واقفة إلى جانب كومة من الرمل الأبيض يرتسم حزن على وجهها، حاول أن يبتسم عندما أطل من شباك الباص، فابتسمت بأسى.
عند مثل هذه الكومة الرملية البيضاء في شارع عريض، وفي ليل خريفي بارد، قال لها بحزم وهدوء:
ـ أحبك.
فبكت، وقبلها خلسة، وطار من الفرح.
مسح دمعة مسرعة، هز رأسه ومد أصابعه من الشباك مرسلاً لها قبلة، فابتسمت بأسى، نظر إلى ساعته المكسورة الزجاج، ثم إلى وجهها الحزين، أشار لها بأن تذهب، هزت رأسها رافضة بغضب، وعندما تحرّك الباص أحس بقشعريرة مرة تسحق جسده، وكانت تبكي.
ـ لاتبك.. أرجوك.
قالها مرات، كانا يتشاجران بشدة، يغضب ويشتم، فتغضب وتصمت، وتبكي أحياناً،فيضمها إلى صدره المرتجف، وبصمت مداعباً.
شعرها الأسود القصير
وهاهي تبتعد،شيئاً فشيئاً تختفي، وشيئاً فشيئاً يمتد هذا الذي اسمه الحزن أكثر في جسده المرتجف، أسند رأسه إلى الزجاج وتابع الخط الاسفلتي الملتوي.
حينما سمع صديقه يتشاجر مع الجيران بسبب وجوده، تملكه وجع وخجل كبيران، لملم أوراقه وكتبه المتناثرة، وخرج صامتاً مع الصديق.
قال له:
ـ أين ستذهب؟
فأجاب بغير حزم:
ـ الأماكن كثيرة، وكان يعرف أنه لن يجد مكاناً معقولاً ينام فيه تلك الليلة.
منذ أسابيع لم يذهب إلى منزله،ولم يفاجأ حين عرف أنهم داهموه، تخيّل حال أهله حينها، وتذكر أخته الصغيرة، وكتبه التي لابد أن تتناثر وهم يقلبون صفحاتها بقسوة.
ومنذ أسابيع مكث في هذه الغرفة، التي يغادرها حزيناً وخجولاً
وإليها كانت تأتي فيهمس بغضب عندما تصل:
ـ لم تأتين؟
فتزعل.
ـ قد تكوني مراقبة.
ـ أدوخ أباهم.
ترد بثقة وفرح طفولي،فيضمها بقوة محاولاً أن يضحك.
وهو لايعرف أين سيذهب، ولذا لم يتردد عندما قالوا له ستغادر المدينة إلى قرية منزوية، فكر بها وسألها، فهمست بأسى مستسلم.
ـ الأفضل أن تغادرها.
وها هو يهتز مع تخبطات هذا الباص، إلى جانبه تمتد صحف صفراء، ورواية «أيام الجفاف» التي سرقتها له منذ أيام وكتبت عليها: «إنها أيامنا أيضاً» قلب الصحف ببطء، مد يده إلى الكتاب وانغمس في جو الرواية، حين انتهى تخيّل شكلاً للقرية التي سيصلها، مشابهة لقرية الكتاب، فكر :« سأرسل لحيتي هنالك كما فعل بطل الرواية»، وضحك مصمماً ألا ينتحر مثله، وسيكتب، يكتب أشياء عدة، ورسائل لها:
قالت له:
ـ سأشتري الصحف لك كل يوم، كما كنت تفعل.
وقالت له:
ـ وربما آتي إليك أيضاً.
«وأنا سأتي إليك... سأتي في كل لحظة »،تعالى صوت فيروز فجأة حاراً وصاخباً،أحس أنه سيبكي فهمس لنفسه بخطابية.
ـ على الثوري ألا يكون رومانسياً ومتوتراً إلى هذا الحد.
وضحك من نفسه.
انتبه إلى الأصوات المتعالية في الباص،ثلاث فتيات، سمراوات وشقراء، يجلسن قرب المحرك، فكر لو تستدير الشقراء ليرى وجهها كاملاً.
ـ مائة مرة قلت لك أترك هذه العادة السخيفة.
كانت تصرخ به، عندما تشرد عيناه ملاحقة أجساد الفتيات المختلفات يتظاهر بعدم السمع ويتابع التطلع ليغيظها صوت فيروز مازال منساباً من الاشتياق.
انطلقت فجأة بين المقاعد بصخب فتاة صغيرة، تمنى أن تجلس أمامه ليحدثها عن أشجار ملونة، وعصافير زرقاء، كانت ترتدي قبعة بيضاء من القش تهتز فوق رأسها، وهي تتابع تحركها الصاخب بين المقاعد.. ابتسم لها، قلب الصحف، أسند رأسه إلى الشباك مرتاحاً لرؤية الصغيرة.
ـ بطاقتك الشخصية.
هزّته يد، كان هنالك جسدان ينتصبان أمامه، وكان الباص واقفاً تماماً،من الشباك، رأى سيارة رمادية تطلّ منها وجوه لا لون لها وأمامها وقف مسلح.
ـ لا أحملها.
ـ انزل إذن...
هكذا قال أحد الجسدين.
وقف، الصحف ماتزال تحتل جزءاً من المقعد،حركوها بعصبية، سقط كتاب «أيام الجفاف» على أرض الباص،تطلع به، تطلع من الشباك، خيط الاسفلت الرمادي كان ممتداً بدون حركة، حدق في وجوه الركاب التي تنظر باستغراب وصمت،كان صوت فيروز ما يزال منطلقاً بحماس.
ـ هيا تحرك.
جاءه الصوت مرة ثانية، بقسوة أكبر.. تحرك خطوة، لمح وجه الفتاة الصغيرة ذات القبعة البيضاء من القش، يبتسم.
ابتسم وهبط من الباص المتوقف.
عند مثل هذه الكومة الرملية البيضاء في شارع عريض، وفي ليل خريفي بارد، قال لها بحزم وهدوء:
ـ أحبك.
فبكت، وقبلها خلسة، وطار من الفرح.
مسح دمعة مسرعة، هز رأسه ومد أصابعه من الشباك مرسلاً لها قبلة، فابتسمت بأسى، نظر إلى ساعته المكسورة الزجاج، ثم إلى وجهها الحزين، أشار لها بأن تذهب، هزت رأسها رافضة بغضب، وعندما تحرّك الباص أحس بقشعريرة مرة تسحق جسده، وكانت تبكي.
ـ لاتبك.. أرجوك.
قالها مرات، كانا يتشاجران بشدة، يغضب ويشتم، فتغضب وتصمت، وتبكي أحياناً،فيضمها إلى صدره المرتجف، وبصمت مداعباً.
شعرها الأسود القصير
وهاهي تبتعد،شيئاً فشيئاً تختفي، وشيئاً فشيئاً يمتد هذا الذي اسمه الحزن أكثر في جسده المرتجف، أسند رأسه إلى الزجاج وتابع الخط الاسفلتي الملتوي.
حينما سمع صديقه يتشاجر مع الجيران بسبب وجوده، تملكه وجع وخجل كبيران، لملم أوراقه وكتبه المتناثرة، وخرج صامتاً مع الصديق.
قال له:
ـ أين ستذهب؟
فأجاب بغير حزم:
ـ الأماكن كثيرة، وكان يعرف أنه لن يجد مكاناً معقولاً ينام فيه تلك الليلة.
منذ أسابيع لم يذهب إلى منزله،ولم يفاجأ حين عرف أنهم داهموه، تخيّل حال أهله حينها، وتذكر أخته الصغيرة، وكتبه التي لابد أن تتناثر وهم يقلبون صفحاتها بقسوة.
ومنذ أسابيع مكث في هذه الغرفة، التي يغادرها حزيناً وخجولاً
وإليها كانت تأتي فيهمس بغضب عندما تصل:
ـ لم تأتين؟
فتزعل.
ـ قد تكوني مراقبة.
ـ أدوخ أباهم.
ترد بثقة وفرح طفولي،فيضمها بقوة محاولاً أن يضحك.
وهو لايعرف أين سيذهب، ولذا لم يتردد عندما قالوا له ستغادر المدينة إلى قرية منزوية، فكر بها وسألها، فهمست بأسى مستسلم.
ـ الأفضل أن تغادرها.
وها هو يهتز مع تخبطات هذا الباص، إلى جانبه تمتد صحف صفراء، ورواية «أيام الجفاف» التي سرقتها له منذ أيام وكتبت عليها: «إنها أيامنا أيضاً» قلب الصحف ببطء، مد يده إلى الكتاب وانغمس في جو الرواية، حين انتهى تخيّل شكلاً للقرية التي سيصلها، مشابهة لقرية الكتاب، فكر :« سأرسل لحيتي هنالك كما فعل بطل الرواية»، وضحك مصمماً ألا ينتحر مثله، وسيكتب، يكتب أشياء عدة، ورسائل لها:
قالت له:
ـ سأشتري الصحف لك كل يوم، كما كنت تفعل.
وقالت له:
ـ وربما آتي إليك أيضاً.
«وأنا سأتي إليك... سأتي في كل لحظة »،تعالى صوت فيروز فجأة حاراً وصاخباً،أحس أنه سيبكي فهمس لنفسه بخطابية.
ـ على الثوري ألا يكون رومانسياً ومتوتراً إلى هذا الحد.
وضحك من نفسه.
انتبه إلى الأصوات المتعالية في الباص،ثلاث فتيات، سمراوات وشقراء، يجلسن قرب المحرك، فكر لو تستدير الشقراء ليرى وجهها كاملاً.
ـ مائة مرة قلت لك أترك هذه العادة السخيفة.
كانت تصرخ به، عندما تشرد عيناه ملاحقة أجساد الفتيات المختلفات يتظاهر بعدم السمع ويتابع التطلع ليغيظها صوت فيروز مازال منساباً من الاشتياق.
انطلقت فجأة بين المقاعد بصخب فتاة صغيرة، تمنى أن تجلس أمامه ليحدثها عن أشجار ملونة، وعصافير زرقاء، كانت ترتدي قبعة بيضاء من القش تهتز فوق رأسها، وهي تتابع تحركها الصاخب بين المقاعد.. ابتسم لها، قلب الصحف، أسند رأسه إلى الشباك مرتاحاً لرؤية الصغيرة.
ـ بطاقتك الشخصية.
هزّته يد، كان هنالك جسدان ينتصبان أمامه، وكان الباص واقفاً تماماً،من الشباك، رأى سيارة رمادية تطلّ منها وجوه لا لون لها وأمامها وقف مسلح.
ـ لا أحملها.
ـ انزل إذن...
هكذا قال أحد الجسدين.
وقف، الصحف ماتزال تحتل جزءاً من المقعد،حركوها بعصبية، سقط كتاب «أيام الجفاف» على أرض الباص،تطلع به، تطلع من الشباك، خيط الاسفلت الرمادي كان ممتداً بدون حركة، حدق في وجوه الركاب التي تنظر باستغراب وصمت،كان صوت فيروز ما يزال منطلقاً بحماس.
ـ هيا تحرك.
جاءه الصوت مرة ثانية، بقسوة أكبر.. تحرك خطوة، لمح وجه الفتاة الصغيرة ذات القبعة البيضاء من القش، يبتسم.
ابتسم وهبط من الباص المتوقف.