهارية انطلاقا من التعالقات والتشاكلات السيميولوجية بين: الجسد الانثوي، وكيفية حضوره في الصورة، اللباس، والاشكال التي يحددها انسياب الالوان وتدرجها في تقاطع تشكيلي مع عمق الظل، و كذا الشكل الرمزي الذي تتخذه زجاجة العطر في الملصق الاشهاري، خاصة وأنه يندرج في إطار النظرية السيكولوجية - الجمالية، التي ترتكز على الذات المستهلكة، مع الإلحاح على الجانب اللاواعي بشكل خاص: كالرغبات الخفية الغريزية، وكذا المشاعر والعواطف الخاصة، ضمن محاولة فنية وجمالية تربط المنتوج بهذه الجوانب، فالاشهار الجمالي ينطلق من مسلمة تقول بأن فعل الشراء، وفعل التسوق، عامة، يحيل على عالم روتيني وممل يثير التقزز والازدراء، فهو يومي ومعاد ومرتبط بالحاجات النفعية التي لا لذة فيها ولا متعة، وللخروج من هذا العالم، على الاشهار ان يخلص فعل التسوق من الملل من خلال إضفاء غطاء من الاحلام، اذ بدون هذه الاحلام لن تكون الاشياء سوى ماهي عليه، خاصة وان الرابط الذي يجمع مابين الرمز ومدلوله يرتكز على علاقة مماثلة او تشابه محسوس.
ترتيبا على ما سبق، و لكي نؤول، يجب ان نبدأ بالتساؤل عن خصوصيات الشيء الذي يقودنا الى اتباع مسالك ترتكز على التشابه بين الصورة الرمزية وبين الدلالات التي تصدر عنها، التي تشكل في العمق الحس المشترك، وتؤول الى اللاشعور الجمعي بتعبير كارل يونغ، وهذه المسالك التأويلية في تعاملنا مع العالم والاشياء، ومن ثم مع الصور، مادام الانسان في نحت استعاراته ومجازاته لمقولة العالم ومحاولة الامساك به والتحكم في مساراته، ينطلق من الصور المرئية كاقتطاعات للعالم المعطى، التي تشكل المادة الخام لبناء الصور الذهنية التي بدورها تتحول وفق سيرورات الإدراك والتجارب المتعددة في الحياة إلى تمثلات اجتماعية، واضحة، وأخرى كامنة، تشكل البنيات الرمزية للمتخيل واللاشعور الجمعي الذي يبدو ان بنياته الرمزية، و من ثم تمثلات الانسان وقيمه الانطولوجية والانثربولوجية تعود جنيالوجيا إلى البدايات، التي تجعل من عدد من القيم والمقولات والاستعارات المشترك الكوني، وهذه الكونية تجد أصلها في الذكرى التي يحتفظ بها الانسان لادراكه للاشياء والظواهر الطبيعية، او ما يسميها سوفاجو بمغامرات الادراك، والتي تتناسب وملاحظة الدورات والسيرورات الطبيعة المؤولة و المنقولة عبر الاجيال، و هو الطرح نفسه الذي نجده عند الباحث السوري فراس السواح، الشيء الذي ينطبق على ثنائية البارد والساخن في مختلف تجلياتهما المباشرة الطبيعية منها، و الاستعارية والرمزية، كما تحضر في الملصق الاشهاري موضوع القراءة.
من هذا المنطلق، فإن مهندسي الاشهار يعتمدون على الصور المشكلة للاشعور الجمعي التي تعطي للجميع نفس مفاتيح التأويل، ونفس الاتفاقيات التأويلية، انها الصور الاساسية التي نجدها في الخطاب الدعائي كما يؤكد ذلك وفي جميع الحالات، فإن هذا الترابط بين حدي الثنائية يعكس في عمقه روابط التوتر والشد والجذب والنبذ الخاصة بالعلاقة بين الذكر والانثى، وكما هو الحال في كل ترابط قدري لا فكاك منه، يغادر التجلي بشكل وجوده الاول ليسكن عناصر الطبيعة واشياء الحياة وأشكالها، ويتسلل أيضا الى مضامين الكلمات والتعابير وتراكيبها ليحدد بشكل موارب، الاشكال التعبيرية التي يحتمي بها الجنس ليكشف عن نفسه وعن اشكال وجوده بعيدا عن الرقابة الاجتماعية، اي خارج ما يقدمه السلوك الانساني في حالته الثقافية.
فإذا كان الذكر يرمز في الثقافة الذكورية الى القوة والفحولة، ومن ثم الى الحرارة، من منطلق كونه ساخنا، فإن حالة الانتصاب القصوى التي يستوي عليها هذا العضو في اللحظات الجنسية العظيمة، وقبيل الرعشة الكبرى، تجعل من الذكر في حالة حرارة فريدة، تعتبر المعادل الرمزي للنشوة والارتعاش الجنسي / الجسدي، وهو ما تحيل عليه رمزيا زجاجة العطر التي تحاكي شكل القضيب في حالة الانتصاب، لكن في نفس الوقت نجد ان الساخن يتحول عندما يلامس جسد الانثى / النساء المستعملات لعطر »روبيرتو كافالي« الى بارد، الى منعش ومكيف ونسيم هواء، وهذا ما يشير اليه الشعر المنفوش في انسيابه الاشكال التي يتخذها، راسما لوحات وترسيمات تجريدية على البساط الذي يتخذه الجسد/الأنثى، أرضية يتمدد فوقها، وكأن رياحا قوية بعثرت هذا الشعر الحريري، في الوقت الذي يشير هذا الجسد نفسه إلى الحرارة الدفء، لتتحول المرأة/ الأنثى من الكائن البارد في التمثلات الاجتماعية لمجتمع ذكوري، وتنقلب الفحولة الجنسية من الذكر إلى الأنثى. فالبرغم من مناخ الصحراء القاحلة الحار بامتياز، وهذا ما نستدل عليه من خلال حضور الأفعى، والرمال التي يشكلها تدرج اللون الأصفر في انسيابية تموجها شرائط بنفسجية رفيعة، تحيل فوتوغرافيا على الرمال الصحراوية، فإن هامة/وجيد هذه الحورية الصحراوية (الأنثي من خلال الملصق) ووجهها لا يعبئان بقسوة المناخ الحار، إذ من الطبيعي - وتحت حرارة الشمس الصحراوية - أن يتصبب الجسد الانساني عرقا،خاصة إذا كان الأمر يتعلق بأنثى تمتلك بشرة ناعمة كهاته، لسبب بسيط، وكما يوحي بذلك لباسها الذي صمم على شكل الأحراش التي تجد في هذه الرمال، وهذا المناخ، بيئتها المفضلة، كونها تختزن حرارة تفوق حرارة الصحراء القاحلة، وتحيل بالتالي سخونة الرجل إلى منعش ومكيف، لأنها تمتلك غواية جنسية وقدرة شبقية تقلب المواضعات الاجتماعية والثقافية، كل ذلك بفضل العطر »روبيرتو كافالي« الذي عكس كل العطور التي تصنف وفق أجندة الفصول، حيث هناك عطر لكل فصل، فإن »روبيرتو كافالي« يصلح للصيف كما يصلح للربيع، وهو ما يحيل عليه الشريط الأخضر، المثلث الشكل وكأنه يتجه نحو الأفول، مادام الملصق الاشهاري، قد وجد طريقه للنشر في المجلات والقنوات الارسالية الأخرى. مع نهاية فصل الربيع، فالعطر الجديد للنساء »ربيرتو كافالي« يمنحهن التجدد المستمر والتألق الحيوي الدائم، اشارة تحيل عليها أيقونة ذات دلالات رمزية لها ارتباط كبير بحية عشتار، تتجلى في السوار الذي يتخذ شكل أفعى تمسك ذيلها بفمها، وكأني بالفاتنة الممدة على تلك الرمال الصحراوية تقول على لسان عشتار العذراء آلهة الخصب:

« يوم أحيل إلى فناء في ما قد خلقت،
ستعود الأرض محيطها بلا نهاية كما في البدء،
وحدي، أنا، أبقى،
فأستحيل إلى أفعى كما كنت،
خفية عن الأفهام »

هذا ما تحدثت به عن نفسها، الأم المصرية الكبرى، مختصرة مبدأ الأشياء وحالها و نهايتها. فقبل البدء كان العماء، الظلمة الأزلية، الأقيانوس المائي بلا سطح أو قرار، التماثل الساكن قبل أن تخرج منه الأشكال، الواحد قبل أن يتولد منه الكثير، التركيب المطلق قبل نشوب المتناقضات، النقطة التي تملأ كل فراغ، الرحم المظلم الخصيب بكل الممكنات، الأم الأزلية عشتار العذراء، الأفعى الكونية التي تستدير على نفسها فتعض على ذيلها واصلة مبتدأها بمنتهاها. هذه الحالة الأولى التي فيها الظلمة والمياه والسكون،هي الهيولى البدئية والمدار الأعظم الذي رمزت إليه ميثولوجيا الشعوب بشكل الحية التي تعض ذيلها دلالة الاكتمال الأزلي للمطلق قبل أن ينحل إلى مظاهر الكون المختلفة، فعشتار كانت ولا شيء معها, قيومة بذاتها، مكتملة بنفسها، غنية عن العالمين، وكانت عذراء لأنها ابتدأت الكون، فيما يعد من خصبها الذاتي دون معونة من مبتدأ ذكري مشارك لها في أزلها، فتولدت عنها الموجودات كما يتولد النور من مصدر الاحتراق، وإليها تعود الموجودات في نهاية الزمان لتفنى فيها، وتبقى وحدها لتلتف على نفسها كما كانت دائرة مكتملة، بعد أن يهدأ صخب الوجود وتسكن حركة السالب والموجب وتتصالح المتناقضات. وهكذا يريد مصممو الصورة الاشهارية للعطر الجديد، من جعله السبيل الوحيد أمام النساء لتأكيد سلطتهن وقدرتهم العظيمة أمام الرجال، إذ تعود الكلمة كما كانت من قبل للأنثى بدل الذكر، ويصبح من ثم الرجل/ الذكر مجرد تابع، وموضوعا لسلطة عشتار متجددة ومنسوخة في كل النساء المستهلكات لعطر »روبيرتو كافالي«.

- 3) الغاية الاشهارية والمدلول الايديولوجي
انطلاقا مما سبق، يتضخ أن الصورة الاشهارية ومن خلال مختلف مكوناتها السيميوطيقية، التي وظفت رمزيا من خلال توغلها في الأسطورة والخرافة، سفر الخروج والخطيئة الكبرى، سر عتشار وجمالها الطبيعي الذي يدل على الخصوبة والقوة والقدرة على الحب والتطبيب وعلى التجدد الدائم، لكن وكما أشرنا في تحليلنا السيميو - أنثربولوجي للصورة الاشهارية، ومن خلال تعالق عدد من العلامات تم التركيز بشكل رمزي طبعا على عدد من المدلولات الايحائية ذات المرجعية الجنسية، التي وفقها تم تسنين الارسالية الاشهارية من منطلق أن التسنين هو في نهاية الأمر اتفاق اجتماعي وثقافي بموجبه تتم القراءة والتواصل والتداول القيمي، ومادامت وضعية المرأة في المجتمع العربي المعاصر، مجتمع ذكوري بامتياز، تتحدد انطلااقا من مواصفات وترسيمات جسدية خاصة، وبتعبير «»بيير بورديو»« بالهابتوس الجسدي، الذي لا يمكن أن يشكل رأسمالا رمزيا في السوق الذكورية إلا إذا حافظ على المعايير التي ماهي في العمق سوى مواصفات الجسد الأنثوي والايروسي، الجسد الذي يطفئ هوس وحرارة الذكر/الرجل بالهوى واللذة، وهو ما تمثله الأنثى الموظفة في الصورة أيقونوغرافيا، وخارج هذه المواصفات تصبح المرأة مجرد كائن منبوذ لا وظيفة له، الشيء الذي جعل الغالبية العظمى من النساء، مجرد لاهثات وراء عالم الموضة و»الرجيم«، ووراء كل المنتوجات الكمالية - التجميلية التي تقدمها عوالم الاشهار، رغبة وحلما بالفردوس المفقود.
من هذا المنطلق يتحدد البعد الايديولوجي من خلال التركيز على المألوف والمتعارف عليه، والمسنن اجتماعا، حتى وإن كان ضد الطبيعة وضد الاختلاف، ومن هنا تصبح ثقافة الصورة الاشهارية، ثقافة الهوية المفرطة في التطابق والتجانس، الذي لم يصنع سوى كائنات مستلبة ومستعبدة، دون أن تمنح نفسها لا الوقت ولا الحق في التساؤل والنقد لتفكيك كل التقابلات والثنائيات الميتافيزيقية، الذكر / الأنثى، بحيث ليس هناك فرق يذكر خارج الاختلاف الجنسي البيولوجي، وما إلصاق عدد من المواصفات والترسيمات بالمرأة سوى فعل الثقافة الذكرية التي تحاول عن طريق أدلجة العلاقة بين الجنسين فرض الوصاية والحجر الثقافيين باسم الطبيعة، وضدها في نهاية الأمر، والتي تجد في التربية والحنين اللاشعوري للماضي والتراث الذكوري أحد أهم الآليات والوسائل لتضيف هذا التسنين، ومن هذا المنطلق تغدو الصورة الاشهارية شكلا من أشكال العنف الرمزي وقناته. لهذا، إن جاز لنا استعارة مفهوم الجنوسة وتجريبه في الحقل الاشهاري، سوف نتمكن من تفكيك وخلخلة ونقد مختلف الأشكال والصيغ التي تلجأ إليها الصورة الاشهارية، من خلال تمفصلات الايديولوجي لتبرير البناءات الثقافية والاجتماعية المفروضة على الاختلاف الجنسي البيولوجي بين الذكر والأنثى، وترسيخ هذه الثنائية التضادية، والتحقيرية للآخر (المرأة دائما) وجعلها مسلمات وبديهيات.
إذا كانت الغاية من الصورة الاشهارية التي أتينا على قراءتها وتحليلها، هو تحفيز ودعوة المتلقي، الجمهور المستهدف من الارسالية على اقتناء عطر »روبيرتو كافالي«، فإن الارسالية نفسها والصورة من خلال المدلولات غير المباشرة والثاوية في تمفصلات ماهو مألوف، كما سبق وأشرنا، قد حبلت ببعد وارسالية ايديولوجية تتجلى في محاولة تبضيع المرأة وتصبيرها في ترسيمات جسدية وهابتوس شبقي، يجعل منها مجرد متاع ولذة وجدت من أجل الرجل، ومستلبة من طرف عالم الموضة والكماليات التي لن تحمل لها التجدد والجمال الأبدي بقدر ما ستدخلها في دوامة من الاستهلاك وكأنها عجلة »أكسيون, لأنها ومن خلال ارتباطها وتماهيها مع هذه الصناعة الجديدة التي تعيد رسم وإبداع العالم وفق مصالح الأقوياء، وهم بالطبع فئة قليلة ذات ثقافة ذكورية، قد تمثلت واستبطنب الصورة التي يريدها مصصمو الاشهار ومخرجوه للمرأة التي تحقق لهم الأرباح الخيالية، ومن ثم يصبح الإشهار في نهاية المطاف أسطورة تشكل الايديولوجيا مفاصلها وبنياتها الأساسية.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى