ظل الهمبول يحاول حماية وجهه من الصخور والحجارة بكافة أحجامها ؛ كان جميع أولاد حي القطانة يرجمونه بعنف وساد الهرج والمرج وانفجرت الدماء من أنفه وفمه وأذنيه وعينيه وفقد وعيه دون أن يتوقف الجميع عن رجمه ؛ بل التأم شمل نسائهم برجالهم واستمر الرجم لساعتين حتى تأكد الجميع من موته. بعدها حملوه ودفنوه في الخلاء دون غسيل ودون صلاة. حثت النسوة خطواتهن للعودة إلى منازلهن قبل صلاة المغرب ؛ تجنبا لرؤية جنزير الذهب لهن وهو في طريقه إلى الصلاة ممتطيا فرسه الرمادي المبرقع كمريض البرص. كان جنزير الذهب يجلدهن بكرباجه الضخم المجدول من جلد البقر والذي يبلغ طوله قرابة ثلاثة أمتار.
وحين تهادى حصانه فوق الرمل رأى أم الهمبول تعترضه ناحبة ككلبة مصابة بعسر الهضم. أوقف حصانه ونظر إليها بوجهه الصارم ؛ الوجه الأصفر الطويل ذو الشعر الأبيض المغطى بعمامة بيضاء ؛ لم تنظر إلى شفتيه المختفيتين خلف شاربه ولحيته البيضاء ولا إلى أنفه العربي المقوس كالسيف ، بل نظرت إلى عينيه الضيقتين مباشرة وظلا يتبادلان نظرات عميقة. رجعت خطوة إلى الخلف فنخس فرسه وعبرها دون أن يلتفت إليها رغم أنها غطت وجهها بطرف ثوبها وانتحبت بصوت كئيب وحزن عميق.
كان الهمبول شابا في العشرينات رغم نحافة جسده وشيبه الأبيض الذي يتوزع عبر خصيلات شعره الأسود. كان عبيط الحي. لكنه أصبح يتحرش بالصبية في الآونة الأخيرة ؛ بل أنه أصبح يخرج ذكره الضخم ذو الحشفة المنتفخة للعيال في غدوهم ورواحهم. وعندما بلغ الأمر مسامع أهل الصبية تمآلأوا عليه وهجموه هجمة واحدة بدأها الفتيان ثم اكملها الكبار نساء ورجالا. لذلك لم تجد (ساتر) ما تنطق به أمام جنزير الذهب ؛ وهو بدوره لم يكن قد اصدر هذا القرار ولم يشارك في قتل ابنها فلم يجد ما يشاركها به من تعزية ، وهو فوق ذلك ليس من عائلة كبيرة في حي القطانة. بل كان حتى اليوم شخصا أجنبيا متشددا في دينه. جسده متخلق من عظام عريضة كالترس ؛ طويل يبلغ المترين ، نحيل وممشوق القامة ، مشعر يبلغ الخامسة والخمسين ولكنه أقوى من عشريني ؛ على فرسه سيف فضي طويل وسوط من جلد البقر. لا يستطيع صاحب كنتين أن يفتح كنتينه يوم الجمعة إلا بعد نهاية الصلاة ولا تستطيع امرأة في الحي أن تغادر منزلها عند غروب الشمس. وقد سعد الأزواج بقوة من أطلقوا عليه جنزير الذهب لصفرة لون بشرته. فقد تأدبت النسوة فأصبحن حريصات على البعد عن اي مواجهة مع هذا المجنون المتزمت. والرجال أنفسهم كانوا خائفين منه.
كانت البيوت الطينية (الجالوص) تغرق منذ الغروب في ظلمة المساء ، وتتحصن بصمت السماء ما عدا قصر عائلة الدراري ؛ العائلة التي توارثت السيطرة عل كل الحي الواقع في أطراف شبه مدينة أو شبه قرية ليس بها من دواوين الحكومة إلا ديوان الحاكم الإداري الذي كان يقضي ليله وهو يتمسح بما يرسل إليه من بلده من معاجين الخزامى لطرد البعوض عن جسده وجسد زوجته الشمطاء وهو ينتظر إعادته بعد سبع سنوات من النفي في هذه الأرض الجافة شديدة الحرارة والتي لا يزورها الربيع أبدا. كان يقول لزوجته وهما يشرعان في تناول طعام العشاء:
- تضرعي للرب يا حبيبتي حتى لا نموت من الملاريا أو التايفود.
فتمسك الشمطاء بكفهاء الممتلئة بالعروق الخضراء يده الناعمة ذات الأظافر الحمراء وتغمض عينيها متمتمة بصلاة سرية ثم يرسم الإثنان علامة الصليب ويبقيان بعد فراغهما من الأكل في السرير بأعين مفتوحة جزعة قبل أن تغمض في منتصف الليل.
وعائلة الدراري ارتبطت بالاستعمار بل أصبحت هي العائلة التي تتكفل بدعم ضباط العاصمة الذين يفلسون جراء مقامراتهم وهم ثملون بالخمر.
شيخ عائلة الدراري (الربع) له اربع زوجات في عصمته وأربع أخريات مطلقات ومع ذلك غير متزوجات بل بقين تحت قوامته وحمايته ، وله فوق ذلك قرابة ست وثلاثين جارية وعدد عظيم من العبيد بنى لهم أكواخا من القش في جزيرة صغيرة تتوسط عرصة النهر وأبقى داخل قصره على البعض ولكل منهم شغله وشاغله. كما كان له ثلاثة أبناء وإحدى عشر بنتا. أبنه الكبير العبيد ود الربع ويليه مصطفى وسيد ونزار. ونزار هذا هو إبن أصغر زوجاته وهي من عائلة ثرية وكان يمقتها لأنها تتحدث كناظر الوقف. كانت تعتقد أن تعليمها يعطيها ميزة على باقي زوجاته. وقد حرصت أن تكون الأكثر رقيا ونظافة من بينهن وأن تدفع بابنها للدراسة في العاصمة ومنعته من حفظ القرآن في خلوة جده. تزوج العبيد من ابنة خالته أم الخير وأنجب منها طفلة صغيرة أسماها قرشية ، وبعد الانجاب اتسعت شقة الخلاف بينه وبين أم الخير فطلقها ثم أعادها ثم طلقها وبقيت طلقة واحدة احتفظ بها بوصية من والده الذي أمره بضبط نفسه وعدم الانجراف وراء كيد المرأة. لم يكن العبيد حكيما بأي حال فطلقها الثالثة واسقط في يده. وإذ أحست أم الخير بمماطلة طليقها في إعادتها لمنزل والدها اقتحمت مجلس شيخ الربع ومعه أولاده ورجال من حي القطانة وقالت على رؤوس الأشهاد أنها تخشى الفتنة فما كان من العبيد ذو الرأس الأسود الصغير والمدور كالكرة إلا أن أخرج سيفه هامما بقطع رأسها حتى صرخ فيه والده صرخة واحدة جمدت الدم في شرايينه وظل واقفا كالشجرة وعيناه محمرتان من الغضب المختلط بالشعور بالعار. صرف شيخ الربع أم الخير بإشارة من سبابته فغادرت ثم استئذن من الرجال فسرحهم بإحسان وأجزل لهم العطايا فمضوا إلى بيوتهم وألسنتهم ملجومة بل حرصوا ألا يخبروا زوجاتهم بما حصل. وبعد انصراف الجميع ظل شيخ الربع جالسا مع نفسه يمسد لحيته المخضبة بالحناء صامتا كصمت الثعالب.
في صباح اليوم التالي دقت أم الهمبول سرادق عزاء ابنها الذي حضره جميع أهل الحي بما فيهم من شاركوا في قتل ابنها وهكذا بردت الأرواح بين القاتلين وأم المقتول ، ثم زاد الرجال والنساء من حميمية عزائهم فذبحوا الخراف وأطلقوا البخور ثم ختموا قراءة القرآن على روح الفقيد وغادروا في أول الليل تاركين ساتر تكبح دموعها بصبر من لا حيلة له إلا الصبر دون أن تتمكن من النوم ، وحين سمعت طرقات على باب منزلها فتحت الباب فألفته جنزير ااذهب الذي رفع كفيه فقرأ سورة الفاتحة ثم واكبته هي أيضا وحركت شفتيها دون أن تقرأ شيئا لأنها لم تكن تعرف شيئا في الدين..بل ولم تكن تعرف في دنياها سوى ابنها الذي تركه لها زوجها قبل موته ببضعة أسابيع من الطلق.
جلس جنزير الذهب على بنبر الخشب وظل صامتا ينظر إلى الأرض في حزن ففعلت هي كما فعل هو أيضا ولكنها لم تتحمل كثيرا بل أجهشت بالبكاء ونهض جنزير الذهب فأمسكها من ذراعيها وجذبها إلى صدره الواسع فبكت الأم المكلومة ما شاء لها من بكاء مرير ، وحين هدأت دفعها جنزير الذهب إلى العنقريب وأرقدها وغطاها بملاءة قصيرة. ثم غادر بصمت ونامت هي حتى الصباح وكأنها تخلصت من جبل كان يجثم فوق صدرها.
في صباح اليوم الثالث من مقتل الهمبول فتح جنزير الذهب باب كوخه السعفي ورأى فرسان عائلة الدراري يحيطون به ويلتمسون منه لقاء شيخ الربع فركب حصانه الأبرص ومضى معهم في صمت.
اقترح شيخ الربع على جنزير الذهب أن يتزوج من أم الخير ثم يطلقها لتحل لابنه العبيد من جديد ، وقد برر سبب اختياره له بأنه الأكثر حكمة من بين رجال الحي ، وفوق هذا فهو بلا قبيلة من قبائل الحي التي تستنكف عائلة الدراري أن تبيح جسد امرأة لأحد رجالها. قال شيخ الربع أن جنزير الذهب عربي لا سبيل لانكار ذلك.
ستنقضي عدتها بعد أشهر من تطليقك لها وتعود للعبيد مرة أخرى ، ورغم كل شيء فأنت في مقام والدها وتلك محمدة لن نجدها عند الشباب الأرعن.
قال شيخ الربع ووافق جنزير الذهب مشترطا أن يكون نكاحا شرعيا به دخول حقيقي فوافق الشيخ وتم عقد القران فورا ثم ردف جنزير الذهب زوجته خلفه وغادر إلى كوخه.
كان حي القطانة يعج بالأسر من القبائل المختلفة التي جمعهم المستعمر لنسج القطن يدويا لحسابه ، حيث يجمع منتجاتهم ويبيعها في الأسواق العالمية قبل أن يدفع لكل أسرة راتبها الشهري من المال ، لذلك ظل أهالي الحي فقراء دائما وفي حاجة للمستعمر باستمرار. ولم تكن عائلة الدراري تعترف بتكافؤها مع أبناء تلك القبائل ولذلك تخيرت جنزير الذهب ليكون محللا لطليقة ابنهم.
وقد مضت سبعة أيام منذ زواج جنزير الذهب بأم الخير وعشرة منذ مقتل الهمبول ، ثم مضت عشرة أخرى وعشرة ثانية وتسرب القلق لشيخ الربع فأرسل عبيده لتقصي الوضع ، فغادروا وعادوا إليه متجهمين...كان جالسا مع ابنائه الثلاثة حين أخبره العبيد بأنهم سمعوا صراخ أم الخير قبل أن يبلغوا المنزل بمائة متر فأصابهم الهلع وكروا عائدين فورا. قال أحد العبيد بأن جنزير الذهب يعذب أم الخير تعذيبا شديدا دون أن يعرف أحد من أهل الحي السبب. غير أن ملامح شيخ الربع ظلت ساهمة.
بعد الظهيرة يعبر تيار خفيف البرودة سماء القطانة مؤذنا بمناغ العصر الغريب ؛ ذلك الذي يخترق خياشيم ساتر حاملا رائحة وهمية لتوابل حاذقة ، كانت تقطع الخلاء باحثة عن قبر ابنها وهي تحمي وجهها من الرمال التي تنقشع عن الارض فتصفعها كالمسامير في وجهها ، كان ظهر الأرض مستويا لا يبدو فيه بروز قبر حديث ، حدثوها بأن القبر لا يمكن معرفته ولكنها أصرت بيأس أن تبحث عنه وتزوره وأن تدفن قربه صدفة بحر قديمة ورثتها عن أم زوجها المتوفى. ولم تكن تعرف ما فائدة فعلها لذلك لكنها كانت تعتقد أن شيئا ما يمكن أن يخفف عن ابنها عذاب القبر الذي يتعرض له جراء تحرشه بالصبية. كان ابنها مذنبا في نظرها خاصة بعد أن أكد لها جميع أهل الحي ذلك وعجزت هي في ضعفها عن استخدام بلهه كمبرر لما فعله. (سيحدث شيء) كانت تقول في سرها وقبضتها الواهنة تطبق على الصدفة كطوق نجاة. بحثت في الخلاء حتى رأت كثبانا رملية صغيرة فأقنعت نفسها بأنها مدفن جثمان ابنها ؛ ثم جثت على ركبتيها وحفرت ما استطاعت إليه سبيلا ووضعت الصدفة في الحفرة وأهالت عليها التراب ، وكرت عائدة وقد عماها الحزن عن رؤية النجوم التي بدأت تنبثق في السماء معلنة أفول الشمس.
اقتربت من مشارف الحي ثم ولجت من اوسع شوارعه ولمحت عبيد شيخ الربع يحيطون بكوخ جنزير الذهب فتوقفت واختفت خلف شجرة نيم كبيرة تراقب الحدث. لم تمض دقائق حتى خرج شيخ الربع ومن ورائه جنزير الذهب وسارا خلف العبيد حتى اقتربا من شجرتها ودون أن يلمحاها تحدث شيخ الربع عن ضرورة وفاء جنزير الذهب بوعده فيطلق أم الخير غير أن جنزير الذهب رفض وقال بأنه لن يطلقها إلا إذا طلبت هي ذلك...قال شيخ الربع أن ما فعله بأم الخير سيمنعها من طلب الطلاق ثم تغيرت نبرة شيخ الربع وبدا مغلوبا على أمره مسكينا وهو يشكو من أن الخبر الذي نقله العبيد إلى إبنه قد أصاب هذا الأخير بالكآبة والشعور بضعف فحولته ثم عاتب جنزير الذهب قائلا:
- كل أهل القطانة سمعوا صراخها يا جنزير الذهب..ألم يكن بإمكانك وقف هذه الفضيحة على الأقل احتراما لقواعد الآداب.
فأمن جنزير الذهب على ذلك بأسف وقال:
- حقا يا شيخنا الجليل..لكنني في تلك الأوقات كنت أعجز عن فعل شيء فأنا نفسي أفقد عقلي....
ربت شيخ الربع على كتف جنزير الذهب وطلب أن يسأل أم الخير عن رأيها النهائي حول الطلاق فدخل وعاد بملامح خائبة حسيرة. وجمع عبيده وغادر.
تركت ساتر شجرتها وغادرت لمنزلها ثم نامت لترى صورة ابنها في المنام وكان يرتدي جلبابا أبيض تبرز من تحته ساقاه النحيلتان المشعرتان كما تعودت عليهما منذ بلوغه. كان نظيفا ومبتسما وعيناه لامعتين بذكاء يخالف بلهه المعروف وقد أخبرها بأنه سعيد وسيتزوج صدفة جدته وسينجب منها أطفالا صغارا طيبين وحلوين. ثم استيقظت في الفجر على أصوات هرج ومرج فتلفحت ثوبها وخرجت متقصية الأمر متتبعة جموع الرجال الذين تجمهروا حول كوخ جنزير الذهب ، فجت ساتر الجمهور حتى وقع بصرها على جثة جنزير الذهب ممزقة قطعة قطعة وذكره وخصيتيه داخل فمه على جمجمته المفصولة عن الجسد وعلى البعد سيفه الفضي مخضوبا بدماء معركة حامية الوطيس.
قال أحد الوسامة بأنه وبحسب ما قرأه من علامات فقد دارت المعركة بين جنزير الذهب وقرابة عشرين رجل آخرين. وأكد الوسامة أن هناك بقايا اصابع ودماء وملابس تؤكد أن عدد القتلى بلغ قرابة الثلاثة عشر وأن السبعة الباقين هم من ظفروا وحدهم بقتل جنزير الذهب ثم جمعوا بقايا أشلاء زملائهم وغادروا.
قرر الرجال تتبع آثار الغادرين لمعرفة هويتهم إلا أن ساتر حالت بينهم وطلبت منهم أن لا يبحثوا عن الشر مكتفين بدفن جثة جنزير الذهب بعد الصلاة عليها.
رمقها الرجال بصمت ولسبب ما أطاعوها وحملوا جثة جنزير الذهب ودفنوها في الخلاء.
كانت ساتر ترمقهم وهم عائدين وروحها تحدثها بأن روح جنزير الذهب ستحمي روح ابنها المهبول في قبريهما. ووككل شيء آخر عبر في حياتها لم تجد مبررا منطقيا لذلك الشعور الغريب.
(تمت)
وحين تهادى حصانه فوق الرمل رأى أم الهمبول تعترضه ناحبة ككلبة مصابة بعسر الهضم. أوقف حصانه ونظر إليها بوجهه الصارم ؛ الوجه الأصفر الطويل ذو الشعر الأبيض المغطى بعمامة بيضاء ؛ لم تنظر إلى شفتيه المختفيتين خلف شاربه ولحيته البيضاء ولا إلى أنفه العربي المقوس كالسيف ، بل نظرت إلى عينيه الضيقتين مباشرة وظلا يتبادلان نظرات عميقة. رجعت خطوة إلى الخلف فنخس فرسه وعبرها دون أن يلتفت إليها رغم أنها غطت وجهها بطرف ثوبها وانتحبت بصوت كئيب وحزن عميق.
كان الهمبول شابا في العشرينات رغم نحافة جسده وشيبه الأبيض الذي يتوزع عبر خصيلات شعره الأسود. كان عبيط الحي. لكنه أصبح يتحرش بالصبية في الآونة الأخيرة ؛ بل أنه أصبح يخرج ذكره الضخم ذو الحشفة المنتفخة للعيال في غدوهم ورواحهم. وعندما بلغ الأمر مسامع أهل الصبية تمآلأوا عليه وهجموه هجمة واحدة بدأها الفتيان ثم اكملها الكبار نساء ورجالا. لذلك لم تجد (ساتر) ما تنطق به أمام جنزير الذهب ؛ وهو بدوره لم يكن قد اصدر هذا القرار ولم يشارك في قتل ابنها فلم يجد ما يشاركها به من تعزية ، وهو فوق ذلك ليس من عائلة كبيرة في حي القطانة. بل كان حتى اليوم شخصا أجنبيا متشددا في دينه. جسده متخلق من عظام عريضة كالترس ؛ طويل يبلغ المترين ، نحيل وممشوق القامة ، مشعر يبلغ الخامسة والخمسين ولكنه أقوى من عشريني ؛ على فرسه سيف فضي طويل وسوط من جلد البقر. لا يستطيع صاحب كنتين أن يفتح كنتينه يوم الجمعة إلا بعد نهاية الصلاة ولا تستطيع امرأة في الحي أن تغادر منزلها عند غروب الشمس. وقد سعد الأزواج بقوة من أطلقوا عليه جنزير الذهب لصفرة لون بشرته. فقد تأدبت النسوة فأصبحن حريصات على البعد عن اي مواجهة مع هذا المجنون المتزمت. والرجال أنفسهم كانوا خائفين منه.
كانت البيوت الطينية (الجالوص) تغرق منذ الغروب في ظلمة المساء ، وتتحصن بصمت السماء ما عدا قصر عائلة الدراري ؛ العائلة التي توارثت السيطرة عل كل الحي الواقع في أطراف شبه مدينة أو شبه قرية ليس بها من دواوين الحكومة إلا ديوان الحاكم الإداري الذي كان يقضي ليله وهو يتمسح بما يرسل إليه من بلده من معاجين الخزامى لطرد البعوض عن جسده وجسد زوجته الشمطاء وهو ينتظر إعادته بعد سبع سنوات من النفي في هذه الأرض الجافة شديدة الحرارة والتي لا يزورها الربيع أبدا. كان يقول لزوجته وهما يشرعان في تناول طعام العشاء:
- تضرعي للرب يا حبيبتي حتى لا نموت من الملاريا أو التايفود.
فتمسك الشمطاء بكفهاء الممتلئة بالعروق الخضراء يده الناعمة ذات الأظافر الحمراء وتغمض عينيها متمتمة بصلاة سرية ثم يرسم الإثنان علامة الصليب ويبقيان بعد فراغهما من الأكل في السرير بأعين مفتوحة جزعة قبل أن تغمض في منتصف الليل.
وعائلة الدراري ارتبطت بالاستعمار بل أصبحت هي العائلة التي تتكفل بدعم ضباط العاصمة الذين يفلسون جراء مقامراتهم وهم ثملون بالخمر.
شيخ عائلة الدراري (الربع) له اربع زوجات في عصمته وأربع أخريات مطلقات ومع ذلك غير متزوجات بل بقين تحت قوامته وحمايته ، وله فوق ذلك قرابة ست وثلاثين جارية وعدد عظيم من العبيد بنى لهم أكواخا من القش في جزيرة صغيرة تتوسط عرصة النهر وأبقى داخل قصره على البعض ولكل منهم شغله وشاغله. كما كان له ثلاثة أبناء وإحدى عشر بنتا. أبنه الكبير العبيد ود الربع ويليه مصطفى وسيد ونزار. ونزار هذا هو إبن أصغر زوجاته وهي من عائلة ثرية وكان يمقتها لأنها تتحدث كناظر الوقف. كانت تعتقد أن تعليمها يعطيها ميزة على باقي زوجاته. وقد حرصت أن تكون الأكثر رقيا ونظافة من بينهن وأن تدفع بابنها للدراسة في العاصمة ومنعته من حفظ القرآن في خلوة جده. تزوج العبيد من ابنة خالته أم الخير وأنجب منها طفلة صغيرة أسماها قرشية ، وبعد الانجاب اتسعت شقة الخلاف بينه وبين أم الخير فطلقها ثم أعادها ثم طلقها وبقيت طلقة واحدة احتفظ بها بوصية من والده الذي أمره بضبط نفسه وعدم الانجراف وراء كيد المرأة. لم يكن العبيد حكيما بأي حال فطلقها الثالثة واسقط في يده. وإذ أحست أم الخير بمماطلة طليقها في إعادتها لمنزل والدها اقتحمت مجلس شيخ الربع ومعه أولاده ورجال من حي القطانة وقالت على رؤوس الأشهاد أنها تخشى الفتنة فما كان من العبيد ذو الرأس الأسود الصغير والمدور كالكرة إلا أن أخرج سيفه هامما بقطع رأسها حتى صرخ فيه والده صرخة واحدة جمدت الدم في شرايينه وظل واقفا كالشجرة وعيناه محمرتان من الغضب المختلط بالشعور بالعار. صرف شيخ الربع أم الخير بإشارة من سبابته فغادرت ثم استئذن من الرجال فسرحهم بإحسان وأجزل لهم العطايا فمضوا إلى بيوتهم وألسنتهم ملجومة بل حرصوا ألا يخبروا زوجاتهم بما حصل. وبعد انصراف الجميع ظل شيخ الربع جالسا مع نفسه يمسد لحيته المخضبة بالحناء صامتا كصمت الثعالب.
في صباح اليوم التالي دقت أم الهمبول سرادق عزاء ابنها الذي حضره جميع أهل الحي بما فيهم من شاركوا في قتل ابنها وهكذا بردت الأرواح بين القاتلين وأم المقتول ، ثم زاد الرجال والنساء من حميمية عزائهم فذبحوا الخراف وأطلقوا البخور ثم ختموا قراءة القرآن على روح الفقيد وغادروا في أول الليل تاركين ساتر تكبح دموعها بصبر من لا حيلة له إلا الصبر دون أن تتمكن من النوم ، وحين سمعت طرقات على باب منزلها فتحت الباب فألفته جنزير ااذهب الذي رفع كفيه فقرأ سورة الفاتحة ثم واكبته هي أيضا وحركت شفتيها دون أن تقرأ شيئا لأنها لم تكن تعرف شيئا في الدين..بل ولم تكن تعرف في دنياها سوى ابنها الذي تركه لها زوجها قبل موته ببضعة أسابيع من الطلق.
جلس جنزير الذهب على بنبر الخشب وظل صامتا ينظر إلى الأرض في حزن ففعلت هي كما فعل هو أيضا ولكنها لم تتحمل كثيرا بل أجهشت بالبكاء ونهض جنزير الذهب فأمسكها من ذراعيها وجذبها إلى صدره الواسع فبكت الأم المكلومة ما شاء لها من بكاء مرير ، وحين هدأت دفعها جنزير الذهب إلى العنقريب وأرقدها وغطاها بملاءة قصيرة. ثم غادر بصمت ونامت هي حتى الصباح وكأنها تخلصت من جبل كان يجثم فوق صدرها.
في صباح اليوم الثالث من مقتل الهمبول فتح جنزير الذهب باب كوخه السعفي ورأى فرسان عائلة الدراري يحيطون به ويلتمسون منه لقاء شيخ الربع فركب حصانه الأبرص ومضى معهم في صمت.
اقترح شيخ الربع على جنزير الذهب أن يتزوج من أم الخير ثم يطلقها لتحل لابنه العبيد من جديد ، وقد برر سبب اختياره له بأنه الأكثر حكمة من بين رجال الحي ، وفوق هذا فهو بلا قبيلة من قبائل الحي التي تستنكف عائلة الدراري أن تبيح جسد امرأة لأحد رجالها. قال شيخ الربع أن جنزير الذهب عربي لا سبيل لانكار ذلك.
ستنقضي عدتها بعد أشهر من تطليقك لها وتعود للعبيد مرة أخرى ، ورغم كل شيء فأنت في مقام والدها وتلك محمدة لن نجدها عند الشباب الأرعن.
قال شيخ الربع ووافق جنزير الذهب مشترطا أن يكون نكاحا شرعيا به دخول حقيقي فوافق الشيخ وتم عقد القران فورا ثم ردف جنزير الذهب زوجته خلفه وغادر إلى كوخه.
كان حي القطانة يعج بالأسر من القبائل المختلفة التي جمعهم المستعمر لنسج القطن يدويا لحسابه ، حيث يجمع منتجاتهم ويبيعها في الأسواق العالمية قبل أن يدفع لكل أسرة راتبها الشهري من المال ، لذلك ظل أهالي الحي فقراء دائما وفي حاجة للمستعمر باستمرار. ولم تكن عائلة الدراري تعترف بتكافؤها مع أبناء تلك القبائل ولذلك تخيرت جنزير الذهب ليكون محللا لطليقة ابنهم.
وقد مضت سبعة أيام منذ زواج جنزير الذهب بأم الخير وعشرة منذ مقتل الهمبول ، ثم مضت عشرة أخرى وعشرة ثانية وتسرب القلق لشيخ الربع فأرسل عبيده لتقصي الوضع ، فغادروا وعادوا إليه متجهمين...كان جالسا مع ابنائه الثلاثة حين أخبره العبيد بأنهم سمعوا صراخ أم الخير قبل أن يبلغوا المنزل بمائة متر فأصابهم الهلع وكروا عائدين فورا. قال أحد العبيد بأن جنزير الذهب يعذب أم الخير تعذيبا شديدا دون أن يعرف أحد من أهل الحي السبب. غير أن ملامح شيخ الربع ظلت ساهمة.
بعد الظهيرة يعبر تيار خفيف البرودة سماء القطانة مؤذنا بمناغ العصر الغريب ؛ ذلك الذي يخترق خياشيم ساتر حاملا رائحة وهمية لتوابل حاذقة ، كانت تقطع الخلاء باحثة عن قبر ابنها وهي تحمي وجهها من الرمال التي تنقشع عن الارض فتصفعها كالمسامير في وجهها ، كان ظهر الأرض مستويا لا يبدو فيه بروز قبر حديث ، حدثوها بأن القبر لا يمكن معرفته ولكنها أصرت بيأس أن تبحث عنه وتزوره وأن تدفن قربه صدفة بحر قديمة ورثتها عن أم زوجها المتوفى. ولم تكن تعرف ما فائدة فعلها لذلك لكنها كانت تعتقد أن شيئا ما يمكن أن يخفف عن ابنها عذاب القبر الذي يتعرض له جراء تحرشه بالصبية. كان ابنها مذنبا في نظرها خاصة بعد أن أكد لها جميع أهل الحي ذلك وعجزت هي في ضعفها عن استخدام بلهه كمبرر لما فعله. (سيحدث شيء) كانت تقول في سرها وقبضتها الواهنة تطبق على الصدفة كطوق نجاة. بحثت في الخلاء حتى رأت كثبانا رملية صغيرة فأقنعت نفسها بأنها مدفن جثمان ابنها ؛ ثم جثت على ركبتيها وحفرت ما استطاعت إليه سبيلا ووضعت الصدفة في الحفرة وأهالت عليها التراب ، وكرت عائدة وقد عماها الحزن عن رؤية النجوم التي بدأت تنبثق في السماء معلنة أفول الشمس.
اقتربت من مشارف الحي ثم ولجت من اوسع شوارعه ولمحت عبيد شيخ الربع يحيطون بكوخ جنزير الذهب فتوقفت واختفت خلف شجرة نيم كبيرة تراقب الحدث. لم تمض دقائق حتى خرج شيخ الربع ومن ورائه جنزير الذهب وسارا خلف العبيد حتى اقتربا من شجرتها ودون أن يلمحاها تحدث شيخ الربع عن ضرورة وفاء جنزير الذهب بوعده فيطلق أم الخير غير أن جنزير الذهب رفض وقال بأنه لن يطلقها إلا إذا طلبت هي ذلك...قال شيخ الربع أن ما فعله بأم الخير سيمنعها من طلب الطلاق ثم تغيرت نبرة شيخ الربع وبدا مغلوبا على أمره مسكينا وهو يشكو من أن الخبر الذي نقله العبيد إلى إبنه قد أصاب هذا الأخير بالكآبة والشعور بضعف فحولته ثم عاتب جنزير الذهب قائلا:
- كل أهل القطانة سمعوا صراخها يا جنزير الذهب..ألم يكن بإمكانك وقف هذه الفضيحة على الأقل احتراما لقواعد الآداب.
فأمن جنزير الذهب على ذلك بأسف وقال:
- حقا يا شيخنا الجليل..لكنني في تلك الأوقات كنت أعجز عن فعل شيء فأنا نفسي أفقد عقلي....
ربت شيخ الربع على كتف جنزير الذهب وطلب أن يسأل أم الخير عن رأيها النهائي حول الطلاق فدخل وعاد بملامح خائبة حسيرة. وجمع عبيده وغادر.
تركت ساتر شجرتها وغادرت لمنزلها ثم نامت لترى صورة ابنها في المنام وكان يرتدي جلبابا أبيض تبرز من تحته ساقاه النحيلتان المشعرتان كما تعودت عليهما منذ بلوغه. كان نظيفا ومبتسما وعيناه لامعتين بذكاء يخالف بلهه المعروف وقد أخبرها بأنه سعيد وسيتزوج صدفة جدته وسينجب منها أطفالا صغارا طيبين وحلوين. ثم استيقظت في الفجر على أصوات هرج ومرج فتلفحت ثوبها وخرجت متقصية الأمر متتبعة جموع الرجال الذين تجمهروا حول كوخ جنزير الذهب ، فجت ساتر الجمهور حتى وقع بصرها على جثة جنزير الذهب ممزقة قطعة قطعة وذكره وخصيتيه داخل فمه على جمجمته المفصولة عن الجسد وعلى البعد سيفه الفضي مخضوبا بدماء معركة حامية الوطيس.
قال أحد الوسامة بأنه وبحسب ما قرأه من علامات فقد دارت المعركة بين جنزير الذهب وقرابة عشرين رجل آخرين. وأكد الوسامة أن هناك بقايا اصابع ودماء وملابس تؤكد أن عدد القتلى بلغ قرابة الثلاثة عشر وأن السبعة الباقين هم من ظفروا وحدهم بقتل جنزير الذهب ثم جمعوا بقايا أشلاء زملائهم وغادروا.
قرر الرجال تتبع آثار الغادرين لمعرفة هويتهم إلا أن ساتر حالت بينهم وطلبت منهم أن لا يبحثوا عن الشر مكتفين بدفن جثة جنزير الذهب بعد الصلاة عليها.
رمقها الرجال بصمت ولسبب ما أطاعوها وحملوا جثة جنزير الذهب ودفنوها في الخلاء.
كانت ساتر ترمقهم وهم عائدين وروحها تحدثها بأن روح جنزير الذهب ستحمي روح ابنها المهبول في قبريهما. ووككل شيء آخر عبر في حياتها لم تجد مبررا منطقيا لذلك الشعور الغريب.
(تمت)