انتصار بوراوى - نجوى بن شتوان و " صدفة جارية "

في مجموعتها القصصية السادسة "صدفة جارية " تمضي القاصة والروائية الليبية نجوى بن شتوان في الكتابة بأسلوبها المتفرد وببصمتها الخاصة التي تميزت بها في كتابة القصة القصيرة، حيث نسجت مجموعتها القصصية الجديدة التي حوت 33 قصة قصيرة بخبرة قاصة متمكنة، تطرز حرير السرد القصصي بتؤدة وهدوء وبأسلوب امتزج فيه الواقع مع الفانتازيا عبر اقتناص الحوادث اليومية وصنع قصص ممتلئة بالغرابة الملتحمة بالواقع الليبي.
في قصة "المواطن الذي سأل سؤالا وجوديا" يبدو صوت المتحدث بالقصة وكأنه يتحدث عن مولود حديث، ولد بأحدى قرى الجبل الاخضر ولكن سرعان ما نكتشف بأن المتحدث بصيغة ضمير الغائب ،هو جدى صغير يتحدث عن ولادته في القرية الجبلية الصغيرة ،وعن غرابة حياة القرويين بالقرية، ، ويفكر تفكيرا وجوديا في قدره الغير منصف الذى جعله ،يولد في بقعة مجنونة من العالم تمزقها الكراهية والحروب
.

في هذه المجموعة القصصية تتعدد وتتجدد الفانتازيا في كثير من القصص ولكن تبلغ الفانتازيا الليبية منتهاها في قصة بعنوان "صفقة رتيبة" التي تتحدث عن "فتحية" المرأة النازحة من مدينة تاورغاء التي تضطر للعمل كخادمة في إحدى الفيلات بمدينة بنغازي ، فتعتقد مجموعة إجرامية مختصة بسرقة المنازل بأنها صاحبة الفيلا التي تعمل بها، فتقوم العصابة بخطفها وطلب الفدية من زوجها الذى يخبرهم بأنها مجرد خادمة وليست مالكة الفيلا ،وتموت فتحية برصاصة طائشة وهى رهينة العصابة وقبل أن يقوموا برميها في مكب نفايات مستشفى1200 ، يعملون على تشريح جسدها فيجدون القلب متليف والمرارة ممتلئة صديد والمعدة يتقاسمها رز الصدقات والدقيق الأوكراني المشع والكبد محفورة فيه أغاني علم حزينة مؤلمة،وبسخرية مريرة تلتقط القاصة الحياة التعيسة لامرأة نازحة من تاورغاء هربا من بطش الحرب والانتقام بمدينتها ولكنها تنتهي نهاية تراجيدية ومأساوية في المدينة التي نزحت إليها.

أما في قصة "أولياء الله الطيارون
" فتلتقط القاصة حادثة المرأة التي أعتلت نافورة ميدان الغزالة فى مدينة طرابلس، صارخة ومولولة شاكية من الحكومة والساسة لحاجتها للسيولة الممنوعة عن الصرف بالمصارف الليبية ،وعدم قدرتها على إطعام أطفالها ولكن لم يأبه لصراخها أحد من الساسة ،ولم ينتبه لصراخ السيدة إلا الولي الصالح عبد السلام الاسمر الذى تعب من حل مشاكل الليبيين ،فيهرب هو أيضا من ليبيا بعد ان نبش الدو اعش قبره في سخرية ،أقرب للفانتازيا المتشابكة باللامعقول ولكنه الواقع الليبي تماما الذى فاق كل فانتازيا خيال أدباء الفانتازيا واللامعقول فى العالم .

في قصة "بيت القصيد" تتتبع القاصة مسير رصاصة طائشة انطلقت من رجل يعبث ببندقيته فتصيب الرصاصة الطائشة ،رأس والد شاعر معروف يلقى قصائده الغزلية في إحدى المهرجانات العربية، وفى هذه القصة تشير القاصة بروح قلمها القصصي الساخر إلى انفصام بعض الأدباء والمثقفين في ليبيا عن الواقع السياسي الصعب الذى تعيشه البلاد وهروبهم من ملامسة هذا الواقع عبر كتابتهم أو مواقفهم بالهروب إلى نوعية الشعر السطحي والهزيل ،الذى يتغزل بعيون واجساد النساء و تتلبس القاصة روح الرصاصة، وتحاورها وتتكلم على لسانها بسخرية مريرة وتحدق في وجوه أبناء الأب المصاب في المستشفى وتدخل إلى أفكارهم وعقولهم في صورة بانورامية ساخرة معبرة عن واقع العبث واللامعقول الليبي.

مدينة بنغازي أخذت حيز كبير من قصص المجموعة ربما لأن أغلب المجموعة القصصية كتبت خلال مرحلة الحرب ضد الإرهاب ببنغازي ففي قصة "موفد للإيفاد فقط " يغوص قلم القاصة في رسم لوحة بانورامية ،عن ملامح الحرب في بنغازي من خلال شخصية طالب موفد للدراسة بالخارج تصله أخبار الحرب ،وقطع الرؤوس من تنظيم الدولة في مدينة بنغازي ،والقذائف التي تتساقط ،على المدنيين المتظاهرين ضد التنظيمات الارهابية ،والأحياء السكنية المدمرة ،والمطارات والموانئ التي أغلقتها الحرب ونفاذ الغاز وطبخ الأهالي طعامهم على الحطب وقطع الكهرباء لأيام متتالية فيشرد ذهن الطالب الموفد للخارج من قاعة الدرس إلى التفكير بحال أمه وأخوته وأخواته في بيتهم تحت قصف أطراف الحرب في مدينته.
قصص المجموعة مهمومة بالشأن الليبي ،وبحالة البلاد السياسية والاقتصادية منذ سقوط نظام القذافي ودخول البلاد في صراعات سياسية ،وحروب متعددة في كثير من المدن الليبية وبعين دقيقة وفاحصة تلتقط القاصة ،الاحداث التي جرت في كثير من المدن الليبية وتشكلها في قصص وامضة ،لا تعتمد على السرد القصصي العادي بل تتلاعب بها وتسخر منها بمرارة ممزوجة بألم ،وتشاكسها بأسلوبها القصصي الساخر فيرى القارئ الأحداث وهى تتقافز أمامه بصورة فنتازيا وغرائبية مع أن أغلب القصص مستقاة من أحداث واقعية حدثت بالبلاد فعلا، و لكن القاصة عملت إسقاطات كثيرة على أحداثها في واقعها الليبي، الذى هو الشغل الشاغل لكل قصص المجموعة التي تبين مدى انهماك الروائية والقاصة نجوى بن شتوان في الالتصاق بقضايا وطنها وأحواله وأحداثه ،وإحساسها بالألم والمرارة التي تنضح من قصص المجموعة التي ارتدت أسلوب الكوميديا السوداء التي تعرى وتكشف مدى الخراب والانهيار في النفوس و بالوطن الذى يغلى فوق صفيح ساخن .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى