كان ذلك بالتحديد في منتصف كانون الاول من شتاء 1996 وتزامن فيها بالنسبة للسيد سارو سارويان تاجر الخزف الأرمني موقفان لن يبرحا مغادرة الذاكرة حتى يعودا بقوة إليها نظرا لتأثيرهما على حياة السيد سارويان وحياتي في الوقت عينه. إذ صادف بالمناسبة الأولى انهيار السوق للمرة الثانية خلال عام واحد حيث بلغ سعر الصرف للدولار الواحد 600دينار عراقي بعد أن كان قد بلغ ذروته قبل يوم إلى 1690 للدينار الواحد وهكذا خسر معظم التجار أكثر من ثلاثة أرباع رؤوس أموالهم لتحل النكبة فوق رؤوسهم، أما بالنسبة للواقعة الثانية التي آلمت بالسيد سارويان حد محاولته الانتحار هي موت يوتا شلوزن صديق العائلة الجميل وصاحب الشهامة التي لم يعرف بها أهل البلد كما كان يعبر على الدوام السيد سارويان حين يمتدح .
لقد مضى قرابة عام ونيف على عملي مع السيد سارويان. فبعد إنهائي للخدمة العسكرية الإلزامية واضطراري العمل كعتال في متجر السيد سارويان، كرها لأنني لم أكن مقتنعا بالعمل معه لولا قسوة المرحلة المتمثلة، بالأزمة الاقتصادية الخانقة التي نعيشها بسبب مغامرات السلطة التي أودت بنا إلى الجحيم، دون أن تكون هي قد عانت من نتائج سياساتها المغامرة. على أية حال كان السيد سارويان طيب القلب، وشهما ويسير على الدوام منتصب القامة تماما كجبال أرمينيا التي لم يعرفها إلا عن طريق ذاكرة جدته يوم كانت تؤكد له المجزرة الدامية التي مارسها العثمانيون بحق أبناء جلدتها في الحرب العالمية الأولى. وكيف تم إفناء الأمة الأرمينية والفتك بالنساء والرجال والأطفال والشيوخ على السواء من قبل أولئك العثمانيين الكلاب، طبقا لتعبير الجدة الناقمة على كل شيء. وتستمر الجدة برواية ما حدث معززة الشعور بالانتماء للأمة العظيمة في ذاكرة حفيدها، كيف أن العثمانيين ذبحوا زوجها أمام أنظار الجميع لأنه بصق على وجه القائد العثماني المجدور القبيح وشاربيه المفتولين كشوارب أي قواد مبتذل. فكان استنادا إلى تلك الوقائع السيد سارويان يمقت الأتراك حد القرف. ولعل من الطرائف التي تذكر عن السيد سارويان هي يوم عرضت عليه بضاعة تركية كان يمكن أن يجني منها أرباحا هائلة إلا انه رفضها مدعيا، إن الأتراك يجيدون صناعة العرق المغشوش وتصدير اللواط على خطى خلفائهم ولا يمكنني أن أؤمن بأن لهم القدرة على صناعة الخزف!!! ولم يكتف السيد سارويان بمعاداة الأتراك وإنما كان يحاول تسقيط كل أشيائهم حتى النبيلة، وبسبب ذلك كان بعض المسلمين من تجار شارع الكفاح ( شارع الملك غازي سابقا) لا يتوددون إليه كثيرا إلا في حدود مصلحة العمل. وكان احدهم يحرضني على إنهاء عملي عنده والالتحاق به غير أنني رفضت عرضه لان السيد سارويان لا يحمل أية ضغينة ضد الإسلام أبدا كما كان يصوره البعض، بل على العكس من ذلك كان يذكرنا بالصلاة حين موعدها إذا ما صادفت بالتزامن مع العمل في تفريغ البضائع أو تحميلها فيوقف العمل تقديرا لعبادتنا التي كانت في الغالب رياء.
ولد السيد سارويان في مدينة بغداد من العام 1944في منطقة البتاويين كسائر الأرمن الذين وفدوا إلى العراق بعيد الحرب العالمية الأولى وتأسيس المملكة العراقية الهاشمية آنذاك. وكان الابن الأصغر لسبعة من الإخوة والأخوات. وقد تزوج في سن مبكرة قياسا إلى تقاليد عائلته التي تؤمن، بل تدافع عن الزواج بعد سن الثلاثين. وهكذا صار سارو سارويان أبا لأربعة أطفال، اثنان من الذكور واثنتان من الإناث وكلهم اليوم خارج العراق فيما عداه وزوجه. وهو الآن يسكن واحدة من افخر أحياء العاصمة بغداد في بيت كبير جدا لشخصين في مثل عمريهما، ومع فخامة بيته الكائن في مدينة المنصور بشارع الأميرات إلا أن البساطة تشكل مظهره الجوهري لان السيد سارويان متواضع بشكل غير مسبوق.
مع أن السيد سارويان كان يبدي تجاهي تعاطفا خاصا ويعدني كابنه تماما غير أنني كنت أتعامل مع الموضوع من زاوية كونه برجوازيا ولا يليق بإنسان كادح مثلي أن يجامله ترفعا عليه. وكنت واهما بهذا التصور الذي تبنيته من خلال احد الشيوعيين ممن كنت اعرفهم في مدينتي الكائنة في الضاحية الشرقية من العاصمة بغداد. تلك المدينة التي كانت توصف كمدينة نفايات بشرية فائضة عن الحاجة تبعا لما تأسس عليها من تصور طبقي وثقافي واثني تداخلت فيها كل الغرابات.
مع مرور الوقت صار السيد سارويان يثق بي كثيرا وقربني إليه وضاعف أجور عملي واطمأن أخيرا بأن يعطيني مفاتيح متجره الكبير لأقوم أنا بنفسي افتتاح المتجر كل صباح بعد أن كنت انتظره لوقت طويل أحيانا. وهكذا شعرت ولأول مرة إنني جزء من كينونة المكان وصار انتمائي لخزف سارويان هويتي الجديدة حتى كنت أتهرب من لقائي المعتاد مع صديقي الشيوعي خشية ألا يدخل إلى عقلي فكرة التمرد على البرجوازي الأرمني وضرورة تأميم متجره الذي أسسه من كدح البروليتاريا واستغلال قوة أجسامهم إلى آخره من هراء خطابه الملل. والذي غالبا ما كان ينتهي بعلبة سكائر أو بضعة دنانير كنت ملزما أن أعطيه إياها بدافع الخجل ليشتري عرقا رديئا. وهكذا دواليك مع غيري من الشباب الناقم على حياته.
كنت افتتح المتجر مبكرا قياسا لحركة السوق التي تبدأ عادة بعد التاسعة تقريبا من كل يوم عدا يوم الجمعة. وأكثر ما أغراني لمزاولة هذا السلوك الذي عده السيد سارويان بالسلوك الناجح والصادق في العمل دون أن يدرك أنما الموضوع يتعلق بإحدى طالبات الإعدادية الموجودة في محلة التوراة القريبة من المتجر والتي كانت تمر مرتين من أمامي في اليوم الواحد. ولأنني كنت خجولا لم أحاول الاقتراب منها إنما فقط اكتفي بأن انظر إليها واستمرت الحالة هذه حتى تخرجها دون أن تدرك أنها يوما كانت تثير احد النكرات في شارع الكفاح.
لقد كان السيد يحدثني عن أولاده الأربعة وكيف دفع بهم إلى خارج العراق لتأمين حياة أفضل. فكانت لينا ابنته البكر تقيم في فرنسا برفقة زوجها الدكتور ايفان خاجادور أستاذ الأدب الأرمني. فيما كان ابنه البكر هاكوب مقيما في استراليا منذ عام 1988 يعمل في شركة للنقل البحري. وكانت ابنته الثانية سارة تقيم في انكلترا مع زوجها إسحاق اسحاقيان تاجر شراب الروم الشهير في لندن. وأخيرا ابنه الأصغر مهير وقد سماه هكذا تيمنا ببطل أسطوري قومي يحرر أرمينيا بعد أن يطرد الغزاة. المقيم بألمانيا وهو اليد اليمنى لأبيه كونه وكيل إحدى الشركات الألمانية بصناعة الخزف. على ضوء ذلك كانت حياة سارويان هانئة ومستقرة وهو ليس في حاجة إلى العمل فيكفيه أن يرسل إليه ابناه ثلاث مئة دولار ليعيش عيش الملوك ولكنه كان يكره المكوث في البيت لئلا يهرم كما يقول لي دائما.
كان يحدثني عن زوجته التي هي ابنة خالته السيدة مريم يعقوبيان والأيام الجميلة التي كان يقضيانها في الصخب والعبث البريء إبان العصر الجميل والذي لن يتكرر أبدا وكذلك كان يحدثني عن صديق العائلة يوتا شلوزن ذلك الكائن الفريد الذي دخل العراق بعد ترتيبات حرص على إجراءاتها الروتينية ابنه مهير.
واجه يوتا شلوزن في البدء صعوبات كبيرة حين وصل الحدود من جهة الأردن باعتبارها المنفذ الوحيد للدخول والخروج بحسب قرارات الأمم المتحدة الصادرة بحق العراق بعد غزوه للكويت عام 1990 لذلك كان لا بد من إجراءات أكثر شفافية تسمح بالدخول. هذا الأمر تطلب من مهير أن يوسط السفارة الألمانية بتسهيل الدخول باعتباره ألماني الجنسية من جهة الأم التي ولدت في القصور الملكية النمساوية. وأب دنماركي كان من أهم أفراد الحرس الخاص المكلف بحراسة أزهار الملكة. وطبقا للأعراف فقد حصل يوتا شلوزن على تأشيرة العمل برفقة السيد سارويان. وهكذا دخل الحدود عام 1992 ومنح الإقامة.
كانت سعادة السيدة مريم يعقوبيان بيوتا شلوزن كبيرة جدا حيث عدته البديل لخيبة أولادها الأربعة الذين غادروها وأخذتهم مشاغل الحياة الجديدة في بلدانهم,. وهي اللعنة التي ستبقى ترافقهم جيلا بعد جيل حتى تحين لحظة العودة إلى وطنهم المستباح من قبل الأتراك كما كانت تقول ذلك للقاصي والداني. لذلك السبب كان يخفف عنها الآم الاغتراب باعتباره الوافد من بلد رفيع ليقيم بالقرب منها ويرعاها وزجها.
كانت السنة الأولى سيئة على مزاج يوتا شلوزن الذي لم يألف درجات الحرارة العالية في صيف العراق فكان لا يخرج إلا عند الضرورة ويبقى بالقرب من مكيف الهواء. ولاقى هذا التصرف من قبل العائلة التعاطف الكبير وافترض السيد سارويان أن بوتا شلوزن سيعتاد حر العراق مع مرور الوقت كما كان يطمئن ولده مهير. على العكس من يوتا شلوزن الذي كلما سنحت له الفرصة بالاتصال بمهير كان يتذمر ويتأوه.
ولم تنته المشكلة عند يوتا شلوزن مع حر العراق وإنما تعتده إلى سوء أخلاق العراقيين لا سيما عند أقرانه من الذين كان يصادفهم على الطريق بين الحين والآخر. فلم يكن يعجبه العيش وقتا أطول في العراق ولكن مع إلحاح السيد سارويان والسيدة يعقوبيان اضطر إلى البقاء ولكنه اثر العزلة عن الجميع.
وبعد أربعة أعوام صار يوتا شلوزن مترهلا وابيض شعره بنحو سريع علاوة على انه اعتاد النوم الطويل وأهمل الكثير من واجباته. ومع كل تلك السمات ظل يوتا شلوزن كالولد المدلل للعائلة بل أنهما كانا يحرصان على عرضه بشكل دوري على الأطباء الممتازين كلما شعروا بأنه على وشك المرض. لان السيد سارويان لا يريد أن يحرج أمام ابنه مهير الذي جاء بيوتا شلوزن سليما ليعود به مريضا.
إلى أن جاءت اللحظة المرة، لحظة الهزيمة في شتاء عام 1996 حين ارتفع ضغط الدم الشرياني عند يوتا شلوزن وأودى به إلى السكتة الدماغية بنحو غير متوقع لينزل خبر وفاته كالصاعقة على رأس العائلة. حدث ذلك عند الصباح بالتزامن مع الهبوط السريع والحاد في بورصة المال حين اتصل بي السيد سارويان طالبا مني أقفال المتجر وضرورة الذهاب إليه في بيته الذي لم ادخله سابقا لأية مناسبة كانت لان يوتا شلوزن توفى وهو ليس بمقدوره متابعة الأمر ولا السيدة يعقوبيان.
برغم انه كان كثير الحديث عن يوتا شلوزن ودوره في صياغة الحياة العائلية له من جديد إلا أنني لم أتشرف بالتعرف إليه أبدا رغم أن ذلك كان من أمنياتي. ولو أنني كنت أقف من مسالة اللغة موقفا سلبيا كوني لا أجيد التحدث بأية لغة أجنبية على العكس من يوتا شلوزن الذي يجد التعامل بأكثر من خمس لغات حتى انه تعلم البذاءة هنا في العراق بعد أن يكن يعرف شيئا عنها. ولكنني كنت مطمئنا بان السيد سارويان سيكون مترجمي المفضل أثناء لقائي بالسيد يوتا شلوزن . إلا أن القدر السيئ يلاحق رغباتي دوما ولا يمسح لي بتحقيق حلم واحد حتى . وها هو ذا يرحل دون ان أشاهده ولو عن بعد.
السيد يوتا شلوزن أجهز على حياته طوعا حين قبل المجيء إلى العراق. ففي إحدى المرات القي القبض عليه وأريد له أن يساق لخدمة احد مقار الحزب الحاكم كحارس، لولا سرعة مجيء السيد سارويان الذي اخرج أوراقه الثبوتية بأنه تبع الحكومة الألمانية وهو مقيم فحسب طبقا للأوراق الرسمية الصادرة من الداخلية العراقية.
على أية حال قام السيد سارويان بإبلاغ ابنه مهير الذي بدوره ابلغ السفارة الألمانية واخذ على عاتقه إبلاغ إخوته في كل من لندن وسدني وباريس والطلب منهم التعجيل بإجراءات السفر إلى العراق لحضور جنازة السيد يوتا شلوزن. ناهيك عن مطالبة الخارجية الألمانية بجثمان يوتا شلوزن لدفنه في وطنه وإعلان الحداد عليه بوصفه من العوائل النبيلة في أوربا. فضلا عن ذلك إرسال وزارة الصحة الألمانية وفدا طبيا عاجلا إلى العراق للوقوف على الأسباب الحقيقة لموته والتأكد من انه لم يقتل أو يسمم. هذا الأمر جوبه بالرفض الشديد من الحكومة العراقية نافية أي اتهام من شأنه أن يتلبس الحكومة العراقية. كل تلك الأحداث حدثت بأقل من ساعة واحدة ودخل البلدان أزمة دبلوماسية بسبب السيد يوتا شلوزن . وصادف أن مجلس الأمن يعقد جلسة اعتيادية للتباحث بقضايا الأمن والسلام العالميين فانتهز المبعوث الدائم الألماني الجلسة وطالب بإدراج قضية يوتا شلوزن وموته المفاجئ في العراق. هذا الأمر استغرب منه المبعوث العراقي مستنكرا طلب المبعوث الألماني فصارت الجلسة إلى هرج ومرج حتى تمكن المبعوث الأمريكي من إصدار قرار أممي يقضي بإرسال مبعوثين دوليين للتحقيق بواقعة موت السيد يوتا شلوزن وسط تهديدات بالفيتو الروسي الذي لم يرفع.
أما أنا الكائن البليد الداعي إلى العدالة والمساواة والمحرض على الثورة الاشتراكية فقد وقفت وقفة الأغبياء أمام المرآة لأول مرة حين يبصرون فيها وجوههم البليدة وهم يضحكون من شدة دهشتهم لما يرون. فقد ضحكت كما لم اضحك من قبل حين تبين لي أن السيد يوتا شلوزن مجرد كلب أهداه مهير إلى أبيه ومات أخيرا بسبب الشيخوخة بطريقة تليق بالكائنات الحية لا كما يموت عشرات العراقيين يوميا بنحو لا أسف فيه.
لقد مضى قرابة عام ونيف على عملي مع السيد سارويان. فبعد إنهائي للخدمة العسكرية الإلزامية واضطراري العمل كعتال في متجر السيد سارويان، كرها لأنني لم أكن مقتنعا بالعمل معه لولا قسوة المرحلة المتمثلة، بالأزمة الاقتصادية الخانقة التي نعيشها بسبب مغامرات السلطة التي أودت بنا إلى الجحيم، دون أن تكون هي قد عانت من نتائج سياساتها المغامرة. على أية حال كان السيد سارويان طيب القلب، وشهما ويسير على الدوام منتصب القامة تماما كجبال أرمينيا التي لم يعرفها إلا عن طريق ذاكرة جدته يوم كانت تؤكد له المجزرة الدامية التي مارسها العثمانيون بحق أبناء جلدتها في الحرب العالمية الأولى. وكيف تم إفناء الأمة الأرمينية والفتك بالنساء والرجال والأطفال والشيوخ على السواء من قبل أولئك العثمانيين الكلاب، طبقا لتعبير الجدة الناقمة على كل شيء. وتستمر الجدة برواية ما حدث معززة الشعور بالانتماء للأمة العظيمة في ذاكرة حفيدها، كيف أن العثمانيين ذبحوا زوجها أمام أنظار الجميع لأنه بصق على وجه القائد العثماني المجدور القبيح وشاربيه المفتولين كشوارب أي قواد مبتذل. فكان استنادا إلى تلك الوقائع السيد سارويان يمقت الأتراك حد القرف. ولعل من الطرائف التي تذكر عن السيد سارويان هي يوم عرضت عليه بضاعة تركية كان يمكن أن يجني منها أرباحا هائلة إلا انه رفضها مدعيا، إن الأتراك يجيدون صناعة العرق المغشوش وتصدير اللواط على خطى خلفائهم ولا يمكنني أن أؤمن بأن لهم القدرة على صناعة الخزف!!! ولم يكتف السيد سارويان بمعاداة الأتراك وإنما كان يحاول تسقيط كل أشيائهم حتى النبيلة، وبسبب ذلك كان بعض المسلمين من تجار شارع الكفاح ( شارع الملك غازي سابقا) لا يتوددون إليه كثيرا إلا في حدود مصلحة العمل. وكان احدهم يحرضني على إنهاء عملي عنده والالتحاق به غير أنني رفضت عرضه لان السيد سارويان لا يحمل أية ضغينة ضد الإسلام أبدا كما كان يصوره البعض، بل على العكس من ذلك كان يذكرنا بالصلاة حين موعدها إذا ما صادفت بالتزامن مع العمل في تفريغ البضائع أو تحميلها فيوقف العمل تقديرا لعبادتنا التي كانت في الغالب رياء.
ولد السيد سارويان في مدينة بغداد من العام 1944في منطقة البتاويين كسائر الأرمن الذين وفدوا إلى العراق بعيد الحرب العالمية الأولى وتأسيس المملكة العراقية الهاشمية آنذاك. وكان الابن الأصغر لسبعة من الإخوة والأخوات. وقد تزوج في سن مبكرة قياسا إلى تقاليد عائلته التي تؤمن، بل تدافع عن الزواج بعد سن الثلاثين. وهكذا صار سارو سارويان أبا لأربعة أطفال، اثنان من الذكور واثنتان من الإناث وكلهم اليوم خارج العراق فيما عداه وزوجه. وهو الآن يسكن واحدة من افخر أحياء العاصمة بغداد في بيت كبير جدا لشخصين في مثل عمريهما، ومع فخامة بيته الكائن في مدينة المنصور بشارع الأميرات إلا أن البساطة تشكل مظهره الجوهري لان السيد سارويان متواضع بشكل غير مسبوق.
مع أن السيد سارويان كان يبدي تجاهي تعاطفا خاصا ويعدني كابنه تماما غير أنني كنت أتعامل مع الموضوع من زاوية كونه برجوازيا ولا يليق بإنسان كادح مثلي أن يجامله ترفعا عليه. وكنت واهما بهذا التصور الذي تبنيته من خلال احد الشيوعيين ممن كنت اعرفهم في مدينتي الكائنة في الضاحية الشرقية من العاصمة بغداد. تلك المدينة التي كانت توصف كمدينة نفايات بشرية فائضة عن الحاجة تبعا لما تأسس عليها من تصور طبقي وثقافي واثني تداخلت فيها كل الغرابات.
مع مرور الوقت صار السيد سارويان يثق بي كثيرا وقربني إليه وضاعف أجور عملي واطمأن أخيرا بأن يعطيني مفاتيح متجره الكبير لأقوم أنا بنفسي افتتاح المتجر كل صباح بعد أن كنت انتظره لوقت طويل أحيانا. وهكذا شعرت ولأول مرة إنني جزء من كينونة المكان وصار انتمائي لخزف سارويان هويتي الجديدة حتى كنت أتهرب من لقائي المعتاد مع صديقي الشيوعي خشية ألا يدخل إلى عقلي فكرة التمرد على البرجوازي الأرمني وضرورة تأميم متجره الذي أسسه من كدح البروليتاريا واستغلال قوة أجسامهم إلى آخره من هراء خطابه الملل. والذي غالبا ما كان ينتهي بعلبة سكائر أو بضعة دنانير كنت ملزما أن أعطيه إياها بدافع الخجل ليشتري عرقا رديئا. وهكذا دواليك مع غيري من الشباب الناقم على حياته.
كنت افتتح المتجر مبكرا قياسا لحركة السوق التي تبدأ عادة بعد التاسعة تقريبا من كل يوم عدا يوم الجمعة. وأكثر ما أغراني لمزاولة هذا السلوك الذي عده السيد سارويان بالسلوك الناجح والصادق في العمل دون أن يدرك أنما الموضوع يتعلق بإحدى طالبات الإعدادية الموجودة في محلة التوراة القريبة من المتجر والتي كانت تمر مرتين من أمامي في اليوم الواحد. ولأنني كنت خجولا لم أحاول الاقتراب منها إنما فقط اكتفي بأن انظر إليها واستمرت الحالة هذه حتى تخرجها دون أن تدرك أنها يوما كانت تثير احد النكرات في شارع الكفاح.
لقد كان السيد يحدثني عن أولاده الأربعة وكيف دفع بهم إلى خارج العراق لتأمين حياة أفضل. فكانت لينا ابنته البكر تقيم في فرنسا برفقة زوجها الدكتور ايفان خاجادور أستاذ الأدب الأرمني. فيما كان ابنه البكر هاكوب مقيما في استراليا منذ عام 1988 يعمل في شركة للنقل البحري. وكانت ابنته الثانية سارة تقيم في انكلترا مع زوجها إسحاق اسحاقيان تاجر شراب الروم الشهير في لندن. وأخيرا ابنه الأصغر مهير وقد سماه هكذا تيمنا ببطل أسطوري قومي يحرر أرمينيا بعد أن يطرد الغزاة. المقيم بألمانيا وهو اليد اليمنى لأبيه كونه وكيل إحدى الشركات الألمانية بصناعة الخزف. على ضوء ذلك كانت حياة سارويان هانئة ومستقرة وهو ليس في حاجة إلى العمل فيكفيه أن يرسل إليه ابناه ثلاث مئة دولار ليعيش عيش الملوك ولكنه كان يكره المكوث في البيت لئلا يهرم كما يقول لي دائما.
كان يحدثني عن زوجته التي هي ابنة خالته السيدة مريم يعقوبيان والأيام الجميلة التي كان يقضيانها في الصخب والعبث البريء إبان العصر الجميل والذي لن يتكرر أبدا وكذلك كان يحدثني عن صديق العائلة يوتا شلوزن ذلك الكائن الفريد الذي دخل العراق بعد ترتيبات حرص على إجراءاتها الروتينية ابنه مهير.
واجه يوتا شلوزن في البدء صعوبات كبيرة حين وصل الحدود من جهة الأردن باعتبارها المنفذ الوحيد للدخول والخروج بحسب قرارات الأمم المتحدة الصادرة بحق العراق بعد غزوه للكويت عام 1990 لذلك كان لا بد من إجراءات أكثر شفافية تسمح بالدخول. هذا الأمر تطلب من مهير أن يوسط السفارة الألمانية بتسهيل الدخول باعتباره ألماني الجنسية من جهة الأم التي ولدت في القصور الملكية النمساوية. وأب دنماركي كان من أهم أفراد الحرس الخاص المكلف بحراسة أزهار الملكة. وطبقا للأعراف فقد حصل يوتا شلوزن على تأشيرة العمل برفقة السيد سارويان. وهكذا دخل الحدود عام 1992 ومنح الإقامة.
كانت سعادة السيدة مريم يعقوبيان بيوتا شلوزن كبيرة جدا حيث عدته البديل لخيبة أولادها الأربعة الذين غادروها وأخذتهم مشاغل الحياة الجديدة في بلدانهم,. وهي اللعنة التي ستبقى ترافقهم جيلا بعد جيل حتى تحين لحظة العودة إلى وطنهم المستباح من قبل الأتراك كما كانت تقول ذلك للقاصي والداني. لذلك السبب كان يخفف عنها الآم الاغتراب باعتباره الوافد من بلد رفيع ليقيم بالقرب منها ويرعاها وزجها.
كانت السنة الأولى سيئة على مزاج يوتا شلوزن الذي لم يألف درجات الحرارة العالية في صيف العراق فكان لا يخرج إلا عند الضرورة ويبقى بالقرب من مكيف الهواء. ولاقى هذا التصرف من قبل العائلة التعاطف الكبير وافترض السيد سارويان أن بوتا شلوزن سيعتاد حر العراق مع مرور الوقت كما كان يطمئن ولده مهير. على العكس من يوتا شلوزن الذي كلما سنحت له الفرصة بالاتصال بمهير كان يتذمر ويتأوه.
ولم تنته المشكلة عند يوتا شلوزن مع حر العراق وإنما تعتده إلى سوء أخلاق العراقيين لا سيما عند أقرانه من الذين كان يصادفهم على الطريق بين الحين والآخر. فلم يكن يعجبه العيش وقتا أطول في العراق ولكن مع إلحاح السيد سارويان والسيدة يعقوبيان اضطر إلى البقاء ولكنه اثر العزلة عن الجميع.
وبعد أربعة أعوام صار يوتا شلوزن مترهلا وابيض شعره بنحو سريع علاوة على انه اعتاد النوم الطويل وأهمل الكثير من واجباته. ومع كل تلك السمات ظل يوتا شلوزن كالولد المدلل للعائلة بل أنهما كانا يحرصان على عرضه بشكل دوري على الأطباء الممتازين كلما شعروا بأنه على وشك المرض. لان السيد سارويان لا يريد أن يحرج أمام ابنه مهير الذي جاء بيوتا شلوزن سليما ليعود به مريضا.
إلى أن جاءت اللحظة المرة، لحظة الهزيمة في شتاء عام 1996 حين ارتفع ضغط الدم الشرياني عند يوتا شلوزن وأودى به إلى السكتة الدماغية بنحو غير متوقع لينزل خبر وفاته كالصاعقة على رأس العائلة. حدث ذلك عند الصباح بالتزامن مع الهبوط السريع والحاد في بورصة المال حين اتصل بي السيد سارويان طالبا مني أقفال المتجر وضرورة الذهاب إليه في بيته الذي لم ادخله سابقا لأية مناسبة كانت لان يوتا شلوزن توفى وهو ليس بمقدوره متابعة الأمر ولا السيدة يعقوبيان.
برغم انه كان كثير الحديث عن يوتا شلوزن ودوره في صياغة الحياة العائلية له من جديد إلا أنني لم أتشرف بالتعرف إليه أبدا رغم أن ذلك كان من أمنياتي. ولو أنني كنت أقف من مسالة اللغة موقفا سلبيا كوني لا أجيد التحدث بأية لغة أجنبية على العكس من يوتا شلوزن الذي يجد التعامل بأكثر من خمس لغات حتى انه تعلم البذاءة هنا في العراق بعد أن يكن يعرف شيئا عنها. ولكنني كنت مطمئنا بان السيد سارويان سيكون مترجمي المفضل أثناء لقائي بالسيد يوتا شلوزن . إلا أن القدر السيئ يلاحق رغباتي دوما ولا يمسح لي بتحقيق حلم واحد حتى . وها هو ذا يرحل دون ان أشاهده ولو عن بعد.
السيد يوتا شلوزن أجهز على حياته طوعا حين قبل المجيء إلى العراق. ففي إحدى المرات القي القبض عليه وأريد له أن يساق لخدمة احد مقار الحزب الحاكم كحارس، لولا سرعة مجيء السيد سارويان الذي اخرج أوراقه الثبوتية بأنه تبع الحكومة الألمانية وهو مقيم فحسب طبقا للأوراق الرسمية الصادرة من الداخلية العراقية.
على أية حال قام السيد سارويان بإبلاغ ابنه مهير الذي بدوره ابلغ السفارة الألمانية واخذ على عاتقه إبلاغ إخوته في كل من لندن وسدني وباريس والطلب منهم التعجيل بإجراءات السفر إلى العراق لحضور جنازة السيد يوتا شلوزن. ناهيك عن مطالبة الخارجية الألمانية بجثمان يوتا شلوزن لدفنه في وطنه وإعلان الحداد عليه بوصفه من العوائل النبيلة في أوربا. فضلا عن ذلك إرسال وزارة الصحة الألمانية وفدا طبيا عاجلا إلى العراق للوقوف على الأسباب الحقيقة لموته والتأكد من انه لم يقتل أو يسمم. هذا الأمر جوبه بالرفض الشديد من الحكومة العراقية نافية أي اتهام من شأنه أن يتلبس الحكومة العراقية. كل تلك الأحداث حدثت بأقل من ساعة واحدة ودخل البلدان أزمة دبلوماسية بسبب السيد يوتا شلوزن . وصادف أن مجلس الأمن يعقد جلسة اعتيادية للتباحث بقضايا الأمن والسلام العالميين فانتهز المبعوث الدائم الألماني الجلسة وطالب بإدراج قضية يوتا شلوزن وموته المفاجئ في العراق. هذا الأمر استغرب منه المبعوث العراقي مستنكرا طلب المبعوث الألماني فصارت الجلسة إلى هرج ومرج حتى تمكن المبعوث الأمريكي من إصدار قرار أممي يقضي بإرسال مبعوثين دوليين للتحقيق بواقعة موت السيد يوتا شلوزن وسط تهديدات بالفيتو الروسي الذي لم يرفع.
أما أنا الكائن البليد الداعي إلى العدالة والمساواة والمحرض على الثورة الاشتراكية فقد وقفت وقفة الأغبياء أمام المرآة لأول مرة حين يبصرون فيها وجوههم البليدة وهم يضحكون من شدة دهشتهم لما يرون. فقد ضحكت كما لم اضحك من قبل حين تبين لي أن السيد يوتا شلوزن مجرد كلب أهداه مهير إلى أبيه ومات أخيرا بسبب الشيخوخة بطريقة تليق بالكائنات الحية لا كما يموت عشرات العراقيين يوميا بنحو لا أسف فيه.