أسامة كمال أبو زيد - حنين.. قصة قصيرة

ما زالت رائحته تأبى مغادرة أنفى، وما زال مذاقه قابعاً في حلقي، وما زالت تلك الجلسة عالقة في سماء ذاكرتي، تتلون بكل ألوان الحنين والبهجة معاً.. كنت ما أزال في طفولتي الأولى، وذهب بى أبى إلى عمتي ، عمتي التي تسكن في بيت من دور واحد، ويعلوه تكعيبة عنب مزدهرة، وتحوطه حديقة صغيرة تمتلئ بعشب ناتئ صغير؛ البيت يتشابه بل ربما يتماثل مع كل البيوت التي تجاوره في الشكل والملامح، بل ربما في البشر الساكنين أيضا. الزيارة كانت ودية من أخ لأخته، التي لديها خمسة أبناء يكبرونني جميعا، ولدى ( ضرتها ) ثلاثة أبناء آخرين ليصير مجموعهم معا ثمانية، المدهش أن علاقة المرأتين كانت دافئة، ولا تشعر أبداً أنهما زوجتان لزوج واحد . لمعت الصينية الفضية في عيني وشربت الشاي الساخن بهدوء وبقت معي نكهته ومذاقه إلى الآن . لم أدرك وقتها إن هذا الشاي يدعونه شاي التموين، وأن الجميع يتشاركون في شرابه صباحاً ومساءً من بورسعيد مدينتي بأقصى الشمال وحتى أسوان بأقصى الجنوب، وأنه آخر ما تبقى من زمن " ناصر" الذي رحل منذ بضع سنوات، ولم يبق من أثار عالمه سوى ذلك الشاي الذي يتشارك فيه الجميع تعبيراً عن اشتراكية لم يبق منها سوى مشروبا بطعم المودة يسمونه (شاي التموين )، والذي لم أسأل نفسي يوماً عن سر هذا الاسم، لأنني أدركت أن الاسم لا يعنيني في شيء، ولا يعنى حتى شاربيه من المصريين ..وحينما انتهت الزيارة سألت أبى عن اسم المكان الذي تعيش فيه عمتي، فقال لي : الحرية ...
بالطبع لن ادعى أن ذلك الاسم زلزل قلبي الصغير وقتها، أو أن إحساساً غريباً وسريا انتابني وقت سماع اسمه من أبى، فلم أكن سوى طفل، لا يمتلك سوى عينين ترى العالم باندهاش وحب، ويتدارى بجسده الصغير في كنف الأب أو الأم، لكنني ظللت لفترة طويلة أتنسم رائحة ( شاي التموين ) مختلطة بمودة عمتي وأبنائها عند قراءتي أو سماعي لتلك المفردة السحرية: الحرية
مع مرور الوقت تغيرت تلك الرائحة وتبدلت، وصارت مجرد ومضة بعيدة غائبة في سماء الذاكرة، وحل مكانها مشاعر وروائح أخرى تمكنت منى، ومن معنى الحرية البريء الحالم ذاته ، سيما وأن مشروب المودة اختفى منذ سنوات بعيدة، واختفت معه المودة و المحبة، واختفى أيضا بيت عمتي، بل كل بيوت الحرية، بعد أن زالت من فوق الأرض وصارت مجرد أطلال داخل الروح .

تعليقات

تحية طيبة، الأستاذ أسامة كمال
نص جميل بموضوعه وجماليته الأسلوبية البسيطة
والواضحة.لدي سؤال كالآتي:هل الحنين في نصك القصصي الى الجو العائلي أم الى الزمن الناصري،أم إليهما معا؟؟
تحية طيبة.
 
أعلى