ما رأيك...؟
تخيل أن تلك الفتاة هناك .. تلك الفتاة الرقيقة والتي تلعب بأطواق الهيب هوب المضيئة.. تحرك خصرها النحيل فتتراقص الحلقات المضيئة حولها... نعم تلك الفتاة التي ترتدي حذاء قصيرا يظهر ساقين لامعتين ومكتنزتين وزغب أبيض يشع بضوء الشمس على حواف الساق ؛ ذهبت يوما إلى رحلة خلوية ، دقت وأصدقائها الخيام ثم سارت لتبحث عن الحطب... وعندما وضعت قدمها على الرملة الصفراء تلون الوادي من حولها فجأة حيث كان في الحقيقة مغطى بالسحالي التي تغير لون جلدها لتتناسق مع صفرة الصحراء... نعم تلك الفتاة ستجد نفسها في قلب وادي السحالي... هذه الكائنات المتلونة .. كشفت عن نفسها حين أحست بأقدام غريبة تطأ واديها الصامت المنعزل... رفعت رؤوسها .. فاتسعت عينا الفتاة ... لم تعد قادرة على التنفس ولا الصراخ... عضت على أصابعها وهي تذرف الدمع وآلاف السحالي القبيحة تحيط بها من كل مكان.... هل يمكنك أن تتخيل ذلك؟..
قلت بفزع:
- لقد أخفتني حقا...
واصل وهو ينظر للأفق:
- رفعت السحالي رؤوسها الصغيرة ذات الأعين الرمادية وفتحت أفواهها وكأنها تبتسم... أسنانها لا تبين فكأنها بلا أسنان... إنها لا تعض... ولن تعض الفتاة.. بل أنها وعلى العكس من ذلك كانت مرتعبة من الفتاة ، والفتاة مرتعبة منها... تشعر الفتاة بصعقة كهرباء في دماغها من الخوف فتجمع شتات فزعها وتطلق صرخة عظيمة... وبدورها تشعر السحالي بالفزع فتتقطع ذيولها وتدفن نفسها في الرمال .. تدور الذيول وتتلوى حول نفسها ويزداد فزع الفتاة... وحين يهرع نحوها بقية أصدقائها لا يجدوا أي شيء سوى جسد صديقتهم وهو مسجى على الأرض فاقدة الوعي.
قلت:
- قصة مفزعة...
قال:
- ولكن.. تخيل إنها إن لم تأت مع أصدقائها أو أنهم لم يسمعوا صرختها... ثم ظنوا أنها غادرت بسيارتها فتركوها ورحلوا...
قلت:
- لا أستطيع تخيل موقف الفتاة...
قال:
- تخيل موقف السحالي؟
قلت:
- آها.. حسن... موقف السحالي... ماذا سيكون موقفها.. ربما ستظل مختفية إلى الأبد...
قال:
- صحيح.. ولكنها لابد أن تأكل... لتتجهز للسبات...
سألت:
- ستأكل الفتاة؟
قال:
- السحالي لا تأكل البشر...
سألت:
- فماذا ستفعل...؟
زم شفتيه المشققتين وأنفه الضخم المقوس ارتمى فوق الشفة شبه الأرنبية العليا حيث يفصل بينهما لحم اخضر مليء بحبوب جلدية نشأت عن حلق الشارب.
ردد هامسا:
- ماذا ستفعل .... ماذا ستفعل؟
ضرب فخذي بيده الضخمة كأنفه واتكأ على عصاه ونهض ثم سار ببطء ويده اليمنى داخل جيبه واليسرى تقبض على العصا ثم غاب عن ناظري.
كان الخريف قد جعل الأشجار سوداء السيقان والعروق ، والنهر بنيا يستعد للفظ الطمي الغني.
ستنتهي أشهر النقاهة بعد عملية زرع الكلى وربما أبقى وربما أعود... إنني مؤمن بوجود قوة تحرك هذا الكون وهذا بلا دليل كما يؤمن الطفل بوجود بابا نويل أو الغول.. ومع ذلك فإيماني ليس حماقة كإيمان الطفل... إن شيئا ما يرسم قدري..وحين بلغت النزل الصغير الذي أستأجر فيه غرفة رخيصة رأيت الشاب الإيراني أو الذي احسبه إيرانيا يجلس خلف البنك ساهما ، إنه الشخص الوحيد الذي لم أره يحمل هاتفا محمولا. إنه دائما شارد الذهن... بشعر ينسدل على كتفيه.. ويده نحيلة ومشعرة كأغلب الإيرانيين. أعطاني المفاتيح وواصل شروده. وكان ذلك يريحني جدا.
ارتقيت السلم بخطوات حذرة فلا زال الجرح طريا.
دفعت المفتاح فرفض أن يتحرك في مدفنه. حاولت دون جدوى وحينها نزلت ولم أجد الإيراني. ولم أعرف لماذا في هذه اللحظة وتحديدا في هذه اللحظة شعرت بارهاق ما. وربما بفزع من أن لا أتمكن من إلقاء جسدي على السرير. كان علي أن أجد الإيراني فدرت حول البنك ودخلت إلى ممر صغير كأنفاق الأهرامات. تحركت خياشيم أنفي حين غمرتني رائحة فئران.. تلك الرائحة النفاذة الكريهة. ثم وجدت تفرعا للممر على يساري وعرفت أنه مدرج يفضي إلى بدروم. هبطت بحذر حفاظا على الجرح.. ثم رأيت ظهر الإيراني وهو عار وقدمان صغيرتان على جانبيه .. كان يغتصب طفل المرأة التي تسكن في الغرفة المجاورة لي مباشرة. طفل في السابعة من العمر تقريبا. كان الطفل ذاهلا وكان الإيراني متعرق الجسد ذو شعر كثيف كالقرد.
كان الأيراني مجذوبا بالنشوة ولم يشعر بوجودي خلفه. وكنت أشعر بالخوف من المشهد... ظل الطفل يئن ويتأوه بصوت خافت وكأنما يتلذذ بالألم. وكان الإيراني يطلق شخيرا متقطعا من انفه.
ولا أعرف لماذا تذكرت ذلك العجوز الألماني الذي جلس إلى جانبي في مواجهة النهر. حكي لي عن تاريخه كأستاذ للتاريخ في منطقة الشرق الأوسط ؛ قال بأنه تعلم اللغة العربية باللهجة اللبنانية في بيروت... ثم سألني عن وادي السحالي قبل أن يغادر.
ظللت أنظر لظهر الإيراني وقدمي الطفل.. ابن جارتي في النزل.. امرأة في الأربعين بيضاء وغنية بالنعمة والجمال. وابنها لا يقل عنها جمالا... صبي في السابعة ويبدو كأمير من الامبراطورية العباسية.
حينئذ شعر الإيراني بأنفاسي من خلفه... التفت ببطء.. ودار ليواجهني بصمت.. فنظرت في عينيه بصمت أيضا.. كان الطفل قد تكوم في الأرض وهو يبكي بكاء مكتوما. درت بعقب قدمي اليسرى ببطء وأخذت أصعد الدرج نحو الممر ومن لوحة المفاتيح فوق كرسي البنك بدلت المفاتيح الخاطئة بالصحيحة.
وصلت غرفتي وجمعت أغراضي في حقيبتي وغادرت النزل أما الإيراني فكان قابعا خلف درج البنك بملابسه الكاملة وهو يتجاهل النظر إلي منشغلا بشروده المعتاد.
هل عاد الطفل إلى أمه الحسناء؟
لم أعرف ..
سرت في ذلك المساء لثلاث ساعات وأنا احمل حقيبتي الضخمة المستفة بالأقمصة والبدل ورابطات العنق والملابس الداخلية والعطور وحذائين أحدهما رياضي لم أرتده مطلقا منذ اشتريته قبل سنوات.... سرت فوق الأسفلت المخصص للمشاة ومن حولي كانت فتياة شقراوات يركضن ثم يتوقفن لالتقاط أنفاسهن قليلا قبل العودة إلى الرياضة. رفعت جوالي وقرأت الساعة. كانت السابعة والنصف مساء. فتحت مظلتي وسرت منتظرا هبوط المطر كما جاء في نشرة الطقس. إنني أؤمن بأن هناك قوة كبرى ترسم لي قدري... وأؤمن بصحة معلومات الإرصاد الجوي كذلك....
غمغمت:
- ماذا ستفعل السحالي يا ترى؟..
لقد ترك الألماني هذا السؤال داخل جمجمتي وغادر... ولم يغادرني السؤال؟...
ماذا ستفعل السحالي يا ترى؟؟؟
ماذا ستفعل؟؟؟
.
.
(تمت)
تخيل أن تلك الفتاة هناك .. تلك الفتاة الرقيقة والتي تلعب بأطواق الهيب هوب المضيئة.. تحرك خصرها النحيل فتتراقص الحلقات المضيئة حولها... نعم تلك الفتاة التي ترتدي حذاء قصيرا يظهر ساقين لامعتين ومكتنزتين وزغب أبيض يشع بضوء الشمس على حواف الساق ؛ ذهبت يوما إلى رحلة خلوية ، دقت وأصدقائها الخيام ثم سارت لتبحث عن الحطب... وعندما وضعت قدمها على الرملة الصفراء تلون الوادي من حولها فجأة حيث كان في الحقيقة مغطى بالسحالي التي تغير لون جلدها لتتناسق مع صفرة الصحراء... نعم تلك الفتاة ستجد نفسها في قلب وادي السحالي... هذه الكائنات المتلونة .. كشفت عن نفسها حين أحست بأقدام غريبة تطأ واديها الصامت المنعزل... رفعت رؤوسها .. فاتسعت عينا الفتاة ... لم تعد قادرة على التنفس ولا الصراخ... عضت على أصابعها وهي تذرف الدمع وآلاف السحالي القبيحة تحيط بها من كل مكان.... هل يمكنك أن تتخيل ذلك؟..
قلت بفزع:
- لقد أخفتني حقا...
واصل وهو ينظر للأفق:
- رفعت السحالي رؤوسها الصغيرة ذات الأعين الرمادية وفتحت أفواهها وكأنها تبتسم... أسنانها لا تبين فكأنها بلا أسنان... إنها لا تعض... ولن تعض الفتاة.. بل أنها وعلى العكس من ذلك كانت مرتعبة من الفتاة ، والفتاة مرتعبة منها... تشعر الفتاة بصعقة كهرباء في دماغها من الخوف فتجمع شتات فزعها وتطلق صرخة عظيمة... وبدورها تشعر السحالي بالفزع فتتقطع ذيولها وتدفن نفسها في الرمال .. تدور الذيول وتتلوى حول نفسها ويزداد فزع الفتاة... وحين يهرع نحوها بقية أصدقائها لا يجدوا أي شيء سوى جسد صديقتهم وهو مسجى على الأرض فاقدة الوعي.
قلت:
- قصة مفزعة...
قال:
- ولكن.. تخيل إنها إن لم تأت مع أصدقائها أو أنهم لم يسمعوا صرختها... ثم ظنوا أنها غادرت بسيارتها فتركوها ورحلوا...
قلت:
- لا أستطيع تخيل موقف الفتاة...
قال:
- تخيل موقف السحالي؟
قلت:
- آها.. حسن... موقف السحالي... ماذا سيكون موقفها.. ربما ستظل مختفية إلى الأبد...
قال:
- صحيح.. ولكنها لابد أن تأكل... لتتجهز للسبات...
سألت:
- ستأكل الفتاة؟
قال:
- السحالي لا تأكل البشر...
سألت:
- فماذا ستفعل...؟
زم شفتيه المشققتين وأنفه الضخم المقوس ارتمى فوق الشفة شبه الأرنبية العليا حيث يفصل بينهما لحم اخضر مليء بحبوب جلدية نشأت عن حلق الشارب.
ردد هامسا:
- ماذا ستفعل .... ماذا ستفعل؟
ضرب فخذي بيده الضخمة كأنفه واتكأ على عصاه ونهض ثم سار ببطء ويده اليمنى داخل جيبه واليسرى تقبض على العصا ثم غاب عن ناظري.
كان الخريف قد جعل الأشجار سوداء السيقان والعروق ، والنهر بنيا يستعد للفظ الطمي الغني.
ستنتهي أشهر النقاهة بعد عملية زرع الكلى وربما أبقى وربما أعود... إنني مؤمن بوجود قوة تحرك هذا الكون وهذا بلا دليل كما يؤمن الطفل بوجود بابا نويل أو الغول.. ومع ذلك فإيماني ليس حماقة كإيمان الطفل... إن شيئا ما يرسم قدري..وحين بلغت النزل الصغير الذي أستأجر فيه غرفة رخيصة رأيت الشاب الإيراني أو الذي احسبه إيرانيا يجلس خلف البنك ساهما ، إنه الشخص الوحيد الذي لم أره يحمل هاتفا محمولا. إنه دائما شارد الذهن... بشعر ينسدل على كتفيه.. ويده نحيلة ومشعرة كأغلب الإيرانيين. أعطاني المفاتيح وواصل شروده. وكان ذلك يريحني جدا.
ارتقيت السلم بخطوات حذرة فلا زال الجرح طريا.
دفعت المفتاح فرفض أن يتحرك في مدفنه. حاولت دون جدوى وحينها نزلت ولم أجد الإيراني. ولم أعرف لماذا في هذه اللحظة وتحديدا في هذه اللحظة شعرت بارهاق ما. وربما بفزع من أن لا أتمكن من إلقاء جسدي على السرير. كان علي أن أجد الإيراني فدرت حول البنك ودخلت إلى ممر صغير كأنفاق الأهرامات. تحركت خياشيم أنفي حين غمرتني رائحة فئران.. تلك الرائحة النفاذة الكريهة. ثم وجدت تفرعا للممر على يساري وعرفت أنه مدرج يفضي إلى بدروم. هبطت بحذر حفاظا على الجرح.. ثم رأيت ظهر الإيراني وهو عار وقدمان صغيرتان على جانبيه .. كان يغتصب طفل المرأة التي تسكن في الغرفة المجاورة لي مباشرة. طفل في السابعة من العمر تقريبا. كان الطفل ذاهلا وكان الإيراني متعرق الجسد ذو شعر كثيف كالقرد.
كان الأيراني مجذوبا بالنشوة ولم يشعر بوجودي خلفه. وكنت أشعر بالخوف من المشهد... ظل الطفل يئن ويتأوه بصوت خافت وكأنما يتلذذ بالألم. وكان الإيراني يطلق شخيرا متقطعا من انفه.
ولا أعرف لماذا تذكرت ذلك العجوز الألماني الذي جلس إلى جانبي في مواجهة النهر. حكي لي عن تاريخه كأستاذ للتاريخ في منطقة الشرق الأوسط ؛ قال بأنه تعلم اللغة العربية باللهجة اللبنانية في بيروت... ثم سألني عن وادي السحالي قبل أن يغادر.
ظللت أنظر لظهر الإيراني وقدمي الطفل.. ابن جارتي في النزل.. امرأة في الأربعين بيضاء وغنية بالنعمة والجمال. وابنها لا يقل عنها جمالا... صبي في السابعة ويبدو كأمير من الامبراطورية العباسية.
حينئذ شعر الإيراني بأنفاسي من خلفه... التفت ببطء.. ودار ليواجهني بصمت.. فنظرت في عينيه بصمت أيضا.. كان الطفل قد تكوم في الأرض وهو يبكي بكاء مكتوما. درت بعقب قدمي اليسرى ببطء وأخذت أصعد الدرج نحو الممر ومن لوحة المفاتيح فوق كرسي البنك بدلت المفاتيح الخاطئة بالصحيحة.
وصلت غرفتي وجمعت أغراضي في حقيبتي وغادرت النزل أما الإيراني فكان قابعا خلف درج البنك بملابسه الكاملة وهو يتجاهل النظر إلي منشغلا بشروده المعتاد.
هل عاد الطفل إلى أمه الحسناء؟
لم أعرف ..
سرت في ذلك المساء لثلاث ساعات وأنا احمل حقيبتي الضخمة المستفة بالأقمصة والبدل ورابطات العنق والملابس الداخلية والعطور وحذائين أحدهما رياضي لم أرتده مطلقا منذ اشتريته قبل سنوات.... سرت فوق الأسفلت المخصص للمشاة ومن حولي كانت فتياة شقراوات يركضن ثم يتوقفن لالتقاط أنفاسهن قليلا قبل العودة إلى الرياضة. رفعت جوالي وقرأت الساعة. كانت السابعة والنصف مساء. فتحت مظلتي وسرت منتظرا هبوط المطر كما جاء في نشرة الطقس. إنني أؤمن بأن هناك قوة كبرى ترسم لي قدري... وأؤمن بصحة معلومات الإرصاد الجوي كذلك....
غمغمت:
- ماذا ستفعل السحالي يا ترى؟..
لقد ترك الألماني هذا السؤال داخل جمجمتي وغادر... ولم يغادرني السؤال؟...
ماذا ستفعل السحالي يا ترى؟؟؟
ماذا ستفعل؟؟؟
.
.
(تمت)