فلاح العيساوي - عُنقُ الزجاج

جلسَ في محرابِ عينيهْا يعتِّقُ الصهباءَ في كأسهِ الهلامي، ينظرُ نحو أفقِ الوادي السحيقِ، لا يجدُ فيه غيرَ أشلاءٍ بعثرَها الزمنُ، يفوحُ منِها عطرُ الموتِ الرهيبِ على حافةِ هاويةِ الإنهيارِ، ذلكَ الوادي يعجُّ بالنعيقِ، أشباحُ الريحِ تغزوهُ على شكلِ زوابع تطاولُ السماءَ المفتوحةِ، يحاولُ الانتحارَ داخلها، أو الطيرانَ نحو العدمِ المجهولِ.
ليتَ أمي لم تلدني...!
دندنةُ قيثارةِ الوجدِ الأولى...
عوقُ الفكر اللامحدودِ، صمتُ الليالي الجديدةِ يتلاعبُ بالمحظورِ، ثأليلُ الروح تنغمسُ في الحضيضِ، لا وجودَ للفرصِ الضائعةِ، السماءُ تمطرُ أعاصير تعكسُ صورَ الماضي، التعاسة ُوالنجاحُ في بوتقةٍ واحدةٍ، فقط السقوطُ يحققُ الحرية.
يسمعُ صوتَ زاحفٍ مِن خارجِ عالمِهِ يقولُ:
- سيدي حانَ الوقتُ لتصيرَ واقعاً خارجَ الحانة.
بالكاد تحملُه قدماه نحو الخارجِ، ساعدهُ ذلك النادلُ.
إلى حافةِ نهر النسيانِ ذهب يترنحُ، يكادُ يلامسُ الأرضَ، أخيراً انبطحتْ ْمعهُ الذكرياتُ تلامسُ حواسَ الترابِ، استنشقَ الصعيدَ الذي اخترقَ حجبَ تلافيفِ المعقولِ، فأسدلَ ستار العتمةِ على شبحِ جسدٍ مُسجى.
في الصباحِ الباكرٍ آفاقَ من سكرِ ِالهمومِ على أُنشودةِ المزاميرِ، وقفَ على قدميهِ، مَشى نحو الواقعِ الذي يعكسُ الحقيقةَ التي يأبى تصديقَها.
دخلَ إلى عنقِ الزجاجةِ يلوي على عجل يقصدُ الحماّم، في بدايةِ الممرِ تقفُ أمامَه تنظرُ إليه بقلبٍ منكسرٍ، قالتْ والكلماتُ تتدحرج مع الدمعِ المنهمرِ:
- بنُي إلى متى تبقى تقلبُ بكََ الريحُ كأنَكَ هشيمٌ تذروه حيث تشاءُ؟.
- أمي... وهل أنا موجودٌ؟... هل ما زلتِ تأملينَ عودةَ ميتٍ دفُن مع الموتى؟.
- بني لكنك ما تزالُ تتنفسُ الهواء والإنصاف هو الرضوخ للواقع وتقبل الحقيقة مهما كانت الأسبابُ صادمة.
تركها تتُمتم بكلماتٍ، ثم وقفَ يغسلُ شعرَه الذي مُلأ بحبيباتِ الترابٍ، أخذ َيسألُ نفسَهُ: هل أنا حي؟... أنا جسدٌ بلا روحٍ، روحي رحلتْ معها ومعهم نحو الغرب... لكن لماذا أنا هنا بجسدي الممزق؟... كم أنتَ غبي أيها الجسدُ اللعين، تركتهم يرحلونَ بأجسادِهم المقطعةِ، وأنتَ قاومتَ الموتَ السخيفَ الذي انهزمَ أمامكَ، يا ليت كنت معهم قرب الجحيم المنفلقِ من ذلك الجسدِ اللعينِ الذي تناثر َقطعاً حديديةً قطَّعتْ أوصالَهم.
على رنينِ هاتفِه المحمولِ استيقظ َباكراً، قادَ سيارتَه على أملِ الوصولِ إلى محلِ عملِهِ قبلَ ازدحامِ الطرقاتِ، فمدينةُ الأشباحِ ليلاً تعجُّ بالضجيجِ نهاراً، مع الجدرانِ (الكونكريتية) يستحيلُ الولوجُ إلى الطرقاتِ والخروجِ منها بيسرٍ، على بعد أمتار ٍيرى حبيبته وهي تعبرُ الشارعَ، أتتْ سيارةٌ مسرعةٌ دهستها وهربتْ نحو َالمجهولِ، منظرها أعادَ ذاكرةَ الألم، نزلَ يعدو بسرعةٍ نحوها!... فقدَ التركيزَ مع الذهولِ المجنونِ، وقفَ ينظرُ إليها... صاح هي... هي...! حملها إلى سيارتِهِ، لم ينتظرْ سيارةَ الإسعافِ، انطلقَ بها إلى أقربِ مشفىً، حركةٌ تصاعديةٌ تعجُّ في ردهةِ الطوارئ، تلقفتها الأيادي.
جلسَ أمامَ بابِ غرفة العملياتِ الكبرى، دموعُهُ تتسللُ من محجريهِ، روحهُ تصارعُ رهبةَ الإنتظارِ، اتصلَ بأمِهِ:
- أمي لقد وجدتُها؟.
- منْ هيَ؟.
- أمل.
- بنُي خوفي أن تكون قد جنُنت لفراقها؟.
- أمي أنها عادتْ من جديدٍ وعادت معها روحي الميتة.
- ابني أين أنت؟.
- أمي أنتِ طاهرة، هي تحتاجُ إلى دعائكِ.
مضتْ عقاربُ الساعةِ وهي تلدغُ جسدهِ، تجاوزت ْمرحلةَ الخطرِ، فتحتْ عينيها، رأتْ وجهَه الشاحبَ، ابتسامتُهُ اختلطتْ مع دموعِ الفرحِ، همستْ إليه:
- أنتَ منْ أنقذني؟.
- القدرُ من أنقذكِ وأنا وسيطُ فقط.
ابتسمتْ وغفتْ على حلمٍ يغوصُ بالأملِ، يحققُ له السعادةَ بعد الفقدِ والضياعِ الرهيبِ.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى