كناقل التمر إلى هَجَر - عبدالله بن علي الرستم

مثال قديمٌ استشهد به الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام(1) في إحدى كتبه التي بعثها إلى معاوية بن أبي سفيان، حيث قال: (أما بعد، فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله محمداً صلى الله عليه وآله لدينه، وتأييده إياهُ لمن أيّدهُ من أصحابه، فلقد خبأ لنا الدهر منك عَجَباً، إذ طفقت تُخبرنا ببلاءِ الله تعالى عندنا، ونعمته علينا في نبيّنا، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر، أو داعي مسدده إلى النِّضَال).

وقد ذكر الميداني هذا المَثَل في كتابه (مجمع الأمثال)(2) بصيغةٍ مختلفة، وهي:
(كَمُسْتَبْضِعِ التَّمْرِ إلى هَجَرَ)

قَال أبو عبيد: هذا من الأمثال المبتذلة ومن قديمها، وذلك أن هَجَرَ معدنُ التمر والمستبضع إليه مخطئ، ويُقَال أيضاً: كمستبضع التمر إلى خيبر قَال النابغة الجعدي:

وإنَّ امرأ أهْدَى إلَيْكَ قَصَيْدةً == كَمُسْتَبْضِع تَمْرَاً إلَى أرضِ خَيْبَرَا. اهـ.

ويبدو أن في كلام أبي عبيد وهمٌ لم يتطرّق إليه الميداني، فلا شكّ أن الذاهب إلى هناك يستبضعُ التمر أي: ينقله عن طريق الشراء ونحوه، وأشار إلى هذا المعنى ابن أبي الحديد في قوله: (وهي بلدةٌ كثيرةُ النخل يُحمل منها التمر إلى غيرها). فربما قصد أبو عبيد نقل التمر إلى هَجَر للبيع، أي: خِلاف ما استشهدنا به من قولِ ابن أبي الحديد، وهو مثلٌ يُضرب لمن يضع الشئ في غير موضعه. وهَجَر كما هو معروف أرضٌ في إقليم البحرين شرق الجزيرة العربية، وهي ما يُعرف اليوم بالأحساء، التي اشتهرت بكثرة إنتاجها التمرَ من شجر النخل.
وأشار إلى ذلك الصحابيّ الجليل عَمّار بن ياسِر رضيَ اللهُ عنهُ(3) أثناء حرب صِفّين في قوله: (والله لو ضربتمونا حتى تبلغوا بنا سعفات هَجَر لعلمنا أنّا على الحق وأنتم على الباطل)، وهذه الإشارة كناية عن كثرة التمر، وأن هَجَر منطقة زراعية منذ قديم الزمن.

والتمرُ ليس محصوراً في أرض هَجَر!! بل هو منتشرٌ في جميع بقاع الأرض، إلا أن دخول هَجَر في الأمثال يُدلّل على شهرتها وذياع صيتها بين المواضع الأُخرى التي تُنتج التمر، ومما وظّف هذا المثل شعراً، شاعر العرب (محمد مهدي الجواهري):

وناقل التمر عن جهلٍ إلى هَجَرٍ == كناقل الشعر عن جهلٍ إلى اليمنِ
وقول الجواهري تأكيدٌ على أن هَجَرَ موطنٌ مشهور بالتمر.

ويقع غير واحدٍ في هذه الشبهات، وذلك لعدم معرفة بعضهم بجغرافية الجزيرة العربية ومواضعها والأشياء التي تشتهر بها، ولا شك أن بعض الأمثال تأخذ نصيبها في حديث الناس مع مرور الأزمان، وربما دَخَل المثلُ حياتهم اليومية، وهذه هي طبيعة الأمثال الشائعة. أما قول أبي عبيد (من الأمثال المبتذلة) فلا نصيب له، فلو كان لا نصيب له لما استشهد به سيّد البلغاء وإمام المتكلّمين والفصحاء الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام!!؛ لأن طبيعة أئمة اللغة الاستشهاد بما يقوّم الجملة العربية لا إفسادها واللجوء إلى الأمثال المبتذلة!! فكيف بأمير المؤمنين الذي هو معدن هذا الفن.



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع:
(1) شرح نهج البلاغة، عبدالحميد بن هبة الله بن محمد بن الحسين بن أبي الحديد، أبو حامد، عز الدين (ت:656هـ)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي وشركاه – مصر، 15/181/28.
(2) مجمع الأمثال، أبو الفضل أحمد بن محمد الميداني النيسابوري (ت: 518هـ)، تحقيق: محمد محيى الدين عبدالحميد، دار المعرفة – بيروت، 2/152/3080.
(3) المستدرك على الصحيحين، محمد بن عبدالله أبو عبدالله الحاكم النيسابوري (ت: 405هـ)، تحقيق: مصطفى عبدالقادر عطا، دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة الأولى – 1411هـ (1990م)، 3/433/5651.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى