عبدالله البقالي - من ذاكرة " مدرسة غفساي المركزية" أو ما يعرف اليوم " بمدرسة المسيرة" .. أسماء في سطور 3

الأستاذ محمد الأخضري
مر بمدرسة غفساي المركزية في فترة الستينيات مجموعة من الأساتذة المتميزين تركوا بصماتهم بشكل ما. تلك البصمات التي تراوحت ما بين الانطباع الذي خلفه مظهرهم الخارجي، و أستحضر هنا كمثال الأستاذ " الصاب" أو الأستاذ " العربي المسناوي" أو من خلال أسلوب عملهم كالأستاذ" عبدالله الراشدي" و الأستاذ الكتامي و سي عبود الذين لم أتشرف بالتتلمذ على أياديهم. و في هذه الحلقة أستحضر أستاذا صنع تميزا على مستويات شتى. و ظل حضوره متواصلا حتى بعد انقضاء تلك الفترة بوقت طويل.
الأستاذ محمد الأخضري
.تركيبة عجيبة غريبة قد حوت كل المتناقضات. و لإن كان التناقض يعتبر مشكلا أو عائقا يحول دون وضوح الرؤية، فمثال الرجل يبرز و بمنتهى الوضوح أن التناقض هو أيضا دليل حياة.
الأستاذ الأخضري هو من خريجي القرويين. يحفظ القرآن عن ظهر قلب. وملم بكل الشروح و التفاسير. وهو ضليع في اللغة العربية و له مرفقات متصلة بقواعدها و طرائفها. إلا أنه مثل مع كل هذا نموذجا مختلفا عن كل الخريجين. فهو يدخن.و له جنوح فطري لعشق الحياة و التفاعل مع ما تتيحه من بهجة. وهو منفتح عن قضايا العصر. لكن الأكثر أهمية من كل هذا هو أنه عن طريقه تمت أولى المصافحات الاجيال التي تعاقبت على فصوله مع الفكر الإشتراكي.
الأستاذ الأخضري هو ابن المنطقة. متوقد الذهن. يحسن قراءة خلفيات تلاميذه الاجتماعية. و لأن تلاميذ القسم الخامس عادة ما يكونوا قد بلغوا مرحلة متقدمة من النضج، فهو في علاقته بهم قد نصب نفسه في موقع المحاور على عكس باقي الأساتذة الذين اصروا على التمسك بموقع الوصي.
لم يكن يرقه مشهد المدير وهو يجلد التلاميذ وسط الساحة نتيجة بلاغ كان يقدمه عادة أعضاء تعاونية المدرسة، و الذي كان يهم ما يعتبر تجاوزات ارتكبها التلاميذ خارج أوقات الدراسة كارتياد المقاهي او لعب الكرة في الطريق.
أذكر أن الأستاذ الأخضري لاحظ مرة أن محفظة أحد التلاميذ كانت منتفخة بشكل مبالغ فيه. و حين فتحها، وجدها ممتلئة بأقساط من خبز المطعم( الكومير) . و فتح تحقيقا اسنتج في نهايته أن هناك تلاميذ يقومون بإنجاز تمارين و فروض منزلية اصالح تلاميذ آخرين، أو يقومون بتسهيل عمليات الغش و النقل في الامتحانات مقابل حصصهم من خبز المطعم.
نظر الأستاذ إلى التلاميذ الذين سلبت منهم حصصهم و احتار في كيفية التعامل معهم. اعتبر في البدء أن حرمانهم من ذلك الخبز كان عقابا كافيا. لكنه تبين له فيما بعد أن المشكل هو أكبر من شكله الظاهر. و بعدها قال بأسى : الخطأ ليس خطؤكم، لكنه سيصير كذلك بعد حين.
شعر الأستلذ الأخضري من خلال النظرات المستفهمة و كأن كلامه بلا معنى.و بعدها اضاف : لو كنتم تعيشون في مجتمع يحتره فيه مواطنوه، ما كنتم لتجلدوا وسط الساحة. و لا كنتم تأتون لتهثين من أطراف الدنيا كي تتكالبوا على باب المطبخ. أفضل من هذا الخبز كان سيأتيكم إلى بيوتكم.
فغر الأطفال أفواههم و تبادلوا النظرات غير مصدقين ما يسمعونه. كيف سيأتي الخبز إلى بيوتهم؟ من سيحمله؟ من سيؤدي ثمنه؟ ماذا أصاب المعلم؟
ربما أحس الأستاذ الأخضري أنه تورط و كان لزاما أن ينفي عليه صفة الهبل. و لذلك قال: ما قلته ليس خيالا. بل هو حقيقة تعيشها مجتمعات كثيرة كانت افقر منك. هل تعرفون كناس الشارع؟ لو كان يعيش في واحد من هذه المجتمعات، فإنه كان سيحصل على نفس أجر الطبيب.
انفحر التلاميذ ضاحكين و شعر الأستاذ أن موقغه ازداد حرجا. و الحقيقة أنه كان يصعب تصديق الوضع. كناس الشارع بهيأته الرثةو رائحة العفونة التي تصدر منه، يتساوى مع الطبيب الذي لم يشاهد يوما يمشي على قدميه. و دائما يتحرك بسيارته السوداء الفارهة وهو يضع في فمه غليونا يشبه شكل لحيته. معقول؟
قال الأستاذ: سأوضح لكن السر. ذلك المجتمع بني على أساس الا فرق بين مواطنيه ، لا في الحقوق و لا في الأرزاق. فإن كان الطبيب يهتم بصحة المجتمع، فالكناس يهتم بنظافته. و لذلك كان عملهما متكاملا و أجرهما متساويا.
تصايح التلاميذ: أين يحدث هذا؟
_ في المجتمع الاشتراكي.
_ و لماذا لا نقيم مثله؟
_ هذا يتوقف على رغبتكم يوم تصبحون رجالا.
أستعيد أني كنت أكثر التلاميذ حماسا و تفاعلا بخصوص هذا الأمر. حتى أني ركضت بكل قواي إلى البيت بعد الحصة لأبلغ الهالم هءا الجديد الذي امتلكني. و حين وصلت البيت. دفعة الباب بقوة فرأيت أمي رفقة بعض الجارات متحلقات حول الفرن. و من البعيد صرخت مخاطبا أمي: أبشري. لن تدوم تعاستنا طويلا.
النسوة نظرن الي مستغربات وقالت إحداهن: أعثرت على كنز؟
أومأت برأسي نافيا و أضفت : تعرفن الاشتراكية؟ سمعتن بها؟
ازداد دهشة النسوةو قلن: لا عرفناها و لا سمعنا بها.
اقتربت منهن وقلت مشيرا للفرن: الاشتراكية هي ان نهدم هذا الفرن. لأننا لن نصير في حاجة اليه. و لأن الخبز آه لو تعرفن أي خبز...! إلى هنا سيأتي. و هذه الأسوار الماصدعة لن تخيفنا. لأنه لن يعود هناك أناس يعتمدن السرقة من أجل إطعام أبنائهم.
قالت أمي: لكن كيف سيأتي الخبز إلى هنا؟
إنه نفس السؤال المحير الذي لم أستوعب جوابا عنه. ليت الأستلذ الأخضري كان حاضرا.
حين هممت بالمغادرة، قالت امي: من أين لك بهذه الأفكار؟
اعتقدت أن ذكر الأستاذ الأخضري كان كافيا بإقناعها بجدية الأمر. لكنها قالت محتجة : أبلغ أستاذك بأن عليه أن يعجل بزيارة " سبدي علي بوسرغين " أو يهرول إلى"برشيد" لعله يتعافى مما هو فيه.
صعقت الأرض بقظمي و أنا أصرخ: و لكنه المعلم.
أنذاك أمسكت بخناقي و قال وهي تغلي غضبا : أرأيت أحدا يقتحم بيتنا و يطوف غرفه و يختلر ما يروقه من أشياء ليمضي بها دون أدنى اعتبار لنا؟ هل شاهدت أحدا يقف في الطرقات لدى عودة القطعان من البراري و يختار ما شاء من أكباش أو ثيران و يمضي بها دون أدنى اعتبار لأصحابها ؟ أأيقظك أحد في ليل مطير و أبلغك بإن تحمل رسالة إلى مكان بعيد، و تعود قبل مطلع الفجر محملا بالجواب؟ إبلغ الأستاذ الأخضري أننا عشنا كل هذا بل و أكثر. لذلك لا نرغب في خبز و لت غيره أكثر مما نطالب بأن نترك لنعيش بسلام من غير إزعاج.
لم أكن وفيا في نقل رد فعل امي اتجاه طرحات الأستاذ الأخضري. و أحسب أنه شعر بانحصار حماسي. لكنه حين استوفى الاستماع الجميع، قال: آباؤكم و أمهاتكم ينظرون للحاضر بعيون الماضي. أما أنتم فعليكم أن تنظروا للحاضر بعيون المستقبل. و حينها ستدركون أنكم لم تعوا سوى جانبا بسيطا من حرمان شامل.
بدت العبارات مرة أخرى مغرقة في الإبهام. و حاولت تجسيدها بطريقتي. و قلت في نفسي علي الذهاب الى فاس كي اطل منها على غفساي.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى