كتاب " كنت معلماً " للأديب المغربي العربي بنجلون ، ينتمي إلى أدب السيرة الذاتية ، لكنه ـ كما يشير عنوانه ـ يتوقف عند جزء من سيرته الحياتية العامة ، هو سيرته التربوية التعليمية أو كما حددها المؤلف نفسه هو" فصول من حياته المهنية " . والجدير بالذكر أن الكاتب أصدر كتابين في هذا الجنس الأدبي ، رصد فيهما مراحل أخرى من حياته ( طفولته ـ شبابه ـ مسيرته الكتابية ) ، ولم يرد أن يصب كل سيرته في كتاب واحد جامع دفعة واحدة ، فهو يخشى أن يستنفد كل ما لديه من مخزونه الحكائي ، وتجاربه الحياتية المتنوعة ، ذلك أنه ينطلق من قناعة مفادها أن التوقف عن الحكي ( الكتابة بصفة عامة ) يعني الموت ، وأن الاستمرار في ممارسته يعني الحياة والتجدد . ويورد مثالين من الواقع الأدبي يؤكدان ما ذهب إليه ، هما : الكاتب الأمريكي هيمينجواي الذي وضع حداً لحياته حين أحس بأنه لم بعد له ما يقوله ، والروائي المصري محمد البساطي الذي مات حين توقف عن الكتابة. بالحكي يتحدى الكاتب الموت ، ويحتال عليه للاستمرار في الحياة ، وذلك كان صنيع شهرزاد حين أنقذت حياتها من الموت المحقق بحكيها المشوق الممتع ، ولو أتمت حكاياتها لشهريار في ليلة واحدة ، لكان الموت مصيرها تلك الليلة. إن الكاتب يصرح لنا في مستهل كتابه أنه يحتفظ برصيده من التجارب الحياتية وكذلك بما سيتوفر عليه من مشاريع كتابية أخرى قادمة ، لكي يوزعها في كتب متعددة ، ولا يحب أن يستنفدها في كتاب واحد ، فيقعد ملوماً محسوراً . إن كتابه " كنت معلماً " ، يدخل ضمن هذه الاستراتيجية الكتابية التي خطها المؤلف لنفسه ، فقد رصده لتجربته التربوية التعليمية في مرحلة من مراحل حياته المهنية الطويلة ،هي مرحلة التعليم الابتدائي.
يتألف الكتاب من عشرة فصول قصيرة ، يعنى المؤلف بوضع عناوين دالة على مضامينها ، وهي كما يلي : أسباب النزول / عشيقة عمري / نون وما يظنون / بائع الأقراط / خذ كتابك بيمينك / مدينة بحجم الكف / لنحذر هداياهم / الاعتقال الناعم / الإرث الحقيقي / وعاد إلى الحياة.
وقد توفق المؤلف في اختيار هذه العناوين لفصول كتابه ، فهي عتبات نصية محفزة، صاغها الكاتب بأسلوب لا يخلو من طرافة وتشويق ، تدفع القارئ إلى الدخول إلى متن الكتاب
( النص الكبير ) للتعرف على ما تخفيه العناوين ( النصوص الصغيرة ) بين ثناياها من خبايا وأسرار .
يوجه الكاتب خلال سرده لأطوار حياته المهنية نقداً لاذعاً لكثير من السلوكات والظواهر السلبية التي لاحظها سواء في مجال مهنته أو داخل المجتمع بصفة عامة ، منها :
ـ النفاق والتملق والتزلف من أجل تحقيق أغراض ومصالح شخصية .
ـ تقدير المجتمع للمظاهر الخارجية الزائفة ولمن يملك الجاه والمال والسلطة ، وتحقيره لمن يملك العلم والمعرفة ويتشبث بالقيم الأصيلة.
ـ سلوكات بعض المعلمين السلبية المشينة ، في تلك المرحلة ، المسيئة إلى مهنة التعليم الشريفة.
ـ ظاهرة ممارسة الدعارة من لدن بعض النساء وسيلةً لإعالة أسرهن وأبنائهن تحت ضغط الحاجة والفقر في مجتمع تتسع فيه الفروق بين الطبقات ، ويفتقر إلى العدالة الاجتماعية.
ـ النظرة الدونية التي ينظر بها الآخر الغربي إلى بلادنا وإلى البلدان الإفريقية عامة لانغلاقه و سوء اطلاع فئات واسعة منه ، وبينهم رجال التعليم ، على تراثنا وحضارتنا وثقافتنا.
ـ استغلال الغرب الإمبريالي للبلاد العربية والإفريقية ، ومن بين مظاهر الاستغلال البشعة ، رمي نفاياتهم الخطيرة في أراضيها. ويذكر لنا الكاتب مثالاً من محيط التعليم ، يتمثل في إهداء مؤسسة تعليمية فرنسية ما فضل وبلي وانتهت صلاحيته من أجهزة تعليمية إلى مدرسة الكاتب في إطار شراكة وتوأمة بين المؤسستين التعليميتين. ( فصل : لنحذر هداياهم )
بالإضافة إلى هذه القضايا الهامة التي يسوقها المؤلف خلال سرده سيرتَه التعليمية التربوية ، يسجل العديد من التجارب الحياتية والأحداث الطريفة والمواقف الحرجة التي عاشها ، سواء في حياته العملية أو في حياته في مجتمع ضيق في مدينة صغيرة مهمشة هي مولاي إدريس زرهون. ومن بين التجارب المريرة التي مر بها ، تجربة الاعتقال الذي تعرض له سنة 1973 هو ومجموعة من رفاقه ، بسبب نشاطه الحقوقي والحزبي والثقافي المشروع ، في تلك المرحلة العصيبة التي أمست تسمى بسنوات الرصاص . كان لتلك التجربة أثر بالغ على نفسه اضطرته ـ وهو الأبي ، الغيور على وطنه ، العاشق لمهنته ، المحب لتلاميذه ـ إلى مغادرة الوطن إلى الجزائر ثم إلى فرنسا ، تفادياً لما يمكن أن يتعرض له من بطش وظلم ، ولم يعد من منفاه الاختياري أو الاضطراري إلا بعد أن أخبر من لدن عائلته بقرار عودته إلى وظيفته أو عشيقة عمره ( مهنة التعليم ) وإلى فلذات كبده تلاميذه وتلميذاته . وقد خصص لهذه التجربة الفصل الذي اختار له عنواناً ساخراً هو " الاعتقال الناعم " ، وذلك على طريقته في مواجهة المواقف الصعبة بالسخرية والاستهانة والتحدي.
والجدير بالملاحظة أن الكاتب يعرض في غير موضع من سيرته التعليمية آراءه في التربية والتعليم ، والطرق التربوية الحديثة ، وما كان يقوم به من إنجازات تربوية مبتكرة بمبادرة شخصية ، يمكن أن يفيد منها معلمو اليوم أو من هم مقبلون على ولوج عالم التربية والتعليم من الطلبة ـ المعلمين أو الأساتذة . لقد كان معلم الأمس يضطلع بدور المربي والطبيب النفسي والمصلح الاجتماعي والمدافع عن القيم الأصيلة ، وهذا ما حاول القيام به صاحب السيرة ، فقد كان يعالج بعض حالات تلميذاته النفسية كالعي والخجل ( فصل : الإرث الحقيقي ) ، بل كان يتجاوز محيطه المدرسي إلى محيط أسر تلميذاته ، فيتدخل لمساعدتها على حل بعض مشاكلها ، لإيمانه بأن المشاكل الأسرية تنعكس سلباً على التحصيل الدراسي للمتعلمين . يقول : " لم أكن معلماً ومربياً للصغار فقط ، إنما للكبار كذلك ؛ فهم أيضاً ، كانوا في حاجة ماسة إلى التربية والتعليم ، ومحاربة الأمية الفكرية ، وأي خطأ يبدر منهم ، سينعكس سلباً على نفسية أطفالهم وسلوكهم " ( فصل : وعاد إلى الحياة ) ، وكثيراً ما كان يقدم النصائح الصادقة إلى من اضطرتهن ظروف حياتهن إلى امتهان مهن غير شريفة ، أو يبيع لهن الأقراط حسب تعبيره ، كما أنه كان يقف مواقف صلبة إزاء بعض السلوكات السلبية التي عاينها في محيطه التعليمي.
كتاب " كنت معلماً " للعربي بنجلون ، تأريخ لمرحلة من مراحل تطور التعليم العمومي في المغرب ، كان المدرس فيها يتفانى في أداء مهمته التربوية التعليمية ، ويضحي براحته ووقته وحتى بماله ـ رغم ضآلته ـ لقناعته الراسخة بأهمية التعليم وجدواه في تربية الأجيال وبناء الإنسان وتقدم المجتمع. إنه كتاب ممتع مؤنس مفيد ، يعالج العديد من القضايا والظواهر الاجتماعية بلغة سهلة ممتنعة وبأسلوب يتسربل بالسخرية اللاذعة والنقد الهادف البناء.
يتألف الكتاب من عشرة فصول قصيرة ، يعنى المؤلف بوضع عناوين دالة على مضامينها ، وهي كما يلي : أسباب النزول / عشيقة عمري / نون وما يظنون / بائع الأقراط / خذ كتابك بيمينك / مدينة بحجم الكف / لنحذر هداياهم / الاعتقال الناعم / الإرث الحقيقي / وعاد إلى الحياة.
وقد توفق المؤلف في اختيار هذه العناوين لفصول كتابه ، فهي عتبات نصية محفزة، صاغها الكاتب بأسلوب لا يخلو من طرافة وتشويق ، تدفع القارئ إلى الدخول إلى متن الكتاب
( النص الكبير ) للتعرف على ما تخفيه العناوين ( النصوص الصغيرة ) بين ثناياها من خبايا وأسرار .
يوجه الكاتب خلال سرده لأطوار حياته المهنية نقداً لاذعاً لكثير من السلوكات والظواهر السلبية التي لاحظها سواء في مجال مهنته أو داخل المجتمع بصفة عامة ، منها :
ـ النفاق والتملق والتزلف من أجل تحقيق أغراض ومصالح شخصية .
ـ تقدير المجتمع للمظاهر الخارجية الزائفة ولمن يملك الجاه والمال والسلطة ، وتحقيره لمن يملك العلم والمعرفة ويتشبث بالقيم الأصيلة.
ـ سلوكات بعض المعلمين السلبية المشينة ، في تلك المرحلة ، المسيئة إلى مهنة التعليم الشريفة.
ـ ظاهرة ممارسة الدعارة من لدن بعض النساء وسيلةً لإعالة أسرهن وأبنائهن تحت ضغط الحاجة والفقر في مجتمع تتسع فيه الفروق بين الطبقات ، ويفتقر إلى العدالة الاجتماعية.
ـ النظرة الدونية التي ينظر بها الآخر الغربي إلى بلادنا وإلى البلدان الإفريقية عامة لانغلاقه و سوء اطلاع فئات واسعة منه ، وبينهم رجال التعليم ، على تراثنا وحضارتنا وثقافتنا.
ـ استغلال الغرب الإمبريالي للبلاد العربية والإفريقية ، ومن بين مظاهر الاستغلال البشعة ، رمي نفاياتهم الخطيرة في أراضيها. ويذكر لنا الكاتب مثالاً من محيط التعليم ، يتمثل في إهداء مؤسسة تعليمية فرنسية ما فضل وبلي وانتهت صلاحيته من أجهزة تعليمية إلى مدرسة الكاتب في إطار شراكة وتوأمة بين المؤسستين التعليميتين. ( فصل : لنحذر هداياهم )
بالإضافة إلى هذه القضايا الهامة التي يسوقها المؤلف خلال سرده سيرتَه التعليمية التربوية ، يسجل العديد من التجارب الحياتية والأحداث الطريفة والمواقف الحرجة التي عاشها ، سواء في حياته العملية أو في حياته في مجتمع ضيق في مدينة صغيرة مهمشة هي مولاي إدريس زرهون. ومن بين التجارب المريرة التي مر بها ، تجربة الاعتقال الذي تعرض له سنة 1973 هو ومجموعة من رفاقه ، بسبب نشاطه الحقوقي والحزبي والثقافي المشروع ، في تلك المرحلة العصيبة التي أمست تسمى بسنوات الرصاص . كان لتلك التجربة أثر بالغ على نفسه اضطرته ـ وهو الأبي ، الغيور على وطنه ، العاشق لمهنته ، المحب لتلاميذه ـ إلى مغادرة الوطن إلى الجزائر ثم إلى فرنسا ، تفادياً لما يمكن أن يتعرض له من بطش وظلم ، ولم يعد من منفاه الاختياري أو الاضطراري إلا بعد أن أخبر من لدن عائلته بقرار عودته إلى وظيفته أو عشيقة عمره ( مهنة التعليم ) وإلى فلذات كبده تلاميذه وتلميذاته . وقد خصص لهذه التجربة الفصل الذي اختار له عنواناً ساخراً هو " الاعتقال الناعم " ، وذلك على طريقته في مواجهة المواقف الصعبة بالسخرية والاستهانة والتحدي.
والجدير بالملاحظة أن الكاتب يعرض في غير موضع من سيرته التعليمية آراءه في التربية والتعليم ، والطرق التربوية الحديثة ، وما كان يقوم به من إنجازات تربوية مبتكرة بمبادرة شخصية ، يمكن أن يفيد منها معلمو اليوم أو من هم مقبلون على ولوج عالم التربية والتعليم من الطلبة ـ المعلمين أو الأساتذة . لقد كان معلم الأمس يضطلع بدور المربي والطبيب النفسي والمصلح الاجتماعي والمدافع عن القيم الأصيلة ، وهذا ما حاول القيام به صاحب السيرة ، فقد كان يعالج بعض حالات تلميذاته النفسية كالعي والخجل ( فصل : الإرث الحقيقي ) ، بل كان يتجاوز محيطه المدرسي إلى محيط أسر تلميذاته ، فيتدخل لمساعدتها على حل بعض مشاكلها ، لإيمانه بأن المشاكل الأسرية تنعكس سلباً على التحصيل الدراسي للمتعلمين . يقول : " لم أكن معلماً ومربياً للصغار فقط ، إنما للكبار كذلك ؛ فهم أيضاً ، كانوا في حاجة ماسة إلى التربية والتعليم ، ومحاربة الأمية الفكرية ، وأي خطأ يبدر منهم ، سينعكس سلباً على نفسية أطفالهم وسلوكهم " ( فصل : وعاد إلى الحياة ) ، وكثيراً ما كان يقدم النصائح الصادقة إلى من اضطرتهن ظروف حياتهن إلى امتهان مهن غير شريفة ، أو يبيع لهن الأقراط حسب تعبيره ، كما أنه كان يقف مواقف صلبة إزاء بعض السلوكات السلبية التي عاينها في محيطه التعليمي.
كتاب " كنت معلماً " للعربي بنجلون ، تأريخ لمرحلة من مراحل تطور التعليم العمومي في المغرب ، كان المدرس فيها يتفانى في أداء مهمته التربوية التعليمية ، ويضحي براحته ووقته وحتى بماله ـ رغم ضآلته ـ لقناعته الراسخة بأهمية التعليم وجدواه في تربية الأجيال وبناء الإنسان وتقدم المجتمع. إنه كتاب ممتع مؤنس مفيد ، يعالج العديد من القضايا والظواهر الاجتماعية بلغة سهلة ممتنعة وبأسلوب يتسربل بالسخرية اللاذعة والنقد الهادف البناء.