عبد الغفور خوى - التاريخ..

إهــداء إلى ابتسام، أسامة ونعيمة


( التاريخ هو الإنسان والباقي)
ف.بروديل


تـقديــــــم :
قراءة التاريخ دائما تحيل إلى تصور ذهني أو منظومة معرفية لأنها قراءة دخلت في اختصاص النخبة : النخبة الدينية قديما والنخب المثقفة حديثا، على هذا الأساس جاءت قراءات التاريخ كمشاريع حضارية تؤول الماضي، ترفضه، تمجده أو تنتقي منه.
إذا ادعت الوصول إلى الحقيقة اعترض عليها الفلاسفة بحجة أن الحقيقة نسبية إذا لم تتوفق في ذلك كانت كاذبة وتلك أم الكبائر.
فالتاريخ مسلك من مسالك المعرفة وفيه يتحقق الوعي ولا يكون الحاضر سوى إحدى تجليات الماضي. من هنا نميز بين التاريخي واللاتاريخي بين الوعي وهو يتصل بالتصور الذهني للمجتمع عامة وبين الحوادث المتسلسلة في الزمان وهي ما اختص فيه المؤرخون التقليديون عموما فما تعلمه البشرية ينتمي إلى حقل التاريخ وما تجهله ينتمي إلى الطبيعة. لا تدرك الإنسانية إلا الجزء القليل من تاريخها الذي بدأ مع الكتابة والوعي بكينونة الإنسان مما جعل التاريخ مسارا عقليا لبني البشر في توافق زماني ومكاني.
التاريخ إنساني بالتعريف :
- إذا كان كوقائع تشمل ما يجري في المجتمع من أحداث وتطورات وصراعات فهو تاريخ حوادثي إنساني.
- إذا كان كخطاب معرفي ومفهومي فهو يعطي للإنسان وجودا وصيرورة
- إذا كان سردا فهو قصة إنسانية
الإنسان جوهر التاريخ لكن لا يستقيم هذا المفهوم إلا بتعيينه زمانيا ومجاليا.
هل يسير الزمان في حركة دائرية مغلقة أم يجري في خط مستقيم، هل هو تقدمي أم تراجعي ؟ إلى غير ذلك من الثنائيات. يبقى الزمان هو وعاء التاريخ أما المكان فلا يشمل المحيط ببعده الطبيعي فقط بل بكل تماساته مع الجوار أعني كل توسع أفقي لحضارة ما هو تعميق لإدراك بعد المكان في التاريخ.

الإنســـان و التــــاريخ :
الإنسان هو منفذ العملية التاريخية، تتجاذبه أبدا اهتمامات الحاضر وآمال المستقبل وذكريات الماضي (1) . فهو سواء كان فردا أو جماعة نتاج لتراكم قديم. كل اهتماماته لها جذور متعمقة في الماضي البعيد أو القريب.
الإنسان ككائن تاريخي واع بمتغيرات الزمن هو كمن يعيش الأزمنة كلها. والماضي التاريخي بالنسبة للإنسان المتفاعل هو وعي مثل وعي الفرد بمراحل نموه الشخصية؛ فالمراحل التي شكلت هذا الفرد وأخرجته في صيغة معينة هي كالتاريخ بالنسبة للإنسانية، بل هو عند إمرسن أعلى مستوى من ذلك "فالإنسان هو العالم الأصغر والإنسانية هي العالم الأكبر" (2).
تملك التاريخ هو استيعاب القوانين الشمولية التي تتحكم في المرئيات والتملك أساسه العقل الذي يميز الإنسان عن باقي الكائنات ويجعله فاعلا متفاعلا مع التاريخ لينمي وعيا جمعيا ويراكم تجارب تؤطر بمرور الوقت في ماض زماني بالنسبة لحاضر يتطلع إلى مستقبل. هذا التراكم قد يقود جماعة إلى الأحسن بتمثله واستثماره أحسن تمثل واستثمار أو يجعلها راكنة إذا أسيء إليه وحوكم بنزعات مصلحية.
التاريخ هو بشري بالتعريف ودون ذلك فهو انتماء لحقول أخرى "فالتاريخ للبشر وبالبشر أما ما سواه فهو تاريخ بشري مقنع أو خاضع لمنطق الملاحظة أو الكشف " (3).
على هذا الأساس فالمدة الزمنية للتاريخ قصيرة جدا إذا ما قورنت بزمن باقي الكائنات لأنه لا يهتم بماضي الإنسان إلا من حيث هو عاقل، ونستطيع أن نحدد هذا العمر ببداية التعايش البشري الجماعي واكتشاف الكتابة، لهذا تدعى المرحلة السابقة عنها بمرحلة ما قبل التاريخ.
أي ماضي بشري جدير بالتسجيل والبعث والإحياء؟ "الماضي البشري بكل وجوهه"(4)، لكن هذا البعث تحكمت فيه أبدا عوامل اختلفت باختلاف الذهنيات والعصور : فهو مستودع السوابق السياسية بالنسبة لرجال الحكم أو هو انبعاث للسلف وتراثه الصالح لمحاكمة الذات المتخلفة عن الآخر كما هو الشأن بالنسبة لمفكري السلفية أو دروس في القومية والوطنية كما ذهب كتاب النهضة الأوروبية، بل هو مدرسة للديمقراطية وحقوق الإنسان عند فلاسفة الأنوار.
تتعدد المنطلقات وتتنوع معها الأحكام على الماضي البشري فتكون انتقاءا أو تبريرا أو هروبا من واقع. هذا ما جعل روبير وولبول (1676-1745 م) يقول أن التاريخ ليس جديرا بالدرس لأنه يفتري الكذب لا محالة (5).
التاريخ هو الإنسان في الزمان والمكان، هو الإنسان والباقي بعبارة فردناند بروديل، لذلك فهو معقد مركب تعقيد وتركيب الإنسان نفسه مما جعل من الصعوبة تصنيفه ضمن العلوم أو الفنون.
فانقسم الباحثون في هذا الباب إلى معسكرين:
أول : قال أن التاريخ لا يمكن أن يكون علما لأنه لا يستطيع إخضاع الوقائع لتبويب منظم ومقنن.
ثان : قال أن التاريخ فوق العلم بكثير.
رد هرنشو على الفريقين وقال " التاريخ علم نقد وتحقيق"(6) لا علم معاينة كالفلك ولا علم تجربة كالكيمياء، هو علم يتحالف مع متجاورين آخرين لتفسير الظاهرة الإنسانية.
التاريخ كما سبقت الإشارة يشمل كل مناحي الحياة لذا فهو : "يشمل الحياة البشرية الماضية بجميع مظاهرها" (7)
بما أنه إنساني فهو عقلي وأصيل في الحكمة كما قال ابن خلدون وحب الحكمة هو منبت الفلسفة، وكل من يحمل لقب مؤرخ فهو فيلسوف في نظر كروتشي بل هو تعليم الفلسفة نفسها بضرب الأمثال بعبارة بوليبيوس وقائد جوقة العلوم الإنسانية كما أشار فردناند بروديل. هو إذن ضرورة أخلاقية تهذيبية، مدرسة للسياسة منحى من مناحي البحث عن أسس الرقي وذاكرة الجنس البشري ما دام هو بشري بالتعريف.

الإنسان في التاريخ :
نظر التاريخ إلى الإنسان نظرة اختلفت من مكان لأخر ومن زمان لأخر نظرة تنوعت بتنوع مشارب ثقافات المؤرخين والباحثين لكنها اجتمعت حول عدم براءة هذه النظرة، فليست ثمة قراءة للتاريخ لا تحركها نوازع تفرزها الفلسفات السائدة.
فالمؤرخون القدامى اختلط لديهم الماضي البشري بالأسطورة فكانت كتاباتهم سجلا للبطولات التي أنجزها الإنسان أو الآلهة القديمة. قال تيت ليف كل ما يشبه الحق في الأمور القديمة يجب أن يعتبر حقا وهي مقولة تستمد مرجعيتها من ظرفية المؤرخ نفسه التي حتمت التغني بأمجاد روما وبطولات رجال السياسة والجيش. جاءت الديانات السماوية فخصصت للإنسان مكانة متميزة : فجسد الإنسان الذات الإلهية في المسيحية أما الإسلام فقد كرمه وجعله خليفة في الأرض "وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" (8).
لكن التناول المصلحي للماضي الإنساني ظل حاضرا. فقد خضع التاريخ الأوروبي لهيمنة الكنيسة باسم منحة قسطنطين لتبرير تسلط الأباطرة عدة قرون وظل عامل المنفعة في التاريخ الإسلامي من أهم محركيه فقد روي ان معاوية كان يجلس لأصحاب الأخبار كل ليلة بعد العشاء وكان أبو جعفر المنصور حريصا على الاتصال بالمؤرخ ابن إسحاق واستقدم المهدي أبي معشر السندي إلى بغداد (9).
اعتبرت تجارب الإنسان الماضية أساسا يعين على الحكم الصالح وظلت وقائع الأبطال هي الجديرة بالاهتمام أكثر من غيرها إلى أن جاء ابن خلدون فنقل التاريخ الإسلامي من القصور إلى الأسواق أو من الصالون إلى المطبخ على حد تعبير الإنجليزية ايلين بارو.
انتقل تأثير ابن خلدون وجماعة من مؤرخي الإسلام كالمسعودي وابن مسكويه وابن خلكان إلى أوربا عصر النهضة التي هي إنسية بالتعريف فانتفى الطابع البطولي والقدسي للإنسان، لكن أكسبته المرحلة كينونة جديدة قامت على أسس الحقوق والواجبات المدنية. وقال ماكيا فيللي بتشابه الأزمنة مادامت إنسانية " إن من شاء أن يتنبأ بالمستقبل فعليه أن يرجع للماضي لأن الأحداث البشرية تتشابه دائما" (10).مفهوم الإنسان في التاريخ نقلته النظريات التطورية إلى صف باقي الكائنات الحية فاصبح عنصرا من الطبيعة يتطور في شكله وعقله وفق قوانين النشوء والارتقاء.
مفهوم قرأته الفرودية من منطلق اللاشعور يقول فرويد"نفترض ان الذكريات القديمة تورث من جيل لأخر، وبافتراضنا هذا نتخطى الهوة الفاصلة بين النفس الفردية ونفسانية الجماعة، فيمكن أن نعالج الشعوب كما نعالج الأفراد المصابين بالعصاب" (11).
هذا الإنسان الفاعل في التاريخ أزيل عنه حجاب طالما تخفى وراءه مع نيتشه الذي أبان عن زيف أخلاق البشر فتبين أن الحضارة الحديثة لم تفعل سوى حجب الميل الطبيعي للإنسان إلى العدوان وما هو إلا ذئب لأخيه الإنسان بعبارة توماس هوبز لا يتردد القوي في الاعتداء على الضعيف فإن أعوزته القوة اصطنع الحيلة.
إذا كانت الماركسية قد أعطت للإنسان بعدا تاريخيا ماديا وفلسفة الأنوار كرست مواطنته فإن الحربين العالميتين قد أبانتا بالملموس عن وحشية الإنسان، وحشية أفرزت نظرات للوجود تختلف عن سابقاتها. نظرات ساهمت في تشكيلها تراكمات الإنسان نفسه.


الهوامش

(1) قسطنطين زريف نحن والتاريخ دار العلم للملايين بيروت
الطبعة الثالثة ص 142
(2) ج هرنشو علم التاريخ ترجمة عبد الحميد العباري
دار الحداثة بيروت لبنان ص 142
(3) عبد الله العروي مفهوم التاريخ الجزء الأول
المركز الثقافي في العربي الطبعة الأولى 1992 ص 34
(4) قسطنطين زريق مرجع سابق ص 55
(5) ج هرنشو مرجع سابق ص 100
(6) ج هرنشو مرجع سابق ص 16
(7) قسطنطين زريق مرجع سابق ص 55
(8) سورة البقرة الآية 30
(9) محمد عبد الغني حسن التاريخ عند المسلمين
سلسلة كتاب الأمة عدد 32 دار المعارف ص 5-6-7
(10) ماكيا فيللي انظر منهج البحث التاريخي
مصطفى أبو ضيف أحمد ص 90-91
(11) مقولة فرويد أوردها الأستاذ العرويفي
مفهوم التاريخ الجزء الأول ص 165


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى