… لم أرتَهنُ أبدا ً ذكرياتي لدفق ِ الأيام إلاّ في هذه اللحظة التي تتوالد ُ من دواخلي بدون ِ حَبل سرّي ، ولكن بمخاض ٍ ممضّ يشرأبُ من خلف المستحيل ، بلا أنفاس ، بلا لون ، وفي بقعة ٍ ما يأمُرني فأستجيبُ ثمَّ يمتهن ُ جُلَّ إرادتي في ملامسة ِ الحياة كلَّ يوم وفي كل ِّ اللحظات ، بالتفاريق ، وهكذا دواليك …!!
أن تكتبْ بمعنى أن تتوجّس ، أن تَفح َّ من الألم و تقطع َ التماسَ مع جغرافية ِ الَقيح ِ و الدَمامل إلاّ من تلك البقعة ِ التي أجد ُني فيها ، رغمي و رغم الرّب ، متلبسا ً بالضياء وعن سَبق ِ الإصرار أفتح ُ درفة َ روحي على صورة ِ قطة ٍ غريرة تركض ُ وراء َ كرة ِ الخيط ، تتقوّسُ معَها ثم تتشقلبُ بالأرض ِ المفروشة ِ بالحصير ، وبحركة ٍ سريعة تَقعي و تنظر ُ الى أعماق عيني فجأة ً …
– إنتبه .. إنتبه .. إخلع نعليك …!!
تأتيني صرخة ُ ( أُم فاطمة ) ، تَنتظُني خنجرا ً ، تسفك ُ سنواتي ، كلّما أركض ُ وراء َ إبنتِها الصغيرة ، والصغار ُ لا يفقّهون من لوائح ِ الممنوعات فهُم مُعاقون الاّ من نزواتِهم ، فأرفع ُ سبابتي عند حدود ِ الغرفة ِ المعتمة و أهدّد ُ ( فاطمة ) تلك الشيطانة الصغيرة ، التي سَرقت مني كرياتي الزجاجية الصغيرة ، فتحتضُ أمُّها أدوات َ حياكة الصوف وتطردني من بيتِها رغم توسلاتي و نشيجي .. وبعد أيام تجفُّ دموعي وأسترجعُ من فاطمة الكريات الزجاجية مقابل ِ طابة ٍ مطاطية صغيرة …!!
وهكذا كانت الأيام ُ تترى …. خشبة ٌ مغروزة بقماش ٍ محشو بالقطن على شكل دُمية مقابل قرضة ٍ من بيض ِ اللقلق ، صفّارة ٌ من َتنكٍ مقابل جوزة ٍ خضراء فتظلّ ُ أشيائُنا الصغيرة رهن َ التبادل ِ بيننا ، نحن الأطفال ، ولم ننتبه ُ إطلاقا ًلنتؤَين صغيرَين اللَذين تكوّرا في صدر ِ فاطمة إلاّ حين َ إعترضَها ( وهاب ُ ) الآعور وهو يدلق ُ كرشَه الضخم فوق َ حزامِه …
– سأقضُم هاتَين التفاحتين … !!
فترمي فاطمة ُ الطابة َ الصغيرة صوب َ الاحجار ِ السبعة ِ المرصوفة ِ فوق َ بغضِها و تنطلق ُ الى البيت وهي تبكي …
– يا إبن القَحبة … !!
ولفاصلة ٍ ما … بيني وبين نافذتي الآن … أراها …
وهي تنطّ ُ مع جديلتيْها فوق مربعات ِ الطباشير …
– هوپ …!!
وتحط ّ ُ قدَميها فوق مربَعين معا ً ، فيرتدّ ُ طَرفي عن النافذة ِ وأنمحي في تلك المسافة بوَساعة ِ رغباتي الطفولية ثم أنزلق ُ من أردان ِ الزمن …
هامش رقم ( 1 )
[ لم تظهر فاطمة مرة ً أخرى في ذلك الصيف ولا في الخريف ِ البارد الذي تلاه ، حين عوى الكلب ُ الجائع بإتجاه القمر ، ولا حين جاشت المزاريب ُ بمياه ِ الامطار … لقد إحتجبت في البيت بعد آخر ِ رمية ٍ للطابة ِ صوب َ الأحجار السبعة ]
تنعتُنا الملائكة ُ بأننا أبناء طين السطوح و حارة المجاري التي تحتضنُها الجدران ُ الآيلة بالس … فوح … قريبا ً من وجه ِ إله ٍ مجهول حين يشيح ُ وحين يَبوح ، فكلّ شيء هناك بمنتهى البساطة .. قد ينحدر ُ الانسان ُ من بطن ِ إمرأة وهي منحنية فوق التنور ، أو تنشر ُ الغسيل فوق حبل ٍ لازال يقطّر دما ً ، أو تسمع ُ إسمك َ من هديل الحمائم بكاءً أو نحيبا ً أو قمرا ً يداهمك َ بالقشعريرة …
لا فرق أبدا ً … بأن تحيا مسلولا ً كالسيف أو مخبولا ً أو مقتولا ً بشظايا القلوب ، وحين يجنّ الليل ُ يرقد ُ جنونُك على حافة النهار ، فهناك كلّ شيئ ينمو على حافة ِ الصحو من أولى العثرات الى أواخرالخَطوات ولم تكن الليالي موصودة ٌ بالأبواب ولا بالرتِاج فبوابة ُ السماءَ منزوعة القَيد ، فإحضن ْ السماء َ بكامل ِ عُريها ومن أيِّ ركن ٍ تختار ُ و أغنم ْ شهقة َ الزمن من نجمة ٍ تنوس ُ ليلا ً ، فالأقفال ُ المختومة على القلوب صِنو َالأبواب المغلقة لم تشهدها حارتُنا أبدا ً …
هامش رقم ( 2 )
[ الذين إستوطنوا هذه الديار منذ القدم ما كانوا يوصدون َ أبوابَهم ، ولا يستأجرون َ على أموالهِم و أملاكهِم عَسسا ً ، حتى جلبوا الى آذربيجان سبعة عشر الفا ً وسبعمائة ٍ و عشرة أقفال من روسيا ….. !!
التقويم القفقاسي سنة 1846 – ص 171 ] ولا زالت أحداقُنا مرصودة ً لبوابة ِ التيه نلعق ُ فيها إنتظارَنا العَلقم ، ففي أوائل ِ ربيعها الغضّ صَحت ْ فاطمة مرتعدة ليلا ً وهي تذوق ُ لأول مرة ٍ مرارة َ البيت المهجور في زقاق ِ الأولياء ، فمدّت أصابعَها الصغيرة بين الإغفاء ِ و نبوءة ِ الجسد لتعلن َ بشارة َ نُطفة ٍ سائلة فوق َ مَرج ِ فخذيها في ضوء ِ قمر ينزلقُ من الشباك فتسللت دموع ُ الهلع الى غصّتِها وإنحشرت في زاوية الغرفة لتئن ّ حتى إنبلاج ِ الضوء وإيلاج العَتمة للحيطان لتدرك َ تماما ً بأنها فقدت إقتفاء َ الُـُطهر وساهت في أديم ِ الجسد ، متنمّلة ً ، لزِجة ، رخوة إلا من نشوة ٍ غارت في رجفة ٍ و إرتعاش ثم في فيض ِ نكهة الربيع ، ومثل قطرات ٍ تشع ّ ُ سال َ الزمن في رائحة ِ البراري والطحالب ِ الطافية في ماء ٍ مقدّس ٍ …
إلهي … كيف تتجرّد ُ طفلة ٌ غضّة من التردد ِ في ذلك الظلام الأعمى حين تتضوّر روحُها جوعا ً الى التسمِّر في زهرة ِ أعوامها لتعب َّ مزيدا ً من صدى صوت أيامها كخمر ٍ معتّق …؟؟
أماه .. أماه ..!!
وبزخات ٍ هادرة يَرتعش ُ صوت ُ فاطمة ، فتهرع ُ الأ ُم ّ ُ لتجد َ طفلتَـَها قابعة ً في زاوية ِ الغرفة وعلى فخذَيها بقع ُ دم ٍ غامقة بدأت بالإتضاح ِ مع إنسلاخ ِ الفجر …
لا تخافي يا بُنيتي .. لا تخافي .. !!
فتحضن ُ فاطمة أمَّها وهي تنتحب ُ وَجِلهِ … و يندفع ُ الضياءُ دفعة ً واحدة الى الغرفة ِ حاملا ً في أحشائهِ رائحة َ الربيع وهي تضوع ُ بطَلع ِ الزهور فيتنفس ُ الهواء ألقا ً فوق بقع ِ الدّم المغسولة للتَوِ من جسد ِ فاطمة الغارق ِ بتنهدات ِ السهوب و سعيرِ البيداء وصليل ِ السيوف وقرقعة ِ الدروع ِ والرماح وصهيل ِ الخيول وهي تسابق التّوق َ والتعطش َ للدماء ، فيزمجرُ على اثرِها سرب ُ من الطائرات ِ العموديّة فوق حارتنِا …. !!
هامش رقم ( 3 )
[ ولفاصلة ِ الشّوق الطفولي بينَنا ، رأيت ُ فاطمة َ مرة ً أخرى بعد عامين وهي تتعثّرُ بعبائَتها و تمشي وراء َ زوجها ( وهاب ) الأعور المندلِق كرشُه الضخم فوق حزامِه .. ]
"ملاحظة : الآراء الواردة في النصوص والمقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع."
أن تكتبْ بمعنى أن تتوجّس ، أن تَفح َّ من الألم و تقطع َ التماسَ مع جغرافية ِ الَقيح ِ و الدَمامل إلاّ من تلك البقعة ِ التي أجد ُني فيها ، رغمي و رغم الرّب ، متلبسا ً بالضياء وعن سَبق ِ الإصرار أفتح ُ درفة َ روحي على صورة ِ قطة ٍ غريرة تركض ُ وراء َ كرة ِ الخيط ، تتقوّسُ معَها ثم تتشقلبُ بالأرض ِ المفروشة ِ بالحصير ، وبحركة ٍ سريعة تَقعي و تنظر ُ الى أعماق عيني فجأة ً …
– إنتبه .. إنتبه .. إخلع نعليك …!!
تأتيني صرخة ُ ( أُم فاطمة ) ، تَنتظُني خنجرا ً ، تسفك ُ سنواتي ، كلّما أركض ُ وراء َ إبنتِها الصغيرة ، والصغار ُ لا يفقّهون من لوائح ِ الممنوعات فهُم مُعاقون الاّ من نزواتِهم ، فأرفع ُ سبابتي عند حدود ِ الغرفة ِ المعتمة و أهدّد ُ ( فاطمة ) تلك الشيطانة الصغيرة ، التي سَرقت مني كرياتي الزجاجية الصغيرة ، فتحتضُ أمُّها أدوات َ حياكة الصوف وتطردني من بيتِها رغم توسلاتي و نشيجي .. وبعد أيام تجفُّ دموعي وأسترجعُ من فاطمة الكريات الزجاجية مقابل ِ طابة ٍ مطاطية صغيرة …!!
وهكذا كانت الأيام ُ تترى …. خشبة ٌ مغروزة بقماش ٍ محشو بالقطن على شكل دُمية مقابل قرضة ٍ من بيض ِ اللقلق ، صفّارة ٌ من َتنكٍ مقابل جوزة ٍ خضراء فتظلّ ُ أشيائُنا الصغيرة رهن َ التبادل ِ بيننا ، نحن الأطفال ، ولم ننتبه ُ إطلاقا ًلنتؤَين صغيرَين اللَذين تكوّرا في صدر ِ فاطمة إلاّ حين َ إعترضَها ( وهاب ُ ) الآعور وهو يدلق ُ كرشَه الضخم فوق َ حزامِه …
– سأقضُم هاتَين التفاحتين … !!
فترمي فاطمة ُ الطابة َ الصغيرة صوب َ الاحجار ِ السبعة ِ المرصوفة ِ فوق َ بغضِها و تنطلق ُ الى البيت وهي تبكي …
– يا إبن القَحبة … !!
ولفاصلة ٍ ما … بيني وبين نافذتي الآن … أراها …
وهي تنطّ ُ مع جديلتيْها فوق مربعات ِ الطباشير …
– هوپ …!!
وتحط ّ ُ قدَميها فوق مربَعين معا ً ، فيرتدّ ُ طَرفي عن النافذة ِ وأنمحي في تلك المسافة بوَساعة ِ رغباتي الطفولية ثم أنزلق ُ من أردان ِ الزمن …
هامش رقم ( 1 )
[ لم تظهر فاطمة مرة ً أخرى في ذلك الصيف ولا في الخريف ِ البارد الذي تلاه ، حين عوى الكلب ُ الجائع بإتجاه القمر ، ولا حين جاشت المزاريب ُ بمياه ِ الامطار … لقد إحتجبت في البيت بعد آخر ِ رمية ٍ للطابة ِ صوب َ الأحجار السبعة ]
تنعتُنا الملائكة ُ بأننا أبناء طين السطوح و حارة المجاري التي تحتضنُها الجدران ُ الآيلة بالس … فوح … قريبا ً من وجه ِ إله ٍ مجهول حين يشيح ُ وحين يَبوح ، فكلّ شيء هناك بمنتهى البساطة .. قد ينحدر ُ الانسان ُ من بطن ِ إمرأة وهي منحنية فوق التنور ، أو تنشر ُ الغسيل فوق حبل ٍ لازال يقطّر دما ً ، أو تسمع ُ إسمك َ من هديل الحمائم بكاءً أو نحيبا ً أو قمرا ً يداهمك َ بالقشعريرة …
لا فرق أبدا ً … بأن تحيا مسلولا ً كالسيف أو مخبولا ً أو مقتولا ً بشظايا القلوب ، وحين يجنّ الليل ُ يرقد ُ جنونُك على حافة النهار ، فهناك كلّ شيئ ينمو على حافة ِ الصحو من أولى العثرات الى أواخرالخَطوات ولم تكن الليالي موصودة ٌ بالأبواب ولا بالرتِاج فبوابة ُ السماءَ منزوعة القَيد ، فإحضن ْ السماء َ بكامل ِ عُريها ومن أيِّ ركن ٍ تختار ُ و أغنم ْ شهقة َ الزمن من نجمة ٍ تنوس ُ ليلا ً ، فالأقفال ُ المختومة على القلوب صِنو َالأبواب المغلقة لم تشهدها حارتُنا أبدا ً …
هامش رقم ( 2 )
[ الذين إستوطنوا هذه الديار منذ القدم ما كانوا يوصدون َ أبوابَهم ، ولا يستأجرون َ على أموالهِم و أملاكهِم عَسسا ً ، حتى جلبوا الى آذربيجان سبعة عشر الفا ً وسبعمائة ٍ و عشرة أقفال من روسيا ….. !!
التقويم القفقاسي سنة 1846 – ص 171 ] ولا زالت أحداقُنا مرصودة ً لبوابة ِ التيه نلعق ُ فيها إنتظارَنا العَلقم ، ففي أوائل ِ ربيعها الغضّ صَحت ْ فاطمة مرتعدة ليلا ً وهي تذوق ُ لأول مرة ٍ مرارة َ البيت المهجور في زقاق ِ الأولياء ، فمدّت أصابعَها الصغيرة بين الإغفاء ِ و نبوءة ِ الجسد لتعلن َ بشارة َ نُطفة ٍ سائلة فوق َ مَرج ِ فخذيها في ضوء ِ قمر ينزلقُ من الشباك فتسللت دموع ُ الهلع الى غصّتِها وإنحشرت في زاوية الغرفة لتئن ّ حتى إنبلاج ِ الضوء وإيلاج العَتمة للحيطان لتدرك َ تماما ً بأنها فقدت إقتفاء َ الُـُطهر وساهت في أديم ِ الجسد ، متنمّلة ً ، لزِجة ، رخوة إلا من نشوة ٍ غارت في رجفة ٍ و إرتعاش ثم في فيض ِ نكهة الربيع ، ومثل قطرات ٍ تشع ّ ُ سال َ الزمن في رائحة ِ البراري والطحالب ِ الطافية في ماء ٍ مقدّس ٍ …
إلهي … كيف تتجرّد ُ طفلة ٌ غضّة من التردد ِ في ذلك الظلام الأعمى حين تتضوّر روحُها جوعا ً الى التسمِّر في زهرة ِ أعوامها لتعب َّ مزيدا ً من صدى صوت أيامها كخمر ٍ معتّق …؟؟
أماه .. أماه ..!!
وبزخات ٍ هادرة يَرتعش ُ صوت ُ فاطمة ، فتهرع ُ الأ ُم ّ ُ لتجد َ طفلتَـَها قابعة ً في زاوية ِ الغرفة وعلى فخذَيها بقع ُ دم ٍ غامقة بدأت بالإتضاح ِ مع إنسلاخ ِ الفجر …
لا تخافي يا بُنيتي .. لا تخافي .. !!
فتحضن ُ فاطمة أمَّها وهي تنتحب ُ وَجِلهِ … و يندفع ُ الضياءُ دفعة ً واحدة الى الغرفة ِ حاملا ً في أحشائهِ رائحة َ الربيع وهي تضوع ُ بطَلع ِ الزهور فيتنفس ُ الهواء ألقا ً فوق بقع ِ الدّم المغسولة للتَوِ من جسد ِ فاطمة الغارق ِ بتنهدات ِ السهوب و سعيرِ البيداء وصليل ِ السيوف وقرقعة ِ الدروع ِ والرماح وصهيل ِ الخيول وهي تسابق التّوق َ والتعطش َ للدماء ، فيزمجرُ على اثرِها سرب ُ من الطائرات ِ العموديّة فوق حارتنِا …. !!
هامش رقم ( 3 )
[ ولفاصلة ِ الشّوق الطفولي بينَنا ، رأيت ُ فاطمة َ مرة ً أخرى بعد عامين وهي تتعثّرُ بعبائَتها و تمشي وراء َ زوجها ( وهاب ) الأعور المندلِق كرشُه الضخم فوق حزامِه .. ]
"ملاحظة : الآراء الواردة في النصوص والمقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع."