أنا رجل كثير الأحلام، وبالدقة، كثير الكوابيس، أدخل في بيت معتم، وأخرج من العتمة يأخذني عنكبوت أشقر برأس أسود ويشبك سيقانه حولي، ثم يرميني الى بيت آخر بين حفنة حشرات وزواحف تلسعني وتضحك، لا أدري هل تضحك الزواحف والحشرات؟
بمرور الزمان تغيرت الحالة تماماً، صارت الكوابيس واضحة وجارحة ومفهومة، أرى زوجتي على فراشي مع رجل آخر، بينما كنت مسافراً الى دمشق، عدت قبل موعد الرجوع، وكان ما كان، شهقت وكدت أختنق، صحوت من النوم وحمدت الله أنني لم أتزوج بعد؟
من غرائب الكوابيس التي حطمتني تماماً، يوم حلمت بأنني خروف في طريقي الى المسلخ، أنا الخروف الوحيد الذي يعرف أنهم سيذبحونه، حاولت أن أهرب، لكن القصاب ركض خلفي وأوسعني ضرباً، كررت الهروب، إذا بالقصاب يحيط رأسي بحبل متين بينما كنا نقترب من المسلخ، وكان دوري الأول بين الخراف جزاء ما فعلت بالقصاب.
مسكوني من أطرافي، جاءت السكين العملاقة وجزت رأسي، فصلته عن جسدي، تقيأت دماً في ساقية المسلخ وصحوت من النوم، كانت الساعة في غرفتي تشير الى الرابعة فجراً ولم أعد الى فراشي، قطعت بقية الوقت في القراءة بعد ان غسلت رأسي تحت الحنفية وتأكد لي أنني صحوت، كل شيء كما هو في غرفتي، المكتبة، شيء من الفوضى، حذائي عند الباب، ليس من خوف ولا حشرات ولا زواحف، المصباح في مكانه، وكذلك الملابس معلقة بالترتيب على مسامير الحائط، ورحت أقرأ.
مرت أيام دون كوابيس، ولا أحلام، أتأخر في النوم حتى الواحدة بعد منتصف الليل، أشرب شيئاً من الخمرة وأقرأ بعض القصائد والقصص العجيبة، ثم أمضي الى سريري مطمئناً أن الكوابيس غادرتني ولن تعود، حتى أصدقائي لطيف ججو وسامي الحلو قالوا: أنت في صحة جيدة، ولا أدري هل يعيشون الكوابيس مثلي؟
تغيرت حياتي فعلاً، منذ أن اختفت آخر رحلة مرعبة قطعوا فيها رأسي، ومنذ أن خذلتني زوجتي التي ما اقترنت بها حتى الساعة، صارت أيامي هادئة وأنفاسي منتظمة، أمشي في الشوارع وادندن مع آخر أغنية تمر على خاطري، أبتسم مع الناس من فرط النشوة، بل أكاد اصدق أن الناس يبتسمون معي، العالم يمكنه سهواً أن يكون أجمل.
لم تعد الذاكرة تتجول في الأحزان، ولم تعد الذكريات تسبح في بحر المذابح والأوجاع، ذهبت الكوابيس الى غير رجعة، أستطيع القول: أنا في قمة الهدوء، الثلج سقط على نيراني ولم يعد من شيء يحرقني ويلوث ساعات عمري، أجلس في المقاهي وأذهب الى دور السينما وأحتسي البيرة في البارات وأمشي في الشوارع والأزقة، أشتري المجلات والكتب حتى تكون المتعة أكبر.
نسيت الكوابيس، اندثرت في أعماق نفسي الى غير رجعة، سواء نمت مبكراً أو في آخر الليل، أصحو سعيداً وفي غاية النشوة كأنني أمضيت الليل مع أجمل النساء، وهكذا تمر أيامي، من حلاوة الى أحلى، وقد أحلم، هكذا مصادفة، فهو محض حلم بسيط يداعبني ويمضي، حت أنني لا أتذكره حين أصحو.
مازلت أظن أن الكوابيس قد تقتل أصحابها في جزء من ساعات نومهم، لاسيما ضعاف القلوب، وقد مرت المحنة على خير ولم أمت في واحد من كوابيسي الفاجعة، البعض مثل القش ما إن يدخل أول باب من أبواب الكابوس حتى يحترق، هب… وترى النار في كل مكان، وأنا كنت كثير الأحلام، وبدقة كما أخبرتكم (كثير الكوابيس) وها أنا أنقذ نفسي بنفسي وأعود الى انسانيتي بسرعة مذهلة مثل نيزك خاطف جاء من مكان بعيد وراح الى مكان أبعد.
عائلتي لا تعرف شيئاً عما كنت أعانيه، فأنا لا اصرخ ولا أهذي ولا أشكو ولا أتذمر، أغسل وجهي صباحاً وأحياناً رأسي كله حتى يتم صحوي، الفطور جاهز قبل أن أطلبه، لا كلام ولا دردشة ولا شكوى من أحد، مع السلامة، أقولها دون معنى، ويأتي الجواب دون معنى، أرى خردوات البيت تعترض طريقي ولا أعترض، قميصي وبنطلوني دون مكوى ولا أعترض، المهم أن الكوابيس تفككت ومضت الى غير رجعة ولا أظنها ستعود وتلبسني كما ثيابي.
مرة قرأت ما يشبه الشعر، يقول كاتبه (هذا ما أعرفه، الموت هو الموت، وما من أحد عاد من موته ليقول لنا شيئاً)… وكلام كهذا يطربني ويرعبني في وقت واحد، أسأل نفسي مع كل موت أراه: هل سيعود هذا الذي مضى؟ هل يعيش حالة أخرى غير التي نحياها؟ ربما يرانا كل يوم عبر غلاف سحري شفاف بينما نحن نفعل الحسنات والسيئات غير مصدقين أنه مازال على قيد الوجود.
الكوابيس كانت تغطي جسدي وأنا أفكر في الموت، كم مرة دخلت ذاك البيت المعتم وكم مرة خرجت؟ كم مرة أخذني ذاك العنكبوت ذو الرأس الأسود ورماني الى جمهرة الحشرات والزواحف وصارت تضحك مني؟ كم مرة جئت من دمشق ورأيت زوجتي مع رجل في غاية الوسامة، تشهق جزعاً وأشهق مخنوقاً وأصحو على رائحة الخيانة مع أنني لم أتزوج بعد؟ ولعل أكثرها رعباً ذهابي الى المسلخ أنا الخروف العنيد الذي حاول الهروب من الموت فما كان أمامه غير السكين العملاقة تقطع رأسي ويضحك القصاب من غبائي قبل أن أصحو من أكثرها تحطيماً لعظامي وجلدي، أعني ذاك الكابوس الذي غربلني وخرمني وسمرني ورماني الى مابعد الخوف بفراسخ لا ترى.
في بار (المرايا) على موعد مع سامي الحلو ولطيف ججو الذي يسمونه الحمار بسبب أذنيه الطويلتين وصوته المنكر الذي يمنعه من قول ما يريد ويكتفي بإشارات نفهم معناها جيداً، جلسنا نحتسي البيرة هادئين كأننا في عزاء، حتى بدأنا نشرب القنينة الثالثة، وفجأة، سمعنا لطيف ججو يضحك، ولم نفهم السبب، وبعد رشفة أخرى من البيرة ودونما سبب أيضاً راح سامي الحلو يضحك، نظرت اليهما مستغرباً، ماذا جرى؟ يبدو أن البيرة لها سحرها بعد القنينة الثالثة، ماذا سيحدث إذا بدأنا في ارتشاف الرابعة والخامسة؟
دخل البار جوقة من المخبرين والجندرمة السرية، نعرفهم من طبيعة هندامهم وملامحهم، وقبل أن نقول أو نفعل أي شيء، رأينا أحدهم يشير الينا، وبدون كلام وجدنا أنفسنا داخل سيارة مصفحة سوداء، ومن السيارة الى غرفة مظلمة، ومنها الى سرداب تحت الأرض، ومن السرداب الى جب معتم، بل هو في غاية العتمة، نمسك الحائط لئلا نسقط أرضاً، نخاف أن ننطق، إذا تكلم لطيف ججو، الحمار الجميل، ستكون الطامة الكبرى، طارت البيرة ولم يبق منها غير التبوّل، أظنني فعلتها، ثمة رائحة زنخة عندما نفرز البيرة من شدة الخوف.
نزلت الهراوات على رأس لطيف ججو، ربما ظنوا هو من فعلها، وأغمي عليه فوراً، ياللعجب، الحمار مرهف الحس، بينما تحمل سامي على حلاوته ضرباً مبرحاً، ونجوت وحدي من لسعات العصي، أسمع صوتاً في العتمة يقول:
ـ بنات، ضربة واحدة تقضي عليهمأغلقوا علينا باب الجب، وتسلل بدلاً عنهم صراصير من كل نوع، صغير وأصغر، كبير الحجم وأكبر، أهمس: لطيف، سامي، وليس من جواب، أمد أصابعي أتحسس أجسادهم، لا أحد معي في الجب، أخذوهم الى مكان آخر وبقيت وحدي، عندما هدأ المكان الأخطبوطي المتشعب، سمعت من يذكر اسمي، وفوراً سمعت من يقول: الكلام ممنوع، اخرس يا كلب.
كيف نعرف ماذا فعلنا؟ حتى أننا لم ننطق في البار، أعطينا الحساب قبل أن يجرجرونا الى هذا المكان، ذهبنا معهم دون اعتراض، وهذا ما يفعله المواطن الصالح إذا جاءوا اليه، يذهب بهدوء ويضع القيد بنفسه، ويحني رأسه، وإذا ضربه المخبر على الخد الأيمن يعطيه الخد الأيسر، المواطن صالح جداً ولا نقاش في ذلك، المواطن حزين مرعوب عاطفي منتهك ذليل كئيب مهموم شريف عفيف طيب القلب، وها أنا في غرفة تشبه السرداب يشبه الجب يشبه الجحيم لا أدري متى يفرجون عنا ولماذا أخذونا أصلاً؟
ساعة بعد ساعة، يتكون الوقت من يوم بعد يوم، تفارقني الدقائق ببطء مخبول، متى يأتي التحقيق معي وتخف أسئلتي؟ لابد من سبب مهما تأخر الوقت، من غير المعقول البقاء هنا، كم رجل بريء محجوز ومحجور عليه في هذه البقعة من بغداد ينتظر؟ أنا لا أصدق ما يجري، لابد أن يتهموك بشيء، اليوم، غداً، ربما بعد شهر، هسيس أسمعه يتكرر وهناك من يقول فوراً: اخرس أيها الكلب.
وفي ساعة من النهار، ظننته النهار، تحرك قفل الجب وتحركت صحون الطعام، رائحة عفنة لا أدري ماذا في تلك الطناجر، يتكرر نوع هذا الطعام كل ثلاثة أيام، هذه المرة رفضت ما يرمى إلي، حتى الكلاب سترفض، لكن النغمة تغيرت، بدلاً من (اخرس أيها الكلب) صارت (ابن العاهرة)… وبرغم ذلك رفضت الطعام، عندها دخل أحدهم، أظنه جثيث سمين عملاق من حركة قدميه، ورمى الصحون والمرقة فوق رأسي، كنت أسمع بقية غرف السرداب في نغمة واحدة من الرفض، ومن بين الصراخات خمنت صوت لطيف ججو، الصوت الذي صار محبوباً، فقد أخبرني أن صاحبيّ مازالا على قيد الحياة.
في ذاك المكان (الأقذر) تتناسل الكوابيس، هو الموت على شكل ثعبان أو عقرب أو صرصار أو مسلخ أو مجموعة حشرات وزواحف أو ديناصور، أو كل ذلك مرة واحدة، دفعة واحدة، أسمع صوت لطيف ججو، حمار يغني ويطرب، يريد أن يذبحوه ويموت وينتهي، لم يصبرعلى هذه المهانة، يفتحون الباب عليه، هكذا أتخيل، ويدخلون، كلهم يدخلون، كلهم يضربون، حتى سكت الحمار بعد وقت قصير، هكذا أتخيل، جاء طبيب الى المكان الأقذر وقال بلا عاطفة: لقد مات.
في لحظة من الزمن، في أدق ساعة من ساعات عمري، قررت أن أكون الحمار التالي، أن أبدأ الصراخ، أن أبدأ العويل، ثم يأتون ويقتلون، رحت أعوي، أزئر، أخور، أنبح بكل ما تبقى من قوة في جسدي، لكنهم لم يحضروا، وبين ساعة وساعة أعود الى العواء، أقوى من البداية، لكنهم لم يسألوا، يا أولاد القحبة، الكلب أشرف منكم، أولاد (…….) لماذا قتلتم ججو؟
في الليل، أغرب ليل في حياتي، أخرجوني من الجب، الى السرداب، الى الغرفة، الى شارع النضال (على من ناضلتم؟) ثم رأيت نفسي في غرفتي، على فراشي، أبكي فرحاً، لا أدري ماذا أفعل غير الصمت والتأمل فيما جرى.تعلمت على الكوابيس، لا أدري إذا كنت أعيش يومي أم أعيش كابوسي، واحد: حيطان تكبسني ببطء مرعب حتى أنتهي ويجري دمي في ساقية تختلط مع من جاء قبلي، مع من سيأتي بعدي. اثنان: مفرمة عملاقة تجعل الجسد البشري شظايا ناعمة ليس من أثر لها، ثلاثة: تابوت اسمنت يُغلق على إنسان يستغيث، يصرخ، ثم يسكت وينتهي اسمه من سجلات المواطنة، رابعاً: تماسيح في بركة يرمى اليها غير المرغوب فيه، خامساً، سادساً، سابعاً، الى أعلى ما يرغبون ويشتهون ويبتهجون، حتى قطعت الشوط كله صوب رغبة عارمة في الموت، ليس أجمل من الموت في هذا الربع الخالي من الإنسانية.
ذهبت الى بار المرايا، برغم خوفي وهلعي، جلست وحدي مع أن زبائن البار كلهم يعرفون من أكون، لم أسأل عن سامي الحلو، وأعرف أن لطيف ججو، الحمار الجميل، قد انتهى أمره، سلام من بعيد، أرفع يدي ترحيباً بمن بدأ التحية، انتهيت من القنينة الثالثة وتبولت أكثر من مرة، ثم دفعت الحساب، أعرف أنهم سوف يحضرون، في البارات كلها والحانات جميعها والأسواق والشوارع والأزقة لابد سيحضرون، اريد أن أتخلص من كابوسي شئت أم أبيت، عاندت أو حاولت الهروب، سوف أذهب معهم، أنا المواطن الصالح أذهب دون اعتراض وأنحني رعباً وارتجافاً وأنا أقيد نفسي بنفسي وإذا ضربني رجل الشرطة على الخد الأيسر أعطيه الخد الأيمن، المهم أن ينتهي كابوسي الذي يشبه جلطة الدماغ، والحقيقة أقول: أنا سعيد بموتي إذا جاء قبل الكابوس.
“كافي عاد”…. لقد تأخروا هذه المرة، أو ربما تغير اسلوبهم في الحضور.
بمرور الزمان تغيرت الحالة تماماً، صارت الكوابيس واضحة وجارحة ومفهومة، أرى زوجتي على فراشي مع رجل آخر، بينما كنت مسافراً الى دمشق، عدت قبل موعد الرجوع، وكان ما كان، شهقت وكدت أختنق، صحوت من النوم وحمدت الله أنني لم أتزوج بعد؟
من غرائب الكوابيس التي حطمتني تماماً، يوم حلمت بأنني خروف في طريقي الى المسلخ، أنا الخروف الوحيد الذي يعرف أنهم سيذبحونه، حاولت أن أهرب، لكن القصاب ركض خلفي وأوسعني ضرباً، كررت الهروب، إذا بالقصاب يحيط رأسي بحبل متين بينما كنا نقترب من المسلخ، وكان دوري الأول بين الخراف جزاء ما فعلت بالقصاب.
مسكوني من أطرافي، جاءت السكين العملاقة وجزت رأسي، فصلته عن جسدي، تقيأت دماً في ساقية المسلخ وصحوت من النوم، كانت الساعة في غرفتي تشير الى الرابعة فجراً ولم أعد الى فراشي، قطعت بقية الوقت في القراءة بعد ان غسلت رأسي تحت الحنفية وتأكد لي أنني صحوت، كل شيء كما هو في غرفتي، المكتبة، شيء من الفوضى، حذائي عند الباب، ليس من خوف ولا حشرات ولا زواحف، المصباح في مكانه، وكذلك الملابس معلقة بالترتيب على مسامير الحائط، ورحت أقرأ.
مرت أيام دون كوابيس، ولا أحلام، أتأخر في النوم حتى الواحدة بعد منتصف الليل، أشرب شيئاً من الخمرة وأقرأ بعض القصائد والقصص العجيبة، ثم أمضي الى سريري مطمئناً أن الكوابيس غادرتني ولن تعود، حتى أصدقائي لطيف ججو وسامي الحلو قالوا: أنت في صحة جيدة، ولا أدري هل يعيشون الكوابيس مثلي؟
تغيرت حياتي فعلاً، منذ أن اختفت آخر رحلة مرعبة قطعوا فيها رأسي، ومنذ أن خذلتني زوجتي التي ما اقترنت بها حتى الساعة، صارت أيامي هادئة وأنفاسي منتظمة، أمشي في الشوارع وادندن مع آخر أغنية تمر على خاطري، أبتسم مع الناس من فرط النشوة، بل أكاد اصدق أن الناس يبتسمون معي، العالم يمكنه سهواً أن يكون أجمل.
لم تعد الذاكرة تتجول في الأحزان، ولم تعد الذكريات تسبح في بحر المذابح والأوجاع، ذهبت الكوابيس الى غير رجعة، أستطيع القول: أنا في قمة الهدوء، الثلج سقط على نيراني ولم يعد من شيء يحرقني ويلوث ساعات عمري، أجلس في المقاهي وأذهب الى دور السينما وأحتسي البيرة في البارات وأمشي في الشوارع والأزقة، أشتري المجلات والكتب حتى تكون المتعة أكبر.
نسيت الكوابيس، اندثرت في أعماق نفسي الى غير رجعة، سواء نمت مبكراً أو في آخر الليل، أصحو سعيداً وفي غاية النشوة كأنني أمضيت الليل مع أجمل النساء، وهكذا تمر أيامي، من حلاوة الى أحلى، وقد أحلم، هكذا مصادفة، فهو محض حلم بسيط يداعبني ويمضي، حت أنني لا أتذكره حين أصحو.
مازلت أظن أن الكوابيس قد تقتل أصحابها في جزء من ساعات نومهم، لاسيما ضعاف القلوب، وقد مرت المحنة على خير ولم أمت في واحد من كوابيسي الفاجعة، البعض مثل القش ما إن يدخل أول باب من أبواب الكابوس حتى يحترق، هب… وترى النار في كل مكان، وأنا كنت كثير الأحلام، وبدقة كما أخبرتكم (كثير الكوابيس) وها أنا أنقذ نفسي بنفسي وأعود الى انسانيتي بسرعة مذهلة مثل نيزك خاطف جاء من مكان بعيد وراح الى مكان أبعد.
عائلتي لا تعرف شيئاً عما كنت أعانيه، فأنا لا اصرخ ولا أهذي ولا أشكو ولا أتذمر، أغسل وجهي صباحاً وأحياناً رأسي كله حتى يتم صحوي، الفطور جاهز قبل أن أطلبه، لا كلام ولا دردشة ولا شكوى من أحد، مع السلامة، أقولها دون معنى، ويأتي الجواب دون معنى، أرى خردوات البيت تعترض طريقي ولا أعترض، قميصي وبنطلوني دون مكوى ولا أعترض، المهم أن الكوابيس تفككت ومضت الى غير رجعة ولا أظنها ستعود وتلبسني كما ثيابي.
مرة قرأت ما يشبه الشعر، يقول كاتبه (هذا ما أعرفه، الموت هو الموت، وما من أحد عاد من موته ليقول لنا شيئاً)… وكلام كهذا يطربني ويرعبني في وقت واحد، أسأل نفسي مع كل موت أراه: هل سيعود هذا الذي مضى؟ هل يعيش حالة أخرى غير التي نحياها؟ ربما يرانا كل يوم عبر غلاف سحري شفاف بينما نحن نفعل الحسنات والسيئات غير مصدقين أنه مازال على قيد الوجود.
الكوابيس كانت تغطي جسدي وأنا أفكر في الموت، كم مرة دخلت ذاك البيت المعتم وكم مرة خرجت؟ كم مرة أخذني ذاك العنكبوت ذو الرأس الأسود ورماني الى جمهرة الحشرات والزواحف وصارت تضحك مني؟ كم مرة جئت من دمشق ورأيت زوجتي مع رجل في غاية الوسامة، تشهق جزعاً وأشهق مخنوقاً وأصحو على رائحة الخيانة مع أنني لم أتزوج بعد؟ ولعل أكثرها رعباً ذهابي الى المسلخ أنا الخروف العنيد الذي حاول الهروب من الموت فما كان أمامه غير السكين العملاقة تقطع رأسي ويضحك القصاب من غبائي قبل أن أصحو من أكثرها تحطيماً لعظامي وجلدي، أعني ذاك الكابوس الذي غربلني وخرمني وسمرني ورماني الى مابعد الخوف بفراسخ لا ترى.
في بار (المرايا) على موعد مع سامي الحلو ولطيف ججو الذي يسمونه الحمار بسبب أذنيه الطويلتين وصوته المنكر الذي يمنعه من قول ما يريد ويكتفي بإشارات نفهم معناها جيداً، جلسنا نحتسي البيرة هادئين كأننا في عزاء، حتى بدأنا نشرب القنينة الثالثة، وفجأة، سمعنا لطيف ججو يضحك، ولم نفهم السبب، وبعد رشفة أخرى من البيرة ودونما سبب أيضاً راح سامي الحلو يضحك، نظرت اليهما مستغرباً، ماذا جرى؟ يبدو أن البيرة لها سحرها بعد القنينة الثالثة، ماذا سيحدث إذا بدأنا في ارتشاف الرابعة والخامسة؟
دخل البار جوقة من المخبرين والجندرمة السرية، نعرفهم من طبيعة هندامهم وملامحهم، وقبل أن نقول أو نفعل أي شيء، رأينا أحدهم يشير الينا، وبدون كلام وجدنا أنفسنا داخل سيارة مصفحة سوداء، ومن السيارة الى غرفة مظلمة، ومنها الى سرداب تحت الأرض، ومن السرداب الى جب معتم، بل هو في غاية العتمة، نمسك الحائط لئلا نسقط أرضاً، نخاف أن ننطق، إذا تكلم لطيف ججو، الحمار الجميل، ستكون الطامة الكبرى، طارت البيرة ولم يبق منها غير التبوّل، أظنني فعلتها، ثمة رائحة زنخة عندما نفرز البيرة من شدة الخوف.
نزلت الهراوات على رأس لطيف ججو، ربما ظنوا هو من فعلها، وأغمي عليه فوراً، ياللعجب، الحمار مرهف الحس، بينما تحمل سامي على حلاوته ضرباً مبرحاً، ونجوت وحدي من لسعات العصي، أسمع صوتاً في العتمة يقول:
ـ بنات، ضربة واحدة تقضي عليهمأغلقوا علينا باب الجب، وتسلل بدلاً عنهم صراصير من كل نوع، صغير وأصغر، كبير الحجم وأكبر، أهمس: لطيف، سامي، وليس من جواب، أمد أصابعي أتحسس أجسادهم، لا أحد معي في الجب، أخذوهم الى مكان آخر وبقيت وحدي، عندما هدأ المكان الأخطبوطي المتشعب، سمعت من يذكر اسمي، وفوراً سمعت من يقول: الكلام ممنوع، اخرس يا كلب.
كيف نعرف ماذا فعلنا؟ حتى أننا لم ننطق في البار، أعطينا الحساب قبل أن يجرجرونا الى هذا المكان، ذهبنا معهم دون اعتراض، وهذا ما يفعله المواطن الصالح إذا جاءوا اليه، يذهب بهدوء ويضع القيد بنفسه، ويحني رأسه، وإذا ضربه المخبر على الخد الأيمن يعطيه الخد الأيسر، المواطن صالح جداً ولا نقاش في ذلك، المواطن حزين مرعوب عاطفي منتهك ذليل كئيب مهموم شريف عفيف طيب القلب، وها أنا في غرفة تشبه السرداب يشبه الجب يشبه الجحيم لا أدري متى يفرجون عنا ولماذا أخذونا أصلاً؟
ساعة بعد ساعة، يتكون الوقت من يوم بعد يوم، تفارقني الدقائق ببطء مخبول، متى يأتي التحقيق معي وتخف أسئلتي؟ لابد من سبب مهما تأخر الوقت، من غير المعقول البقاء هنا، كم رجل بريء محجوز ومحجور عليه في هذه البقعة من بغداد ينتظر؟ أنا لا أصدق ما يجري، لابد أن يتهموك بشيء، اليوم، غداً، ربما بعد شهر، هسيس أسمعه يتكرر وهناك من يقول فوراً: اخرس أيها الكلب.
وفي ساعة من النهار، ظننته النهار، تحرك قفل الجب وتحركت صحون الطعام، رائحة عفنة لا أدري ماذا في تلك الطناجر، يتكرر نوع هذا الطعام كل ثلاثة أيام، هذه المرة رفضت ما يرمى إلي، حتى الكلاب سترفض، لكن النغمة تغيرت، بدلاً من (اخرس أيها الكلب) صارت (ابن العاهرة)… وبرغم ذلك رفضت الطعام، عندها دخل أحدهم، أظنه جثيث سمين عملاق من حركة قدميه، ورمى الصحون والمرقة فوق رأسي، كنت أسمع بقية غرف السرداب في نغمة واحدة من الرفض، ومن بين الصراخات خمنت صوت لطيف ججو، الصوت الذي صار محبوباً، فقد أخبرني أن صاحبيّ مازالا على قيد الحياة.
في ذاك المكان (الأقذر) تتناسل الكوابيس، هو الموت على شكل ثعبان أو عقرب أو صرصار أو مسلخ أو مجموعة حشرات وزواحف أو ديناصور، أو كل ذلك مرة واحدة، دفعة واحدة، أسمع صوت لطيف ججو، حمار يغني ويطرب، يريد أن يذبحوه ويموت وينتهي، لم يصبرعلى هذه المهانة، يفتحون الباب عليه، هكذا أتخيل، ويدخلون، كلهم يدخلون، كلهم يضربون، حتى سكت الحمار بعد وقت قصير، هكذا أتخيل، جاء طبيب الى المكان الأقذر وقال بلا عاطفة: لقد مات.
في لحظة من الزمن، في أدق ساعة من ساعات عمري، قررت أن أكون الحمار التالي، أن أبدأ الصراخ، أن أبدأ العويل، ثم يأتون ويقتلون، رحت أعوي، أزئر، أخور، أنبح بكل ما تبقى من قوة في جسدي، لكنهم لم يحضروا، وبين ساعة وساعة أعود الى العواء، أقوى من البداية، لكنهم لم يسألوا، يا أولاد القحبة، الكلب أشرف منكم، أولاد (…….) لماذا قتلتم ججو؟
في الليل، أغرب ليل في حياتي، أخرجوني من الجب، الى السرداب، الى الغرفة، الى شارع النضال (على من ناضلتم؟) ثم رأيت نفسي في غرفتي، على فراشي، أبكي فرحاً، لا أدري ماذا أفعل غير الصمت والتأمل فيما جرى.تعلمت على الكوابيس، لا أدري إذا كنت أعيش يومي أم أعيش كابوسي، واحد: حيطان تكبسني ببطء مرعب حتى أنتهي ويجري دمي في ساقية تختلط مع من جاء قبلي، مع من سيأتي بعدي. اثنان: مفرمة عملاقة تجعل الجسد البشري شظايا ناعمة ليس من أثر لها، ثلاثة: تابوت اسمنت يُغلق على إنسان يستغيث، يصرخ، ثم يسكت وينتهي اسمه من سجلات المواطنة، رابعاً: تماسيح في بركة يرمى اليها غير المرغوب فيه، خامساً، سادساً، سابعاً، الى أعلى ما يرغبون ويشتهون ويبتهجون، حتى قطعت الشوط كله صوب رغبة عارمة في الموت، ليس أجمل من الموت في هذا الربع الخالي من الإنسانية.
ذهبت الى بار المرايا، برغم خوفي وهلعي، جلست وحدي مع أن زبائن البار كلهم يعرفون من أكون، لم أسأل عن سامي الحلو، وأعرف أن لطيف ججو، الحمار الجميل، قد انتهى أمره، سلام من بعيد، أرفع يدي ترحيباً بمن بدأ التحية، انتهيت من القنينة الثالثة وتبولت أكثر من مرة، ثم دفعت الحساب، أعرف أنهم سوف يحضرون، في البارات كلها والحانات جميعها والأسواق والشوارع والأزقة لابد سيحضرون، اريد أن أتخلص من كابوسي شئت أم أبيت، عاندت أو حاولت الهروب، سوف أذهب معهم، أنا المواطن الصالح أذهب دون اعتراض وأنحني رعباً وارتجافاً وأنا أقيد نفسي بنفسي وإذا ضربني رجل الشرطة على الخد الأيسر أعطيه الخد الأيمن، المهم أن ينتهي كابوسي الذي يشبه جلطة الدماغ، والحقيقة أقول: أنا سعيد بموتي إذا جاء قبل الكابوس.
“كافي عاد”…. لقد تأخروا هذه المرة، أو ربما تغير اسلوبهم في الحضور.