في داخل البيت، اذ النوافذ والابواب كلها مغلقة، كان السيد ضامن حسن ملتصقا بالجدران الباردة، يلمسها ويخرمشها حينا، ويمسحها باصابعه حينا اخر، والبيت كان واحدا من تلك البيوت المعزولة عن قلب المدينة، يكاد ان يكون خاليا الا من بيوتات العناكب ومن صف واحد من المقاعد الملونة الممسوحة المتآكلة عند موضع الرسغين، وثمة قط هزيل لا تدري ان كان ميتا او نائما، فالممرات جميعها تبعث ما يشبه رائحة السمك البائت والنفط والبصل واللهانة، واذ ترى عددا من لوحات سلفادور دالي وفيلا سكيز وبابلو بيكاسو المنسوخة، تجد اعلى منها لوحات همجية سفاحة ذابلة رسمت باللون الاسود والغرين والدماء.
وفي زاوية احدى الغرف، هناك ترى الفراش العريض الذي يمرح فوقه جرذي كبير يروح بين ثنايا اللحاف ويرجع من تحت المخدة والفراش كله بدا مبقوعا واصفر اكلته الشمس والحيامن والكوابيس.
وضامن حسن كما يعرفه اعضاء جمعية الفنون الجميلة رجل لم يفز بالجائزة الاولى فقط وانما دعته باريس وروما واستراليا الى العيش كل حياته في تلك المدن الباهرة اذ لا كوابيس ولا جوع ولا تناقضات كما ورد في نصوص العقود التي لم يلتفت اليها وقد قال من على شاشة تلفزيون النمسا
ــ لا ادري كيف تلد اوروبا رساما لم يتعش على مائدته جرذي جميل، ولست اعرف السر الذي اوصل سلفادور دالي الى القمة مع انه يرتدي افضل الثياب وانظفها، انساتي سادي، لا شيء يعطيك فنا دمويا حقيقيا خالدا سوى الوساخة ولا شيء في الدنيا يعوض بيتي العتيق المملوء بالشمس والاعداء والنفايات.
من يومها، حاولت الشركات كلها ان تجد المسحوق الذي يزيد الوساخات وساخة والصحفيون يدخلون الى بيت ضامن حسن ولا يخرجون منه حتى اول الليل، يتنفسون في داخله ويشربون الشاي ويصرخون بأسئلة لم يعتد عليها سيد الفن كما سمته مجلة الفن البراق
ــ ماذا ترى في ملامح الجيل الحاضر من الرسامين ؟
ــ ارى كما ترون عيونا وشوارب وشعورا طويلة فقط.
ــ ما رأيك بما يرسمون؟
ــ اخبرني عن لون ثيابهم وما اذا كانت لديهم فرشاة اسنان اقل لك من هم.
ومثل اية موضة جديدة انقلب الحال في بيوت الفن، حيث جيء بالجرذان الموجودة داخل البيوت وتلطخت كل جدران الغرف بالسوائل والدماء والطين، ولم يعد من احد يستعمل سيفون التواليت وليس من حاجة الى التبول في المكان المناسب، فذلك ما يجعل البيت اعمق في قذارته من بيت الفنان ضامن حسن، الذي انتخب رئيسا دائما لجمعية الفنون الجميلة وبات اسمه وتوقيعه على اوتوجراف البنات. القذارات نعمة من السماء بل ان يسرية مراد الرسامة الناشئة المثيرة وافقت توا على اهداء فنانها المحبوب كل شيء متى يشاء، وانها الى جانب ذلك على اتم استعداد للعيش في بيته، ربما مثل خادمة تساعده على توسيخ البيت بعد ان اخذ الجميع يتسابقون الى ذلك بل ويجهدون في ايجاد وسيلة معاصرة لجعل البيوت تنفث رائحة موجعة ليلا ونهارا.
ولم يزد تدخل امانة العاصمة في تنظيف البيوت والشوارع الا عنادا وتصميما من الرسامين على تصعيد عمليات التوسيخ اذ خرجت يسريه مراد باشارة من سيدها الكبير في مظاهرة مسلحة بالورد والتفاح والنرجس لضرب كل من تسول له نفسه ان يوقف بناء مستقبل الفن التشكيلي الذي بدأ لتوه وليست تلك سوى البداية فقد جاء ضامن حسن الى الجمعية التي يرأسها وقال بالحرف اعطوني سجلات المعارض ينبغي حذف بضعة اسماء منها، فقد تأكد لي ان ثمة حفنة من المندسين تحاول ان تثبط من نشاطنا، وعلنا ان نوقف من هجمات اللون الوردي والاخضر والحنطي، فقد علمت الليلة ان مؤامرة حمقاء تحاك ضدنا في الخفاء.
ربما كان ذلك وحده ما جعل الجمعية أفقر من بيت المال، اذ ان كل رساميها تقريباً لا يعرفون بديلاً لتلك الالوان، كما لم يستطع احد منهم ان يحمل الطين والوساخات او يجرح رسغيه عمداً ليرسم بالدم، وتلك حملة ادعاء يفهمونها وقد يتآلفون على التصفيق لها، بيد ان ما هو طبيعي وحقيقي في الوقت نفسه يؤكد ان قتل النفس والتباهي بتلك الطرق الغبية لهو امر سيء وداعر.
وانتبه الاعضاء الى ان سيد الفن بات يحارب اقرانه علناً، بمزيد من التشديدات والاوامر شبه الرسمية، مما جعل البعض يعلن استقالته من الفن وليس من الجمعية وحدها اذ ان جائزة دولية تمنحها اسبانيا لهكذا طرطور عجوز بحجة الفن لا نريدها ولا نطمع فيها حسبما جاء في النقاش المتوتر الذي اقامه الاصدقاء في مقهى المحلة بغية الحد من المهاترات والتناقضات التي وقعت فيها الجمعية.
لكن شيئاً لم يتبدل في عرض وطول الجمعية، مما جعل ضامن حسن ويسرية مراد ينفردان وحدهما في ممراتها التي اصبحت بين ليلة واخرى بيتاً اخر تسكنه الجرذان وتلعب في مسالكه روائح البيض الفاسد والثوم وبقايا البطيخ وبضعة أكوام لا احد يعرف ما تحويه، سوى ان القشور الظاهرة منها تدل على البطاطا والباذنجان المحروق.
والى جانب الزيت والقشور والسكين الملطخ بالدم، كانت ثمة جثتان ملتصقتان متداخلتان تماماً على هيأة تمثال مهمل.