من يقرأ رسالة الغفران لفيلسوف معرة النعمان، ويريد أن يدرس ما جاء فيها من تأليف أفكار غريبة عجيبة, ويفقه معانيها, ويفهم مقاصدها, احتاج أن يلم بحياة فيلسوف المعرة في شبابه وكهولته , فيحسن درس حياته, ويعرف تفاصيل تلك الأيام التي عاش فيها, فإذا لم يوفق إلى ذلك مرت به رسالة الغفران وهو يظنها من أقوم كتب الدين على حد تعبير طه حسين.
سلك فيلسوف المعرة في هذه الرسالة مسلكاً خفيَّاً أو قل استعمل في تأليفها فناً من الخيال يعجز الكثير من البشر عن الإتيان بمثله. ولا يشك طه حسين في أن علياً أبا منصور بن القارح الذي كُتِبَتْ إليه الرسالة رداً على رسالته التي وصلت إلى فيلسوف المعرة، كان مُعاقراً للخمر, متهالكاً عليها, حتى ألح عليه فيلسوف المعرة في أن يتوب ويترك معاقرة الخمر.
وقد كان فيلسوف المعرة من دعاة ترك شرب الخمور لأسباب لا تخفى على الرجل الحكيم. وهذه من سنن المثقفين الكونيين الذين يريدون راحة الخلق. وكلنا يعلم موقف أديب روسيا الأعظم ليف تولستوي من الخمر, فقد كتب مسرحية شهيرة: من صنع الخمر. كانت بذور فكرتها منثورة في أحدى قصصه واسمها مكيدة الشيطان.
ونحن هنا في هذه المقام من المقال نريد أن ندرس الظرف والسخرية التي اشتمل عليها أسلوب هذه الرسالة البديعة. ويكفيك أن تنظر في خلاصة القصة التي ساقها فيلسوف المعرة عن الكيفية التي أمعن علي بن القارح في ولوج الجنة, فتعلم مقدار الظرف والتهكم والسخرية في رسالة الغفران. وهذه العينة المستلة من رسالة الغفران نعرضها على القارئ ليدرك بصورة جلية ما في هذه الرسالة من فن عظيم:
قام هذا الأديب الحلبي من قبره يوم البعث, فلبث أمداً طويلاً حتى أعياه الحر والظمأ, وهو واثق بدخول الجنة, لأن معه صك الغفران, فلم يفهم معنى هذا الانتظار, ففكر في أن يخدع سدنة الجنة بما كان يخدع به الناس في الدنيا من الشعر, فأنشأ القصائد الطوال في مدح السادن رضوان, وأنشده إياها, فلم يفهم منها شيئاً, لأن رضوان لا يحسن اللغة العربية.فسأله: ما بالك لم تحفل بقصائدي, وقد كان يحفل بها ملوك الدنيا؟ ثم كان بينهما حوار الطرشان يأس فيها علي بن القارح من رضوان, فانتقل إلى سادن آخر يقال له زفر, وأعاد معه القصة, ولكن الخازن كان لبيباً, فنبهه إلى أن يتشفع بالنبي في أمره إذا رغب بدخول الجنة. فاجتهد حتى وصل إلى حمزة, فتوسل به إلى علي, ولكن علي بن القارح كان قد فقد كتاب الغفران أثناء فضه النزاع بين شيخه أبو علي الفارسي وبين طائفة من شعراء البادية. ولكن علياً هون عليه الأمر, وطلب منه شاهداً على الغفران, فاستشهد بقاض من قضاة حلب وقبل شهادته, ولكنه يأس من دخول الجنة قبل الحساب, فلم ير إلا الحيلة. فذهب إلى شباب من بني هاشم, فقال: لقد ألفت في الدنيا كتباً كثيرة كنت أبدؤها وأختمها بالصلاة على النبي وعترته, فحقت لي علكم حرمة, ولي إليكم حاجة قالوا: ما هي؟ قال: إذا خرجت أمكم الزهراء من الجنة لزيارة أبيها, فتوسلوا بها إليه في أن يأذن بدخول الجنة, فقبلوا منه, ثم نادى مناد: يا أهل الموقف غضوا أبصاركم حتى تمر الزهراء. ومرت فاطمة, فسلمت على أبنائها, ورغبوا إليها في أمر صاحبهم فقبلت. وأشارت إليه أن يتبعها فتعلق بركاب إبراهيم ابن النبي, ولم تكن خيلهم تمشي على الأرض لكثرة الزحام, وإنما كانت تطير في الهواء. وصلوا إلى النبي, وشفع فيه, وعاد مع فاطمة وإخوتها ليدخل الجنة, فلما بلغ الصراط لم يستطع أن يتقدم عليه قيد أصبع, فبعثت إليه الزهراء جارية تعينه, فأخذت الجارية كلما أسندته من ناحية مال من الأخرى حتى أعياه ذلك وأعياها, فقال لها:يا هذه إن أردت سلامتي فاستعملي معي قول القائل في الدار العاجلة:
ست إن أعياك أمري
فاحمليني زقفونة
فقالت: ما زقفونة ؟ قال: أن يطرح الإنسان يديه على كتف الآخر ويمسك يديه ويحمله وبطنه إلى ظهره. أما سمعت قول الجحجلول من أهل كفر طاب:
صلحت حالتي إلى الخلف حتى
صرت أمشي إلى الورا زقفونة
فقالت ما سمعت بزقفونة ولا الجحجلول ولا كفر طاب إلا الساعة, فحملته وعبرت الصراط كالبرق الخاطف. فلما جاز قالت الزهراء: قد وهبنا لك هذه الجارية فخذها كي تخدمك في الجنان. فلما صار إلى باب الجنة قال له رضوان: هل معك جواز مرور؟ فقال: لا. فقال: لا سبيل للدخول إلا به, فحار في أمره, فنظر وإذ على باب الجنة من الداخل شجر صفصاف فقال لرضوان: أعطني ورقة من هذه الصفصافة حتى أرجع إلى الموقف فآخذ عليها جوازاً. فقال رضوان: لا أخرج شيئاً من الجنة إلا بإذن من العلي الأعلى. فلما ضجر من هذا الموقف الصعب قال: إنا لله وإنا إليه راجعون, لو أن للأمير أبي المرجى خازناً مثلك ما وصلت أنا ولا غيري إلى درهم من خزانته. والتفت إبراهيم فرآه وقد تخلف عنه فرجع إليه فجذبه جذبة حصله بها في الجنة.
هذه المشهد العجائبي المُدهش يبين مقدار ما تشمل عليه رسالة الغفران من الظرف والسخرية الخفيَّة. ويمكن القول لم يخترع فيلسوف المعرة في هذه الرسالة شيئاً كثيراً من عنده, وإنما وردت أقاصيص الوعاظ والرواة وأهل الحديث والتفسير بأكثر مما ورد في رسالة الغفران . وانظر إلى الخيال الجامح عند فيلسوف المعرة فإن ابن القارح في أحد مجالسه كلما تمنى لقاء أحد من أهل الجنة نظر فإذا هو بين يديه في الحال , فلم يكن بين سكان الجنة وأثاثها وفاكهتها وأغراضها في ذلك فرق. وحين وقع الخلاف والمهاترة بين أهل الجنة وكاد يقع العراك بين ابن القارح وبين شاعر الرجز رؤبة لولا أن تدخل في ذلك والد رؤبة الذي يسمى العجَّاج, وفض هذا الاشتباك. ولقد مر ابن القارح بمدائن الجن في الفردوس فزارهم وسمع من أشعارهم فإذا هذه الأشعار بلغت من غرابة اللفظ والأسلوب مبلغاً يخيل إلى سامعها أنه كلام الجن حقاً مع أن فيلسوف المعرة هو صاحب هذه الأشعار.
سلك فيلسوف المعرة في هذه الرسالة مسلكاً خفيَّاً أو قل استعمل في تأليفها فناً من الخيال يعجز الكثير من البشر عن الإتيان بمثله. ولا يشك طه حسين في أن علياً أبا منصور بن القارح الذي كُتِبَتْ إليه الرسالة رداً على رسالته التي وصلت إلى فيلسوف المعرة، كان مُعاقراً للخمر, متهالكاً عليها, حتى ألح عليه فيلسوف المعرة في أن يتوب ويترك معاقرة الخمر.
وقد كان فيلسوف المعرة من دعاة ترك شرب الخمور لأسباب لا تخفى على الرجل الحكيم. وهذه من سنن المثقفين الكونيين الذين يريدون راحة الخلق. وكلنا يعلم موقف أديب روسيا الأعظم ليف تولستوي من الخمر, فقد كتب مسرحية شهيرة: من صنع الخمر. كانت بذور فكرتها منثورة في أحدى قصصه واسمها مكيدة الشيطان.
ونحن هنا في هذه المقام من المقال نريد أن ندرس الظرف والسخرية التي اشتمل عليها أسلوب هذه الرسالة البديعة. ويكفيك أن تنظر في خلاصة القصة التي ساقها فيلسوف المعرة عن الكيفية التي أمعن علي بن القارح في ولوج الجنة, فتعلم مقدار الظرف والتهكم والسخرية في رسالة الغفران. وهذه العينة المستلة من رسالة الغفران نعرضها على القارئ ليدرك بصورة جلية ما في هذه الرسالة من فن عظيم:
قام هذا الأديب الحلبي من قبره يوم البعث, فلبث أمداً طويلاً حتى أعياه الحر والظمأ, وهو واثق بدخول الجنة, لأن معه صك الغفران, فلم يفهم معنى هذا الانتظار, ففكر في أن يخدع سدنة الجنة بما كان يخدع به الناس في الدنيا من الشعر, فأنشأ القصائد الطوال في مدح السادن رضوان, وأنشده إياها, فلم يفهم منها شيئاً, لأن رضوان لا يحسن اللغة العربية.فسأله: ما بالك لم تحفل بقصائدي, وقد كان يحفل بها ملوك الدنيا؟ ثم كان بينهما حوار الطرشان يأس فيها علي بن القارح من رضوان, فانتقل إلى سادن آخر يقال له زفر, وأعاد معه القصة, ولكن الخازن كان لبيباً, فنبهه إلى أن يتشفع بالنبي في أمره إذا رغب بدخول الجنة. فاجتهد حتى وصل إلى حمزة, فتوسل به إلى علي, ولكن علي بن القارح كان قد فقد كتاب الغفران أثناء فضه النزاع بين شيخه أبو علي الفارسي وبين طائفة من شعراء البادية. ولكن علياً هون عليه الأمر, وطلب منه شاهداً على الغفران, فاستشهد بقاض من قضاة حلب وقبل شهادته, ولكنه يأس من دخول الجنة قبل الحساب, فلم ير إلا الحيلة. فذهب إلى شباب من بني هاشم, فقال: لقد ألفت في الدنيا كتباً كثيرة كنت أبدؤها وأختمها بالصلاة على النبي وعترته, فحقت لي علكم حرمة, ولي إليكم حاجة قالوا: ما هي؟ قال: إذا خرجت أمكم الزهراء من الجنة لزيارة أبيها, فتوسلوا بها إليه في أن يأذن بدخول الجنة, فقبلوا منه, ثم نادى مناد: يا أهل الموقف غضوا أبصاركم حتى تمر الزهراء. ومرت فاطمة, فسلمت على أبنائها, ورغبوا إليها في أمر صاحبهم فقبلت. وأشارت إليه أن يتبعها فتعلق بركاب إبراهيم ابن النبي, ولم تكن خيلهم تمشي على الأرض لكثرة الزحام, وإنما كانت تطير في الهواء. وصلوا إلى النبي, وشفع فيه, وعاد مع فاطمة وإخوتها ليدخل الجنة, فلما بلغ الصراط لم يستطع أن يتقدم عليه قيد أصبع, فبعثت إليه الزهراء جارية تعينه, فأخذت الجارية كلما أسندته من ناحية مال من الأخرى حتى أعياه ذلك وأعياها, فقال لها:يا هذه إن أردت سلامتي فاستعملي معي قول القائل في الدار العاجلة:
ست إن أعياك أمري
فاحمليني زقفونة
فقالت: ما زقفونة ؟ قال: أن يطرح الإنسان يديه على كتف الآخر ويمسك يديه ويحمله وبطنه إلى ظهره. أما سمعت قول الجحجلول من أهل كفر طاب:
صلحت حالتي إلى الخلف حتى
صرت أمشي إلى الورا زقفونة
فقالت ما سمعت بزقفونة ولا الجحجلول ولا كفر طاب إلا الساعة, فحملته وعبرت الصراط كالبرق الخاطف. فلما جاز قالت الزهراء: قد وهبنا لك هذه الجارية فخذها كي تخدمك في الجنان. فلما صار إلى باب الجنة قال له رضوان: هل معك جواز مرور؟ فقال: لا. فقال: لا سبيل للدخول إلا به, فحار في أمره, فنظر وإذ على باب الجنة من الداخل شجر صفصاف فقال لرضوان: أعطني ورقة من هذه الصفصافة حتى أرجع إلى الموقف فآخذ عليها جوازاً. فقال رضوان: لا أخرج شيئاً من الجنة إلا بإذن من العلي الأعلى. فلما ضجر من هذا الموقف الصعب قال: إنا لله وإنا إليه راجعون, لو أن للأمير أبي المرجى خازناً مثلك ما وصلت أنا ولا غيري إلى درهم من خزانته. والتفت إبراهيم فرآه وقد تخلف عنه فرجع إليه فجذبه جذبة حصله بها في الجنة.
هذه المشهد العجائبي المُدهش يبين مقدار ما تشمل عليه رسالة الغفران من الظرف والسخرية الخفيَّة. ويمكن القول لم يخترع فيلسوف المعرة في هذه الرسالة شيئاً كثيراً من عنده, وإنما وردت أقاصيص الوعاظ والرواة وأهل الحديث والتفسير بأكثر مما ورد في رسالة الغفران . وانظر إلى الخيال الجامح عند فيلسوف المعرة فإن ابن القارح في أحد مجالسه كلما تمنى لقاء أحد من أهل الجنة نظر فإذا هو بين يديه في الحال , فلم يكن بين سكان الجنة وأثاثها وفاكهتها وأغراضها في ذلك فرق. وحين وقع الخلاف والمهاترة بين أهل الجنة وكاد يقع العراك بين ابن القارح وبين شاعر الرجز رؤبة لولا أن تدخل في ذلك والد رؤبة الذي يسمى العجَّاج, وفض هذا الاشتباك. ولقد مر ابن القارح بمدائن الجن في الفردوس فزارهم وسمع من أشعارهم فإذا هذه الأشعار بلغت من غرابة اللفظ والأسلوب مبلغاً يخيل إلى سامعها أنه كلام الجن حقاً مع أن فيلسوف المعرة هو صاحب هذه الأشعار.