جعفر الديري - محمد جواد رضا: تعاملنا الخاطيء مع اللغة العربية أزم علاقتنا بالكون

كتب – جعفر الديري

قال مستشار الدراسات التربوية والاجتماعية أ.د. محمد جواد رضا، ان تعاملنا الخاطيء مع ألفاظ وتراكيب اللغة العربية عبر تاريخ الحضارة العربية الاسلامية أزم علاقتنا الوجودية بالكون، وحال بيننا وبين صنع إجماع مقبول بين قوى العالم المختلفة.
جاء ذلك خلال محاضرة تحت عنوان "اللغة العربية وتشكيل الفكر العربي، معضلة الخروج من (الميثولوجي) إلى ( الوظيفي ) اللغة وديناميكيات الفكر والسلوك الجمعي - نظرة فوقية"، ألقاها د.رضا مساء الاثنين 8 مارس آذار 2004، ضمن برنامج الندوات العلمية المتخصصة - الملتقى الثالث- لمركز البحرين للدراسات والبحوث.

كونفيوشوس وبرونر

واستحضر د.رضا نصين لغويين هما نص لكونفيوشوس يتعلق باللغة والعدالة، والآخر نص لمدير مركز الدراسات الادراكية بجامعة هارفرد جيروم، يتعلق باللغة والفكر. جاء في النص الأول لكونفيوشوس "صحح اللغة، فان لم تكن اللغة صحيحة فان ما يقال لن يكون هو الشيء المراد، واذا كان المقول غير المراد فان ما ينبغي الأخذ به يظل مهملا، واذا بقي ما ينبغي الأخذ به مهملا فان الأخلاق والفنون تتحلل، واذا ما تحللت الأخلاق والفنون فان العدالة ستبتلي بالضلال واذا ما ابتليت العدالة بالضلال فان الناس سيتيهون" وجاء في النص الثاني لبرونر "قال دانتي أن الرجل الفقير يكره أدوات عمله، وانه لشيء أكثر من مقلق بالنسبة لي أن أجد أكثر طلابي ينفرون من اثنتين من أدواتهم الفكرية الأساسية ... الرياضيات والاستعمال الواعي للغتهم الأم ... وكلتاهما ابتداع لتنظيم أفكار الانسان حول الأشياء وتنظيم التفكير في التفكير نفسه، وأني لآمل أن تشهد الحقبة القادمة تكريس اهتمام أعظم لاثارة رغبة الشباب بهاتين الأداتين العقليتين الممتازتين.

وضوح وتعقيد

ليضيف بعدها: إن أكثر الأشياء وضوحا في حياتنا أكثر الأشياء تعقيدا، ومن ذلك اللغة العربية واللغة العامية على وجه التحديد، فكثيرا ما كان تعاملنا الخاطيء مع الألفاظ طوال تاريخ الحضارة العربية الاسلامية حائلا بيننا وبين إيجاد علاقة مقبولة بين قوى المجتمع المختلفة، الأمر الذي جعلنا غير قادرين على حسم أمورنا، فلو رجعنا الى أيام الخليفة الراشد الثالث لوجدنا أن نقاط الاختلاف بينه وبين الثائرين ارتدت رداءا لغويا فضفاضا، ومن ذلك كان عثمان بن عفان يقول (المال مال الله) وهذا القول يفتي باطلاق يد صاحب السلطان ، فهو ممثل السلطة الالهية فهو اذا حر في التصرف بذلك المال المال، فقد وهب لابن عمه مروان بن الحكم خراج مصر لخمس سنين ، فلما خوطب في ذلك قال (ولما كنت اذا أمير المؤمنين) ولكن أحد الثائرين وهو أبو ذر الغفاري يقول ( المال مال المسلمين ) وهو قول يفتي بكف يد صاحب السلطان الا في الأوجه التي شرعها القرآن الكريم، وهاتان العبارتان كانتا بمثابة صيغ سياسية ملغومة، وهما يؤسسان لنوعين مختلفين من السلطة السياسية، والحال نفسه مع الخليفة الراشد الرابع فقد رفع الخوارج بعدما تمردوا عليه شعار لا حكم الا لله ، وكان رده ردا فقهيا ( نعم لا حكم الا لله ... ولكن هؤلاء يقولون لا امرة الا لله) اذا فقد كان الفارق بينهما مأتزرا البيان اللغوي أو اللفظي.

أراض عربية محتلة

ثم استعرص جملة من هذه الشواهد معلقا: ذلكما موقفين فقط بينما هناك شواهد كثيرة على فعل اللغة، فعندما حولنا هزيمة الخامس من حزيران 1967 الى نكسة خدعنا أنفسنا أكثر حينما قبلنا قرار مجلس الأمن، الذي كان فخا كبيرا، فالقرار نص على استرجاع ( أراض عربية محتلة) وليس على ( الأراضي العربية المحتلة)، مردفا: ان اللغة شكلت استجاباتنا لتحديات التاريخ، وعلى أساس من ذلك نطرح هذه القضية. فقد قامت اللغة بتعكير علاقتنا بالكون نفسه، حتى ترجمة حالنا كلمة عبثية هي الدهر، وقد ورثنا من هذه العبثية الدهرية رؤية هلامية في طبيعة الأشياء رؤية حجبت عنا النظر في الأسباب المقبولة القادرة على صنع واقعنا الانساني فنحن غير مستعدين لبذل الجهد في فهم تلك الأسباب، فالتفسير الهلامي يعفينا من كل ذلك، فكأننا بذلك نسري بالبركة فان أعجبتنا الأشياء فنحن من أملى ارادته وان كان العكس فنحن ضحايا الزمن الرديء. ولكن هذا ما نمارسه كل يوم، ويكفي أن نفتح الصحف السيارة وغير السيارة حتى نفاجأ بمقالات المشمأزين من وضع الحال العربي المتدثر بالهزائم والعجز ذات العناوين الغلاظ، أحيانا يخرج كاتب بعنوان "الكتابة خارج الزمن الرديء" وتارة بعنوان "الزمن العربي الرديء" وثالثة تتكلم عن "الزمن السخيف" اذن هناك احالة واضحة من قبلنا الى الزمن وتزكية لأنفسنا عن القصور وتبرئة لها من المسئولية.

زمان رديء

وتساءل د.رضا: هل تعالج الأمور هكذا؟!، لماذا لا يسأل هؤلاء القانطون على الزمن لماذا زماننا العربي رديء الى هذا الحد؟! وكيف تكون الأزمنة الأخرى، وبما نقيس رداءة الزمن وجودته؟! فالزمن بدلالته الاجتماعية نتاج البشر أنفسهم نتاج فكرهم وعملهم وتعاملهم، فلو استمروا على هذا الحال لما كان الا الانصراف عن حقيقة أزمتنا وعن العمل على تشخيص أسباب الأزمات ومسبباتها، فلو قام هؤلاء بهذا الاهتمام لوجدوا أن حرمان الضمير العام للأمة من هذه الحقيقة الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية هو علة كل ذلك، وأنه لا يوجد زمن جيد أو زمن رديء وانما نفوس مبدعة حرة كريمة مبتدعة بناءة لنظم سياسية واقتصادية وتربوية.

أبو العلاء المعري

ومتحدثا عن تجربة أبي العلاء المعري، قال المحاضر: فالننظر الى أبي العلاء المعري، الذي لم يكن لديه ذلك الطموح أو الطمع الذي يموه عليه رؤيته للأشياء، فقد نفض عينية من كل شيء ، فلم يكن ليوفق بين الاحباطات ولا المكاسب والخسارات الشخصية، ، فكان في ذروة التحرر الوجودي ، لذلك انكشفت له الأمور فكان قادرا على تفسير الأشياء بمسبباتها الحقيقية، ، فكان بليغا في تعبيره عن البشر لأنهم من يصنع الجودة أو الرداءة، الأمر الذي كان يشكل انقلابا علائيا يدفع الناس الى أن يحاسبوا أنفسهم وهذا ما كنا نحن العرب نتحاشاه خوفا وطمعا أو تلبسيا، أو تدليسا، ومثل كل دعوته العقلائية دأب أبو العلاء يعلم الناس أن ينظروا في أنفسهم ويراجعوا ليتبينوا مواقع الجودة والرداءة ، وكان يعلم الناس أن الحودة والرداءة مرتبطة بحرية الاختيار ومسؤلية الانسان، أما الاحالة على الزمن أو الدهر، فهي تاتي من باب القصور أو التقصير الذي يكشف عن أحد وجوه العجز المسلكي، فقد جهد أبو العلاء في عصمة عقل الانسان العربي من فانتازية اللغة المموهة، وجهد في تعليم الناس أن الزمن ليس رديئا، ، فقد كان الهدف العلائي يهدف الى احلال الحقيقة الموضوعية أو المادية محل الخيال الميتافيزيقي، في بنية الفكر التي يجب أن تكون لغة موضوعية واضحة محددة".

تعابير مغبشة

وختم د.محمد جواد رضا، بالتأكيد على قدرة التعابير المغبشة على استدعاء معان غير قابلة للتحديد في أذهان الآخرين معان لا يمكن ضمان التوصل من ورائها الى نتائج نافعة للمجتمع، وان كلمات مثل الحرية العبودية والمجتمع الصالح والتقدم والتخلف، تظل عرضة لسوء الاستعمال وايقاع الشقاق الاجتماعي ما لم يكن هناك اجماع على مضامين محددة وشفافة.

الوسط البحرينية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى