قلت لكلكامش.. أيها السيد العظيم.. هل تعلم إن كل ما حدث على الأرض كان بسببك؟
انتصب واقفا وقفته وراح يرمقني بنظرةٍ حادةٍ كتلك النظرة التي تمكن من خلالها من صيد البراري.. النظرة التي جعلته يرى كل شيء في مملكته.. ولأنه مسكونٌ بالعظَمة، لم ينتبه الى حديثي .. فرفع يده الى الأعلى وراح يلوح للآخرين الهاتفين باسمه.. لكني وقبل أن يلقي خطبته على الناس أعدت قولي عليه: سيدي العظيم: إنك أول من اخترع الطغيان في البلاد.. وأول من منح الخلود جهدا لا يدانى إلا من خلال المعارك والصراع.. وأن يكون ثلثاك إله فتلك قيمة كان بالإمكان ان تمنحها خصيصة التكوين.. لكنك اخترت فعل الرذيلة ليكون الخلود مغمساً بالدم.
عاد لينظر لي ذات النظرة التي ارسلها الى عيني انكيدو في لحظة الصراع معه لينتصر.
كنت أرى كلكامش من بعيد.. أحاول أن أقرأ التاريخ.. أن أسبر غوره.. كل ما أريد أن أعرفه هو الحقيقة لأني أعتقد إن التأريخ رجلٌ أعور وصاحب فتنة.. هكذا كتبت مرة على مذكرات باحثٍ حاول تزييف حقيقة طاغية من طغاة العصر بعد الألفية الثالثة.. فكيف بنا ونحن نقرأ التاريخ في الألفية الثالثة قبل الميلاد.. حتى إذا ما دخلت مدينة أوروك.. كنت أشبه بتائهٍ يبحث عن آهته قبل أن تحترق في أتون الخلود.. أبحث عن عشبة لا تشبه عشبته.. وسيدوري التي التقيتها في الطريق أعلمتني وهي تغلق حانتها:إن لا تمنح لمن له جسد إنسانٍ كامل.. ثم قالت: إذهب الى وادي الجنوب وأدخل سبعةَ حروبٍ وتصيبك سبعةُ جروحٍ، وحين يخرج منك الدم دع الأسد الذي يقف على باب الغارة يشرب منك ليتحول نصف جسدك الى آلهة.. لأنها تستطيع أن تتحدث مع كلكامش. لم أصدق ما أخبرتني به سيدوري.. قلت أن العظمة ليس لها بابٌ سوى أن تجعل الآخر يؤمن إنك إله.. فالسماء واحدة والرحلة قد تبدو مجرد حلمٍ يقصه الطغاة دائما ليحيكوا لواقعهم دلالة العظمة.. تحركت في اتجاهات عديدة أسبر غور آثار كلكامش، متمنياً ألا أجد أنكيدو لأنه لا يمثل طموحي في الكشف عن دلالات الانتصارات التي لا تكون إلا على من يموت.. أعمار الطغاة تطول بقدر أعداد موتاهم في الحروب .. كان كلكامش يبحث عن فرصةٍ لكي أختفي من أمامه.. لكني وأمام رعاياه والناس من ضحاياه واصلت الحوار العلني ومن يود الاستماع فليأتِ الى ديوان الحكماء في مكتبة آشور بانيبال.. هناك سنحدد أفعاله ونقارنها بما فعله الطغاة الآخرون على مر العصور.. سحبني من يدي.. فسقطت مجموعة من الكتب والقراطيس والملفوفات من يدي ومن المنضدة التي كنت أقف أمامها.. وقال بصوت هامس: لا تهتم بهذه الكلمات.. أنا لم أكن حاكماً غير عادلٍ بل كنت أسعى لإسعاد الناس والرعية ، فهم يجدون في أفعالي فرحهم المؤجل.. فهل تريدني ألا أكون مساوياً لهتافاتهم لحياتي؟ لذلك كنت أبحث عن الخلود لأبقى.. قلت: لا يهم يا كلكامش.. دعني أكمل.. فالتاريخ ليس مجرد كلمات.. ولكنك خائفٌ.. كشر عن أنيابه وراح يصرخ في وجهي، فطارت من جوف الغابة كل الحيوانات الهاربة فيما هاج البحر من فورة الحيتان وراح الشجر يهتز بتشابك الأغصان، هارباً من نار اشتعلت من صوته.. أنا لست بخائفٍ.. أنا الخالد الذي تراني الآن.. ولولا خلودي لما قرأتني.. أنا أختلف عن الآخرين.. كنت أمنح العذرية خلوداً لكي يبقى شعبي خالداً ومنتصراً.. ولما كان كل أصحاب الديانات التي جاءت من بعدي قد ابتدعوا أقوالاً تصب في روح العذرية التي تهتك بتضاريس السماء تارة أو حاجةٍ لإذابة العقل.. أنا العظيم الذي رأى ما لم يره الآخرون؟ قلت له: طيب يا كلكامش.. إهدأ وقل لي لماذا لم تكن محبوباً من شعبك..؟ وحين وجدته يبحث عن قولٍ أثبت فيه حجتي .. أخرجت له أحد الالواح من الألواح 11 التي وجدت في المكتبة العظيمة في نينوى.. وقلت له: هذا ما ذكر في الألواح التي عليها توقيع شين ئيقي ئونيني وهو كاتب قصتك ومدونها وهي التي جعلتك خالداً لا أفعالك.. تناول مني اللوح وراح يقرأ.. فوجدت اتساع عينيه وقد أصابتهما الدهشة التي عقدت حتى لسانه فقال جملاً مرتبكة.. ثم سرعان ما راح يتحدث بشيء من الصلابة هو يتحرك وسط الساحة الفارغة من القاعة.. ميمماً كلامه شطر الجدار الشمالي.. حتى إذا ما عدل خصلات شعره ومسح وجهه الدائري الجميل.. قال: لا يمكن أن يكون كل الحب الذي كنت أراه كراهية بعد حين.. أنا الملك الذي صيرته أمه إله.. فكيف لي أن أكون طاغيا؟ وقفت أمامه طالباً من الجميع الصمت والهدوء.. أنك كنت تستخدم فحولتك وقوتك وما منحته إياك الآلهة لبث شذوذك..حتى صار الناس من بعدك سليلي اغتصاب، ولتكن السلطة من قوة الخوف والرهبة.. أطلق ضحكةً ودار حول نفسه حتى انبعث من تحت قدميه الغبار .. فطارت الفراشات الهاجعة في سلال الورد الموضوعة في قاعة المكتبة.. وسمعته يقول: أنا من كلفتني الآلهة يا صديقي.. أنا لا أفعل شيئاً دون مشورة الآلهة وما تأمرني به.. لذلك أنا أستأذنها في فكل مرةٍ أدخل فيها على عروس..أنتم تسمونها فضّ بكارة واغتصابا وطغيانا وجبروتا ،وأنا أسميها منح الخلود للآلهة.. الآلهة يا صديقي الحديث تحتاج الى قرابين من جهةٍ، مثلما تحتاج المملكة الى نسل.. وحتى لا يكون هناك عقمٌ في شعب أوروك أكون أول من يلقّح الأنثى.. كان كلكامش يتحرك وهو يحاول إثبات علو كعبة في ما كان يفعله.. فيما كان الحضور يزداد في القاعة حتى لكأن المدينة كلها اجتمعت هنا من كل بقاع الأرض.. كان صوت كلكامش حين يخرج من القاعة يشبه عاصفة تسير بخطوط مستقيمة في كل الاتجاهات فتنجذب الاسماع الى رناته حتى لكأن السماء وحدها مصدر الصدى.. وحين رآني أريد مقاطعته سارع الى القول: حين أنكح الأنثى العروس فإن ذلك معناه أني أغرس في رحمها سلالة الآلهة وجينات سماوية.. حينها صرخت بوجهه، منبهاً من الجميع ألا يحدث جلبة في القاعة وأن يكون هناك مسؤول يجعل الناس في الخارج مستمعين الى أقوال كلكامش.. أشرت إليه ان يكون أكثر هدوءاً .. لأقرأ له ما كتبه كاتب ملحمته.. فوقف في وسط القاعة .. كان مغروراً بحسن خلقته.. يعدل بين الحين والآخر خصلات شعره.. وحين قرأت له -
انه راعينا : قوي وجميل وحكيم
لم يترك كلكامش عذراء لحبيبها
ولا ابنة المقاتل ولا خطيبة البطل
أطلق ضحكته من جديد فاهتزت أركان القاعة.. وتحركت الكتب من رفوفها.. فيما ارتعدت الحسناوات من خوفهن.. فيما تنابزت بعضهن وهن يشرن الى عضلات جسده الفاتن.. وكأنه يرتقي مكاناً علياً.. فيما كان الرجال صامتون كأن الخوف يهزهم ويثبت أقدامهم.. حين رفع ذراعه وصلت الى السقف قال.. ألم أقل لك أني مخول من السماء.
حين صرخت به.. وأنا أضرب بإضمامة كفي على المنضدة.. كانوا في حالة صمت .. حتى إذا طارت ذبابة في المكان سيسمع الجميع حركة أجنحتها.. ونزلت من مكاني.. لأدفع بكلكامش الى الجلوس على الأرض.. فكانت قامته أطول من وقوفي.. ورحت أخاطب الناس: ألا وأنك كنت تستغل السماء.. وتتكلم باسمها فانك أول من سنّ سنةً سيئةً في التأريخ.. أول من جعلت من جاءوا بعدك يتحكمون بعقول الناس ويقولون لهم نحن الأقرب الى الله منكم.. نحن لا نتكلم إلا باسم الله.. فكانت الحروب وكانت الفضائح وكان الفساد.. حتى لكأن الارض لم تهدأ.. ألا وأنك كنت أول ندمٍ في البشرية.. وجعلت أوروك أول مهبط لكلام السماء.. فان البشرية التي تحدث عنها كاتب ملحمتك في الرقيم العاشر منها ( عندما كوّن الآلهة البشر خصوا هذه البشرية بالموت وحفظوا الحياة بين أيديهم).. ولهذا فأن العقوبة التي يمكن ان تستحقها الآن هي ما يختاره الناس الذين كانوا ضحية من استغل السماء.. وحين التفتّ الى الذين حولي.. كانوا أكثر مما توقعت وحين أمرت بفتح الباب لم أجد في الأفق مجالاً .. كأن الناس يأتون من كل قاعٍ سليبٍ ومن كل مرتفعٍ غريبٍ.. حتى إذا ما صاح أحدهم .. إن كلكامش كان الأقرب الى السماء وهتف باسمه فتصاعد الصوت حتى كأن السماء تعيد الصدى فيرتطم الكلام بالكتب وتتقلب الأوراق وتصفر وتلتحم الكلمات بين الأسطر فيما تبدو الرقيمات بألواحها وكأنها رسائل مشفرة.. حينها عرفت أن السماء لن تنتهي من موتها مادامت الحياة قد حفظت بجناحي صداها.........
انتصب واقفا وقفته وراح يرمقني بنظرةٍ حادةٍ كتلك النظرة التي تمكن من خلالها من صيد البراري.. النظرة التي جعلته يرى كل شيء في مملكته.. ولأنه مسكونٌ بالعظَمة، لم ينتبه الى حديثي .. فرفع يده الى الأعلى وراح يلوح للآخرين الهاتفين باسمه.. لكني وقبل أن يلقي خطبته على الناس أعدت قولي عليه: سيدي العظيم: إنك أول من اخترع الطغيان في البلاد.. وأول من منح الخلود جهدا لا يدانى إلا من خلال المعارك والصراع.. وأن يكون ثلثاك إله فتلك قيمة كان بالإمكان ان تمنحها خصيصة التكوين.. لكنك اخترت فعل الرذيلة ليكون الخلود مغمساً بالدم.
عاد لينظر لي ذات النظرة التي ارسلها الى عيني انكيدو في لحظة الصراع معه لينتصر.
كنت أرى كلكامش من بعيد.. أحاول أن أقرأ التاريخ.. أن أسبر غوره.. كل ما أريد أن أعرفه هو الحقيقة لأني أعتقد إن التأريخ رجلٌ أعور وصاحب فتنة.. هكذا كتبت مرة على مذكرات باحثٍ حاول تزييف حقيقة طاغية من طغاة العصر بعد الألفية الثالثة.. فكيف بنا ونحن نقرأ التاريخ في الألفية الثالثة قبل الميلاد.. حتى إذا ما دخلت مدينة أوروك.. كنت أشبه بتائهٍ يبحث عن آهته قبل أن تحترق في أتون الخلود.. أبحث عن عشبة لا تشبه عشبته.. وسيدوري التي التقيتها في الطريق أعلمتني وهي تغلق حانتها:إن لا تمنح لمن له جسد إنسانٍ كامل.. ثم قالت: إذهب الى وادي الجنوب وأدخل سبعةَ حروبٍ وتصيبك سبعةُ جروحٍ، وحين يخرج منك الدم دع الأسد الذي يقف على باب الغارة يشرب منك ليتحول نصف جسدك الى آلهة.. لأنها تستطيع أن تتحدث مع كلكامش. لم أصدق ما أخبرتني به سيدوري.. قلت أن العظمة ليس لها بابٌ سوى أن تجعل الآخر يؤمن إنك إله.. فالسماء واحدة والرحلة قد تبدو مجرد حلمٍ يقصه الطغاة دائما ليحيكوا لواقعهم دلالة العظمة.. تحركت في اتجاهات عديدة أسبر غور آثار كلكامش، متمنياً ألا أجد أنكيدو لأنه لا يمثل طموحي في الكشف عن دلالات الانتصارات التي لا تكون إلا على من يموت.. أعمار الطغاة تطول بقدر أعداد موتاهم في الحروب .. كان كلكامش يبحث عن فرصةٍ لكي أختفي من أمامه.. لكني وأمام رعاياه والناس من ضحاياه واصلت الحوار العلني ومن يود الاستماع فليأتِ الى ديوان الحكماء في مكتبة آشور بانيبال.. هناك سنحدد أفعاله ونقارنها بما فعله الطغاة الآخرون على مر العصور.. سحبني من يدي.. فسقطت مجموعة من الكتب والقراطيس والملفوفات من يدي ومن المنضدة التي كنت أقف أمامها.. وقال بصوت هامس: لا تهتم بهذه الكلمات.. أنا لم أكن حاكماً غير عادلٍ بل كنت أسعى لإسعاد الناس والرعية ، فهم يجدون في أفعالي فرحهم المؤجل.. فهل تريدني ألا أكون مساوياً لهتافاتهم لحياتي؟ لذلك كنت أبحث عن الخلود لأبقى.. قلت: لا يهم يا كلكامش.. دعني أكمل.. فالتاريخ ليس مجرد كلمات.. ولكنك خائفٌ.. كشر عن أنيابه وراح يصرخ في وجهي، فطارت من جوف الغابة كل الحيوانات الهاربة فيما هاج البحر من فورة الحيتان وراح الشجر يهتز بتشابك الأغصان، هارباً من نار اشتعلت من صوته.. أنا لست بخائفٍ.. أنا الخالد الذي تراني الآن.. ولولا خلودي لما قرأتني.. أنا أختلف عن الآخرين.. كنت أمنح العذرية خلوداً لكي يبقى شعبي خالداً ومنتصراً.. ولما كان كل أصحاب الديانات التي جاءت من بعدي قد ابتدعوا أقوالاً تصب في روح العذرية التي تهتك بتضاريس السماء تارة أو حاجةٍ لإذابة العقل.. أنا العظيم الذي رأى ما لم يره الآخرون؟ قلت له: طيب يا كلكامش.. إهدأ وقل لي لماذا لم تكن محبوباً من شعبك..؟ وحين وجدته يبحث عن قولٍ أثبت فيه حجتي .. أخرجت له أحد الالواح من الألواح 11 التي وجدت في المكتبة العظيمة في نينوى.. وقلت له: هذا ما ذكر في الألواح التي عليها توقيع شين ئيقي ئونيني وهو كاتب قصتك ومدونها وهي التي جعلتك خالداً لا أفعالك.. تناول مني اللوح وراح يقرأ.. فوجدت اتساع عينيه وقد أصابتهما الدهشة التي عقدت حتى لسانه فقال جملاً مرتبكة.. ثم سرعان ما راح يتحدث بشيء من الصلابة هو يتحرك وسط الساحة الفارغة من القاعة.. ميمماً كلامه شطر الجدار الشمالي.. حتى إذا ما عدل خصلات شعره ومسح وجهه الدائري الجميل.. قال: لا يمكن أن يكون كل الحب الذي كنت أراه كراهية بعد حين.. أنا الملك الذي صيرته أمه إله.. فكيف لي أن أكون طاغيا؟ وقفت أمامه طالباً من الجميع الصمت والهدوء.. أنك كنت تستخدم فحولتك وقوتك وما منحته إياك الآلهة لبث شذوذك..حتى صار الناس من بعدك سليلي اغتصاب، ولتكن السلطة من قوة الخوف والرهبة.. أطلق ضحكةً ودار حول نفسه حتى انبعث من تحت قدميه الغبار .. فطارت الفراشات الهاجعة في سلال الورد الموضوعة في قاعة المكتبة.. وسمعته يقول: أنا من كلفتني الآلهة يا صديقي.. أنا لا أفعل شيئاً دون مشورة الآلهة وما تأمرني به.. لذلك أنا أستأذنها في فكل مرةٍ أدخل فيها على عروس..أنتم تسمونها فضّ بكارة واغتصابا وطغيانا وجبروتا ،وأنا أسميها منح الخلود للآلهة.. الآلهة يا صديقي الحديث تحتاج الى قرابين من جهةٍ، مثلما تحتاج المملكة الى نسل.. وحتى لا يكون هناك عقمٌ في شعب أوروك أكون أول من يلقّح الأنثى.. كان كلكامش يتحرك وهو يحاول إثبات علو كعبة في ما كان يفعله.. فيما كان الحضور يزداد في القاعة حتى لكأن المدينة كلها اجتمعت هنا من كل بقاع الأرض.. كان صوت كلكامش حين يخرج من القاعة يشبه عاصفة تسير بخطوط مستقيمة في كل الاتجاهات فتنجذب الاسماع الى رناته حتى لكأن السماء وحدها مصدر الصدى.. وحين رآني أريد مقاطعته سارع الى القول: حين أنكح الأنثى العروس فإن ذلك معناه أني أغرس في رحمها سلالة الآلهة وجينات سماوية.. حينها صرخت بوجهه، منبهاً من الجميع ألا يحدث جلبة في القاعة وأن يكون هناك مسؤول يجعل الناس في الخارج مستمعين الى أقوال كلكامش.. أشرت إليه ان يكون أكثر هدوءاً .. لأقرأ له ما كتبه كاتب ملحمته.. فوقف في وسط القاعة .. كان مغروراً بحسن خلقته.. يعدل بين الحين والآخر خصلات شعره.. وحين قرأت له -
انه راعينا : قوي وجميل وحكيم
لم يترك كلكامش عذراء لحبيبها
ولا ابنة المقاتل ولا خطيبة البطل
أطلق ضحكته من جديد فاهتزت أركان القاعة.. وتحركت الكتب من رفوفها.. فيما ارتعدت الحسناوات من خوفهن.. فيما تنابزت بعضهن وهن يشرن الى عضلات جسده الفاتن.. وكأنه يرتقي مكاناً علياً.. فيما كان الرجال صامتون كأن الخوف يهزهم ويثبت أقدامهم.. حين رفع ذراعه وصلت الى السقف قال.. ألم أقل لك أني مخول من السماء.
حين صرخت به.. وأنا أضرب بإضمامة كفي على المنضدة.. كانوا في حالة صمت .. حتى إذا طارت ذبابة في المكان سيسمع الجميع حركة أجنحتها.. ونزلت من مكاني.. لأدفع بكلكامش الى الجلوس على الأرض.. فكانت قامته أطول من وقوفي.. ورحت أخاطب الناس: ألا وأنك كنت تستغل السماء.. وتتكلم باسمها فانك أول من سنّ سنةً سيئةً في التأريخ.. أول من جعلت من جاءوا بعدك يتحكمون بعقول الناس ويقولون لهم نحن الأقرب الى الله منكم.. نحن لا نتكلم إلا باسم الله.. فكانت الحروب وكانت الفضائح وكان الفساد.. حتى لكأن الارض لم تهدأ.. ألا وأنك كنت أول ندمٍ في البشرية.. وجعلت أوروك أول مهبط لكلام السماء.. فان البشرية التي تحدث عنها كاتب ملحمتك في الرقيم العاشر منها ( عندما كوّن الآلهة البشر خصوا هذه البشرية بالموت وحفظوا الحياة بين أيديهم).. ولهذا فأن العقوبة التي يمكن ان تستحقها الآن هي ما يختاره الناس الذين كانوا ضحية من استغل السماء.. وحين التفتّ الى الذين حولي.. كانوا أكثر مما توقعت وحين أمرت بفتح الباب لم أجد في الأفق مجالاً .. كأن الناس يأتون من كل قاعٍ سليبٍ ومن كل مرتفعٍ غريبٍ.. حتى إذا ما صاح أحدهم .. إن كلكامش كان الأقرب الى السماء وهتف باسمه فتصاعد الصوت حتى كأن السماء تعيد الصدى فيرتطم الكلام بالكتب وتتقلب الأوراق وتصفر وتلتحم الكلمات بين الأسطر فيما تبدو الرقيمات بألواحها وكأنها رسائل مشفرة.. حينها عرفت أن السماء لن تنتهي من موتها مادامت الحياة قد حفظت بجناحي صداها.........