* مهداة بالضرورة إلى: علي السوداني
منذ سنين وهو على هذه الحال ، ينام طوال النهار ويصحو ليلا ، لا يعرف غير البيت و الحانة ، هما موجز حياته مع كومة أطفال يذهبون إلى المدارس ويرجعون ، بينما هو ملفوف تحت الفراش ينتظر أول الليل حتى يمضي نحو الحانة باحثا عن ضحية يشرب الخمرة على حسابها.
والضحايا أنواع لا تتشابه في الملامح ولا في الصفات يختارهم حميد النعسان بخبرة دامت أكثر من عشرين عاما ، فهذا المطرب يحب من يصغي إليه مهما كان الثمن ، وذاك رسام يبحث عن موديل حتى يرسم البورتريه الذي يحلم به ، وغيرهما ذاك البخيل الذي يبحث عمن يجلس معه حتى يسمع كلمة (كريم) ولو لمرة واحدة في حياته. ضحايا من كل مكان ، هذا يأتي من استراليا وذاك من أمستردام وآخر من موسكو ، ورابع من لندن وخامس من واشنطن وأغنياء بالمصادفة يأتون من بغداد بحثا عن حميد النعسان الذي اضحك حتى الحجارة ، وليس كثيرا عليه نصف ليتر من عرق (توما) أو(حداد الذهبي) مع ثلاثة أطباق من اللبنة والطحينية والسلطة الخضراء ، وما دام ذلك كله لا يساوي غير عشرة دنانير في بار الشرق أو في حانة كوكب الشرق.
حياة من نمط آخر ، لا سماء يراها ولا شمس ولا طيور ولا بائع الغاز ، مشطوب من الذاكرة أن يرى سوق الخضروات وصف البرتقال والباذنجان ، لا يهمه أن يعرف ما نشرته الصحف والمجلات ، وما عاد يلتفت إلى مطاحن الموت في أفغانستان وبغداد وباكستان ، ما دامت البشرية كلها ستنتهي لمصير محتوم ، يرى أطفاله مصادفة إذا ما استيقظ سهوا لقضاء حاجته ، هو الكائن الليلي الذي قد يموت إذا مسه الضوء في النهار،
حتى النساء لم يسلمن من حميد النعسان ، فهذه جاءت من بلاد الضباب وتلك من مدينة النور ، والثالثة تأتي لزيارة عمان من اجل أن ترى حميد حتى يغمى عليها من الضحك ، لكنه يطمئن مسبقا أن الحساب مدفوع قبل أن تدخل تلك السيدة في الغيبوبة وقبل أن ترجع نحو الشيراتون بصحبة حارسها الشخصي (بودي غارد) كما تشير إليه وهي تموت من الضحك،
لا احد يصدق أن احد البارات المشهورة ، أغلق أبوابه بعد أن كف حميد النعسان عن الذهاب إليه ، ذلك أن السكارى (وبرغبتهم) يبحثون عن حميد حتى يكونوا من بين ضحاياه ، إذ لا متعة في أية حانة إذا لم يكن حميد النعسان متربعا على عرشها.
البعض من الضحايا لا يدري أن حميد النعسان كاتب ساخر ومعروف ، يخافه حتى سعد البزاز وغالبية المسؤولين الكبار ، مفرداته وقحة ، ووقاحته يحبها القراء تحت سن الخمسين ويرتجف أمامها من هم اكبر من ذلك ، ذات مرة جاءه رئيس الوزراء وأشهر مسدسه على رأسه ، بينما هو يكتب في حلقة من (مكاتيب عراقية) وهو يضحك عادة من الشخصيات التي يكتب عنها.
رئيس الوزراء اخرس ضحكته بعد أن رأى فوهة المسدس قرب عينيه ، فما كان منه غير الفرار إلى عمان مرعوبا من الرصاص الذي كاد ينقله من رجل ساخر إلى جثة هامدة. حدث ذلك منذ زمان بعيد ، أيام كان حميد النعسان مثل بقية البشر ، يعمل في النهار وينام في الليل.
بمرور الوقت صار البحث عن ضحية هو المعنى الثاني لاصطياد الفريسة ، وهذا يعني أن الصياد هو دائما حميد النعسان و فريسته هو الذي يدفع ثمن المشروبات ، ولم يعد من احد يخجل من ذلك التعبير القاسي ، بل تأتي إليه الناس زرافات ووحدانا وهي تقول بفرح عارم: نحن ضحيتك الليلة يا حميد،
بل تراه يرفض أحيانا بعض تلك الضحايا ، لماذا يا حميد؟
يقول: أنا أعطي وساما لمن يكون ضحيتي ، وهذا لا يستحق أن يكون منهم ، وأيضا لماذا يا حميد؟
حينها تنهمر الصفات اللاذعة التي لا يحبها في ضحيته ، فيقول: هذا وسخ ولا أظنه استحم في بيته منذ سنة ، وذاك بخيل لا يعطي بقشيشا للنادل وأما النوع الثالث فهو ثرثار لا يعطيني لحظة من التأمل ، بينما الآخر مرفوض ما دام يضحك بلا سبب ، والذي غالبا ما يسأله عن طول لحيته ومتى ينوي حذفها عن بقية ملامحه.
صديق واحد من زحمة هؤلاء ، يلعب معه النرد في أعجب واغرب المباريات ، اسمه غياث الطباخ ، هما معا لا احد يمكنه أن ينتصر عليهما في تلك اللعبة ، عند التاسعة ليلا ، وإذا عز العثور على فريسة حتى منتصف الليل ، لا مانع حينها أن يجلس بصحبة ذاك الوسخ الذي لا يستحم أو البخيل الذي لا يعطي بقشيشا ، ولا مانع في تلك الساعة المتأخرة من الليل أن يرفع يده اليمنى موافقا على صحبة الثرثار أو ذاك الذي يضحك دونما سبب ويسأل عن لحيته ، لكنه حتما سينتقم منهم بكمية من القذع والشتائم وحفنة من السباب ليست آخرها كلمة (حيوانات) التي (يموتون) من الضحك عندما يقولها عنهم،
لا يعرف السبت من الأربعاء ، ولا الجمعة من الثلاثاء ، لكنه يعرف يوم الخميس ، إذ تزدحم الحانات ويسهر القوم في كرنفالات صاخبة ورقص وغناء ، وليلة الخميس مضمونة تماما والضحايا على قفا من يشيل ، يخرج حميد النعسان أنيقا مزهوا بنفسه مرددا: (الناس تحبنا وتحترمنا) يسمعها غياث الطباخ في كل مرة ينقض فيها حميد النعسان على فريسته المدججة بالمال والتي ستدفع الحساب والبقشيش معا.
ذات مرة وعلى صوت صباح فخري وفي بطن حانة الشرق ، انتشى حميد النعسان ، وفجأة راح يرقص في وسط الحانة المزحومة بالزبائن والسياح من نساء ورجال ، ثم انطلق يغني (إن تجودي فصليني) وفي لحظة ساحرة من زمن النشوة قام السياح جميعا يشاركونه الرقص والغناء والطرب ، ثم هبت الحانة عن بكرة أبيها ترقص بجنون ، بما في ذلك صاحب البار وبقية الزبائن ، تحدق فيهم باستغراب (مارلين مونرو) المعلقة على جدار الحانة منذ ثلاثين سنة ، وحدها التي لم تستطع الرقص في تلك الساعة،
بعض الضحايا كرماء جدا ، و بخاصة بعد الكأس الرابعة ، قبل أن يترنح واحدهم من تعتعة الخمرة ورعشتها ، يمد أصابعه في جيب معطفه ويعطي حميد النعسان عشرين دينارا وربما مائة دولار إذا كان من العائدين من المهجر ، يعطيها دون منة مع عشرات القبل الممزوجة برائحة الثوم التي تفوح من المسامات.
البحث عن ضحية مهنة عسيرة لا تشبه أية مهنة على طول الأرض وامتدادها ، وعلى عمق شعابها وأسرارها ، والغريب أنها تتكرر يوميا ، مع أن أحوال الناس تتغير سنة بعد أخرى ، ومن يملك مالا منهم قد يكف عن الذهاب إلى تلك الحانة وقد يحتسي الخمرة في بيته تخفيضا للنفقات ، وهكذا ، سيأتي اليوم الذي تختفي الضحايا تماما ، فماذا سيفعل حميد النعسان إذا جاء ذاك اليوم الأسود؟
لكن الصياد الماهر لا يعبأ بما يقال ، فهذا هو نفسه الحال يتكرر منذ سنوات ، حيث (الناس تحبنا وتحترمنا) كما يحلو لحميد النعسان أن يقول ، وإذا كان وحده من يشرب الخمرة على حساب الضحايا ، فقد انضم إليه غياث الطباخ ، وصارا معا يبحثان عن ضحية دسمة بعد التاسعة من كل ليلة ، أما إذا عزت الفريسة عليهما فما من ضحية عندها غير غياث الطباخ ، الذي يدفع الحساب بالتي هي أحسن ، دونما منة أو ندم ، لكنه يهمس مع نفسه دون أن يسمعه حميد النعسان ويقول: الحياة ليست سيئة دائما.
ہ قاص وروائي عراقي
منذ سنين وهو على هذه الحال ، ينام طوال النهار ويصحو ليلا ، لا يعرف غير البيت و الحانة ، هما موجز حياته مع كومة أطفال يذهبون إلى المدارس ويرجعون ، بينما هو ملفوف تحت الفراش ينتظر أول الليل حتى يمضي نحو الحانة باحثا عن ضحية يشرب الخمرة على حسابها.
والضحايا أنواع لا تتشابه في الملامح ولا في الصفات يختارهم حميد النعسان بخبرة دامت أكثر من عشرين عاما ، فهذا المطرب يحب من يصغي إليه مهما كان الثمن ، وذاك رسام يبحث عن موديل حتى يرسم البورتريه الذي يحلم به ، وغيرهما ذاك البخيل الذي يبحث عمن يجلس معه حتى يسمع كلمة (كريم) ولو لمرة واحدة في حياته. ضحايا من كل مكان ، هذا يأتي من استراليا وذاك من أمستردام وآخر من موسكو ، ورابع من لندن وخامس من واشنطن وأغنياء بالمصادفة يأتون من بغداد بحثا عن حميد النعسان الذي اضحك حتى الحجارة ، وليس كثيرا عليه نصف ليتر من عرق (توما) أو(حداد الذهبي) مع ثلاثة أطباق من اللبنة والطحينية والسلطة الخضراء ، وما دام ذلك كله لا يساوي غير عشرة دنانير في بار الشرق أو في حانة كوكب الشرق.
حياة من نمط آخر ، لا سماء يراها ولا شمس ولا طيور ولا بائع الغاز ، مشطوب من الذاكرة أن يرى سوق الخضروات وصف البرتقال والباذنجان ، لا يهمه أن يعرف ما نشرته الصحف والمجلات ، وما عاد يلتفت إلى مطاحن الموت في أفغانستان وبغداد وباكستان ، ما دامت البشرية كلها ستنتهي لمصير محتوم ، يرى أطفاله مصادفة إذا ما استيقظ سهوا لقضاء حاجته ، هو الكائن الليلي الذي قد يموت إذا مسه الضوء في النهار،
حتى النساء لم يسلمن من حميد النعسان ، فهذه جاءت من بلاد الضباب وتلك من مدينة النور ، والثالثة تأتي لزيارة عمان من اجل أن ترى حميد حتى يغمى عليها من الضحك ، لكنه يطمئن مسبقا أن الحساب مدفوع قبل أن تدخل تلك السيدة في الغيبوبة وقبل أن ترجع نحو الشيراتون بصحبة حارسها الشخصي (بودي غارد) كما تشير إليه وهي تموت من الضحك،
لا احد يصدق أن احد البارات المشهورة ، أغلق أبوابه بعد أن كف حميد النعسان عن الذهاب إليه ، ذلك أن السكارى (وبرغبتهم) يبحثون عن حميد حتى يكونوا من بين ضحاياه ، إذ لا متعة في أية حانة إذا لم يكن حميد النعسان متربعا على عرشها.
البعض من الضحايا لا يدري أن حميد النعسان كاتب ساخر ومعروف ، يخافه حتى سعد البزاز وغالبية المسؤولين الكبار ، مفرداته وقحة ، ووقاحته يحبها القراء تحت سن الخمسين ويرتجف أمامها من هم اكبر من ذلك ، ذات مرة جاءه رئيس الوزراء وأشهر مسدسه على رأسه ، بينما هو يكتب في حلقة من (مكاتيب عراقية) وهو يضحك عادة من الشخصيات التي يكتب عنها.
رئيس الوزراء اخرس ضحكته بعد أن رأى فوهة المسدس قرب عينيه ، فما كان منه غير الفرار إلى عمان مرعوبا من الرصاص الذي كاد ينقله من رجل ساخر إلى جثة هامدة. حدث ذلك منذ زمان بعيد ، أيام كان حميد النعسان مثل بقية البشر ، يعمل في النهار وينام في الليل.
بمرور الوقت صار البحث عن ضحية هو المعنى الثاني لاصطياد الفريسة ، وهذا يعني أن الصياد هو دائما حميد النعسان و فريسته هو الذي يدفع ثمن المشروبات ، ولم يعد من احد يخجل من ذلك التعبير القاسي ، بل تأتي إليه الناس زرافات ووحدانا وهي تقول بفرح عارم: نحن ضحيتك الليلة يا حميد،
بل تراه يرفض أحيانا بعض تلك الضحايا ، لماذا يا حميد؟
يقول: أنا أعطي وساما لمن يكون ضحيتي ، وهذا لا يستحق أن يكون منهم ، وأيضا لماذا يا حميد؟
حينها تنهمر الصفات اللاذعة التي لا يحبها في ضحيته ، فيقول: هذا وسخ ولا أظنه استحم في بيته منذ سنة ، وذاك بخيل لا يعطي بقشيشا للنادل وأما النوع الثالث فهو ثرثار لا يعطيني لحظة من التأمل ، بينما الآخر مرفوض ما دام يضحك بلا سبب ، والذي غالبا ما يسأله عن طول لحيته ومتى ينوي حذفها عن بقية ملامحه.
صديق واحد من زحمة هؤلاء ، يلعب معه النرد في أعجب واغرب المباريات ، اسمه غياث الطباخ ، هما معا لا احد يمكنه أن ينتصر عليهما في تلك اللعبة ، عند التاسعة ليلا ، وإذا عز العثور على فريسة حتى منتصف الليل ، لا مانع حينها أن يجلس بصحبة ذاك الوسخ الذي لا يستحم أو البخيل الذي لا يعطي بقشيشا ، ولا مانع في تلك الساعة المتأخرة من الليل أن يرفع يده اليمنى موافقا على صحبة الثرثار أو ذاك الذي يضحك دونما سبب ويسأل عن لحيته ، لكنه حتما سينتقم منهم بكمية من القذع والشتائم وحفنة من السباب ليست آخرها كلمة (حيوانات) التي (يموتون) من الضحك عندما يقولها عنهم،
لا يعرف السبت من الأربعاء ، ولا الجمعة من الثلاثاء ، لكنه يعرف يوم الخميس ، إذ تزدحم الحانات ويسهر القوم في كرنفالات صاخبة ورقص وغناء ، وليلة الخميس مضمونة تماما والضحايا على قفا من يشيل ، يخرج حميد النعسان أنيقا مزهوا بنفسه مرددا: (الناس تحبنا وتحترمنا) يسمعها غياث الطباخ في كل مرة ينقض فيها حميد النعسان على فريسته المدججة بالمال والتي ستدفع الحساب والبقشيش معا.
ذات مرة وعلى صوت صباح فخري وفي بطن حانة الشرق ، انتشى حميد النعسان ، وفجأة راح يرقص في وسط الحانة المزحومة بالزبائن والسياح من نساء ورجال ، ثم انطلق يغني (إن تجودي فصليني) وفي لحظة ساحرة من زمن النشوة قام السياح جميعا يشاركونه الرقص والغناء والطرب ، ثم هبت الحانة عن بكرة أبيها ترقص بجنون ، بما في ذلك صاحب البار وبقية الزبائن ، تحدق فيهم باستغراب (مارلين مونرو) المعلقة على جدار الحانة منذ ثلاثين سنة ، وحدها التي لم تستطع الرقص في تلك الساعة،
بعض الضحايا كرماء جدا ، و بخاصة بعد الكأس الرابعة ، قبل أن يترنح واحدهم من تعتعة الخمرة ورعشتها ، يمد أصابعه في جيب معطفه ويعطي حميد النعسان عشرين دينارا وربما مائة دولار إذا كان من العائدين من المهجر ، يعطيها دون منة مع عشرات القبل الممزوجة برائحة الثوم التي تفوح من المسامات.
البحث عن ضحية مهنة عسيرة لا تشبه أية مهنة على طول الأرض وامتدادها ، وعلى عمق شعابها وأسرارها ، والغريب أنها تتكرر يوميا ، مع أن أحوال الناس تتغير سنة بعد أخرى ، ومن يملك مالا منهم قد يكف عن الذهاب إلى تلك الحانة وقد يحتسي الخمرة في بيته تخفيضا للنفقات ، وهكذا ، سيأتي اليوم الذي تختفي الضحايا تماما ، فماذا سيفعل حميد النعسان إذا جاء ذاك اليوم الأسود؟
لكن الصياد الماهر لا يعبأ بما يقال ، فهذا هو نفسه الحال يتكرر منذ سنوات ، حيث (الناس تحبنا وتحترمنا) كما يحلو لحميد النعسان أن يقول ، وإذا كان وحده من يشرب الخمرة على حساب الضحايا ، فقد انضم إليه غياث الطباخ ، وصارا معا يبحثان عن ضحية دسمة بعد التاسعة من كل ليلة ، أما إذا عزت الفريسة عليهما فما من ضحية عندها غير غياث الطباخ ، الذي يدفع الحساب بالتي هي أحسن ، دونما منة أو ندم ، لكنه يهمس مع نفسه دون أن يسمعه حميد النعسان ويقول: الحياة ليست سيئة دائما.
ہ قاص وروائي عراقي