محمود الريماوي - صمتُ الحباري

ريماوي.jpg

فارَقَ هواية صيد العصافير الى غير رجعة قبل 47 عاماً، وظلّ ينتابه ندمٌ وتقريعٌ على اقترافه تلكم الهواية في طفولته، وشفاعته الوحيدة أمام نفسه أنه لم يوقِع عصفوراً واحداً في الفخ، وظلت الدودة (الطُعْم) حيّة تتثنى في كل مرة كأنما العصافير النطّاطة خفّاقة الأجنح، تدرك أن الصياد الصغير ليس جاداً في نواياه الشريرة،
ثم ... ثم وقعت بين يديه رواية حسنةُ السبك والحبك بعنوان "شامان" لشاكر نوري، واجتذبه الكتاب بما هو نشيدُ تعظيمٍ لكائن غير بشري، لسيّد الطيور: الصقر المُحلّق الذي قلّما يصمُد بشرٌ، أو طيرٌ بالتحديق في عينيه، ومَن تتحدث بأخباره وأطواره الكتُبُ والألسنة. وقد توقف عند إطراء الرواية لحم طير الحباري " اللذيذ "، وبالذات منطقة الصدر لهذا الطير الرمادي الذي تقنصه الصقور في أثناء تحليقها هي، وأسراب الحباري في أعالي السماء، كما على الأرض اليابسة حين يرقد الحباري، وهو بحجم دجاجة أو حمامة خلف الأشواك الجافة، يتخذ منها متراساً لاتقاء هجمة الصقر الباسل، وهذا ينجح في اقتناص ضحيته إذ يتفادى الشوك ويلتفّ عليه، ويُطبِق من الخلف بِجُرمه وجناحيه العظيمين على الحباري اللائذ بالنبات ذي الإبَر، وينهش بنَهمٍ واقتدار لحمه الدافىء الحيّ. ولئن نزف دمٌ غزير من الضحية أو صدرت عنها نفثات مكلومة، فلن يستوقف الدم الصيادين والفضوليين ولن تتناهى الأنفاس الى مسامع أحد، فمن طبائع الأمور ومنطق الأشياء أن ينهش الصقر طائراً حياً، وأن تنزف الضحية حتى النهاية فيما هي تتشظى، وتؤكل قطعةً قطعة في كنَف صمتٍ كوني.
بهذا تتعرض طيور الحباري لعقوبة قصوى، جعلتها على الدوام في مرمى مخالب الصقور الجارحة.
القارىء الذي يستهويه التقاط ما يمكنه التقاطه من فروقٍ بين الأشياء، تنبّه الى مكر الطبيعة إذ جعلت أعداد طيور الحبارى(وهي تُناظر طيور الفِرّي وفق تسمية بلاد الشام) في تزايدٍ مستمر، وأعداد الصقور في تناقص دائم، ولاحظ غير شامت أو مختال أن الدائرة سريعاً ما دارت وتدور في الفضاء وعلى الأرض، فدَأبَ صيادون صحراويون وريفيون مُحترفون على اقتناص الصقر.. يأسرونه ويطبّبونه ويروّضونه فيما هم يُمطرونه بالمدائح، ومعسول الكلام، وجُلُّهم يتخذه سلعة تُباع وتُشترى في الأسواق كالعاديّات.
قبل فروغه من قراءة رواية "شومان" المُتقنة، أفاق على اصطفاق أجنحة سربٍ من الحباري اندفعت من بين صفحات الكتاب، ولدهشته فقد اتسع فضاء غرفته لسبعةٍ منها بغير أن تتصادم، وتناثر منها ريشٌ ناعمٌ حوله، وأزكمت رائحتها أنفه وأعادت الى رأسه رائحة قِن دجاجات جَدّته ، وتناهت الى مسامعه سقسقات الحباري الخافتة، وبدا له أنه سمعها تناديه باسمه ( سامي ) وكما يصدح طير الببغاء المنزلي باسم صاحبه.
آنسَهُ الحشد والهرج رغم نُشدانه السكون والسكينة، ورغم رجفة أخذت بخافقه، وواصل مع السارد رحلة البحث المحموم عن الصقر شامان، ورأى القارىء في الأثناء أنه تحرر من جسمه الثقيل الزائد عن حاجته. وقبل أن يختفي السرب.. قبل أن تتبدّد الرائحة وتذرو ريحٌ عابرة خفيفَ الريش، رأى في وحدته أنه بجناحين يرافق بهما السرب رحلة الطيران من سقف الغرفة الى رحابة السماء.. هو من صادف في حياته المديدة وفي عديد البُلدان ما لا يحصى من صقور حانقة أسيرةَ حظائر طيور، ولم يكن حالها ليسُرّ الخاطر رغم ما تزهو به رؤوسها المتشامخة من مكابرة موصوفة. ومن دواعي أسفه أنه وهو يحوز وقتاً فائضاً عن حاجته لم ينضم لجمعية الرفق بالكائنات، فقد حظرت السلطات إنشاءها في المهد بداعي أن فكرتها تحِدّ من "الاستغلال المشروع لثروات الطبيعة "، فزاد افتتانه بالحباري الأليف، الطائر العادي بلون التراب الذي يواجه مصيره منفرداً بغير صخب، أو عويل، ولم يشغل القارىء باله ولم يشحذ أسلحة النقمة على السلطات، وهذه دأبت على اصطياد الناقمين عليها أولاً بأول.
في جلسته تلك ساعة العصر في ظاهر المدينة، وفي يومٍ صيفيٍ ليس عاديّاً في ميزان أيامه، تمنّى ثم صلّى بجُماع قلبه كي ينهض فارسٌ عارفٌ بلغة الطيور... يدرأ الضغائن بين الكائنات، ويرفع اللبس أمام أمّهات الحباري، فخلافاً للصقر العسكري الأشوس عدو الطيور الهامشية المسالمة، فقد افتُتن قارىءٌ مجهول بالحباري نَكِد الحظ، شهيد الضعف ونجمُ قائمة طعام موائد الأمراء.
افتتن به وما كان له إلا أن يمتثل، فقد استوقفته لدى خوضه في شعاب الرواية بطولة الصمت لدى الحباري الضعيف، فمنذ القِدَم تفترس الصقور الحباري بلا هوادة، ومنذ الأزل تصطدم الصقور بصخرة صمت الحباري اصطدام جلادين مولجين بتعذيب ضحاياهم بالصمت الحديدي لهؤلاء، حتى بدا هذا الطائر الغريب في مرآة نفسه المجلوّة قريناً له ونظيرا، وأن يد المشيئة لو اختارته وسوّته طائراً لا إنسياً، لخرج طيراً من طيور الحباري المهددة من الصقور المهددة من الصيادين المهددين بموتٍ محتوم. بيد أنه لم يكُ يوماً إلا محض إنسيّ، وها هو وقد اصطادت حرب الغزاة الوافدين من وراء البحار والجبال ساقه اليمنى وحشاشة قلبه، ها إنه يزفر أمنية أخيرة بأن يرزقه الرازق عِوضَ ساقه المبتورة جناحين عريضين خفّاقين، حتى لو صادفه ــــ وهو يُحلّق بهما ـــــ الصقر كامل الأوصاف شامان المتحرر من أسره الأرضي، والهائم على وجهه وكبده مُتتبّعاً ضحاياه بين السُّحُب العاليات السارحات. ها هو يشهق وينهض بعزم لملاقاة قَدَرِه، فلتحرسه ملائكة الإنس والطير ولا يقع أرضاً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى