أصدر القاص أحمد بلكاسم مجموعته القصصية الثانية "الشيخ قارون" عن مطبعة الجسور في طبعتها الأولى سنة 2012 . والعنوان مستل من قلب العمل حيث إنه عنوان النص الأول فيها.
اختيار هذا العنوان ليكون مظلة النصوص يشي ببعده الساخر، فالقاص جمع فيه بين عنصرين متنافرين لكنهما متآلفين في جوف وقلب شخصية القصة الأولى. فالشيخ يرمز للبعد الديني الداعي للاعتدال والناصح بعد التكالب على الماديات، بخلاف الكلمة الثانية التي ترمز للبعد الدنيوي وحب الشهوات وجمع المال. وما جمع شخصيتنا للعنصرين إلا دليل على تهافتها وتهافت سلوكاتها، وبالتالي فهي غير جديرة بالخطابة، فالمنافق مجاله خارج المقدس.
القصة اعتمدت على الكشف والتعرية حيث وجدنا القاص يجند كل الوسائل لبلوغ هذا الهدف، إذ بنى نصه على المقابلة بين المظهر والجوهر لتعرية الخطيب وتبيان نفاقه الذي يتعارض مع توجهات الدين الإسلامي الحنيف.
شخصيات القصة ثلاث، السارد، وصديقه، والخطيب، أما المستمعين، فهم أشبه بالكورال هدفهم تشجيع فريق الخطيب بفعل غياب وعيهم نتيجة سحر قوله وحلاوة بيانه، وقدراته على استثمار السيرة النبوية لإخفاء ماديته.
وإذا استثنينا الصديق على اعتبار أنه ممثل المصلين الذين يرغب السارد في إيقاظهم، سنحصل على شخصيتين متعارضتين؛ شخصية الشيخ الذي يؤدي وظيفة إديولوجية تتمثل في تغييب وعي الناس حتى لا يطالبوا بحقهم في متع الحياة، معتمدا الدين وسيلة وغاية، وشخصية السارد الذي سيعمل على تعرية الشيخ وتبيان نفاقه، سارد يعاني الفقر والعوز كباقي المصلين، بدليل دراجته المهترئة بخلاف سيارة الشيخ الفارهة، الدالة على امتلاكه كل أسباب الرفاهية والعيش الرغيد.
وإذا كنا لا نعرف اسم السارد في هذا النص، فإن قصة "الأب العجوز" ص17، ستمنحنا إياه؛ إنه أحمد، لكنه ليس أحمد القاص من لحم ودم، بل أحمد السارد من حبر وورق، يمثل الأول، لكنه يبقى شخصية متخيلة مفارقة له؛ وهو نفسه شخصية قصة "اختراع" ص13، وقصة "المتسول" ص23، وقصة "الحلاق" ص37، وقصص أخرى حيث حضور ضمير المتكلم المعبر عن دواخل الشخصية، والشاهد على صدقية الأحداث.
شخصيته تتميز بالنبل والطهارة، وتبتعد عن المحرمات، فحين يتفق الأصدقاء بعد نقاش طويل على شراء الخمرة، ويتقاسمون كؤوسها بينهم، نجد أحمد مبتعدا عن شربها، فهي حرام كما قال بذلك عبد العزيز وقد استبدت به بعبارة تشي بالمفارقة: الأب العجوز ح ح ح حراااام ص22، فكيف يقبل على الحرام من يرتاد المسجد، وقلبه ملاك؟
وللطفولة نصيب في العمل ببراءتها وشغبها كما في النصوص التالية: "الأب العجوز" و"اختراع" ودرس في التربية التشكيلية" هذا النص الذي يتخذ الدرس وسيلة سخرية من الأسد الحقيقي، الأسد الإنسان الذي يحكم بيد من حديد شعبا عريقا.
تطرق المجموعة العديد من القضايا الوطنية والقومية والإنسانية، مركزة على قضايا متنوعة كالنفاق، وشقاوة الطفولة، وبراءتها، والدفاع عن الحق الفلسطيني في استعادته لأرضه بشتى الطرق..
تأتي المجموعة عاكسة لتشوهات وتجاعيد الخارج عبر الداخلي المعتق بالقبح والمثقل بصروف الدهر، مساندا بلعبة مؤدلجة قذرة لم تزل بمثابة المنتج لكل هذا العهر والخبث والموت والدمار. تعمل النصوص على تشريح الواقع، وإخراج ما به من صديد وعفونة، بفعل التناقض البين بين المظهر والجوهر،، وبفعل التفاوت الطبقي بين الإنسان والمكان والجماد، مع الإشارة إلى بارة الطفولة وشقاوتها.
إنها قصص من واقعنا البائس، ترسم معالم الجحيم الذي يعتصر بواطن الشخصيات التي تعيش شرخها الوجودي،وانهيارها القيمي والأخلاقي، وقد تلوثت براءتها، وتلطخت طفولتها، وانتكس شموخ وطنها وصورته، وبالرغم من التضحيات الجسام لشخصياتها فقد عاشت الانكسار والمعاناة؛ إلا أن ما يميزها هو قدرتها على مجابهة الحياة لا الموت، بفضل تحليها بخصلة النضال والصمود بغير قليل من الخوف والحذر وهي تتشوف إلى الحرية والكرامة، وتناضل من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية.
لعل السخرية هي أبلغ خطاب، وأحد سلاح لمواجهة قبح الواقع ، يعتمد عليها القاص لإبراز ما يعج به هذا الواقع من مشاكل، وما يعرفه الإنسان من تناقضات صارخة، ورغم ذلك يتعايش معها بشكل عادي دون الشعور بتناقضاتها وما تخلفه من كوارث.
مجموعة "الشيخ قارون" تتوسل بالسخرية، إذا، لمواجهة قبح لا يمكن غض البصر عنه بل ينبغي مواجهته، وهي تضع القارئ أمام مسؤولياته حين تبرز له من خلال مشاهد متعددة ما يحبل به الواقع من علل وأمراض، حتى يتمكن من فهمها ومن ثم تجاوزها، إن العلاج لا يكون إلا عبر الفهم والمعرفة.
اللافت للانتباه أن العمل يتكئ على النص المؤسس في كتابة نصوصه، وعلى نصوص أخرى، يعتمد عليها في صوغ السخرية، يتخير الجمل التي تكتنز بالدلالات، يسخرها لبناء المعنى، وصياغة النص بطريقة فنية لا تعتمد المباشرة ولا التقريرية، رغم أن الأسلوب الذي كتبت به النصوص يبدو بسيطا لكن عمقه لا تخطئه العين القارئة والثاقبة؛ هو ما يمكن تسميته بالسهل الممتنع والممتع.
يلاحظ قدرة السارد ومن خلفه القاص على بناء النصوص بشكل محكم، سمتها الأساس دخولها ضمن النص الحجاجي؛ فالسارد رغم تنويع ضمائر حكيه، وتغيير منظوراته السردية، يسعى إلى إقناع القارئ بتصوراته، ورؤيته للواقع، مستغلا كل السبل لبلوغ هذا المسعى، تسعفه في اللغة المطواعة، والأوصاف والحوار؛ فهي عناصر أساسية، وتقنيتان مهمة تلعب دورا مهما في تحقيق مراد الرسالة الثاوية في النصوص، وعلى القارئ إدراكها وإدراك أبعادها. يقول القاص عن لغته في حوار أجراه معه الشاعر ميلود لقاح، ومنشور بموقع الميادين الإلكتروني: اللغة هي عجينة المُبدِع، فيها يصنع ما يشاء، ومن خلالها يوصل إبداعه إلى المُتلقّي، ومَن لا يمتلك هذه العجينة عجينة اللغة، لن يخبـز لنا خبزاً أو كعكاً، شريطة أن تكون لديه قدرة فائِقة على تطويعها وتشكيلها، وإلا كان مصيره العجز عن توصيل خبزه أو كعكه إلى الفرن؛ أي البوح عمَّا يريد تبليغه للآخر الذي هو طبعاً القارِئ. هكذا يجوز الحُكم بأن حُسن تطويع اللغة هو سبب نجاح أيّ عمل أدبي أو العكس، كيفما كان هذا المُنجَز الأدبي قصة، رواية، شعراً ...وبالنسبة إلى القصَّة القصيرة فهي تشترط أنَّ تكون لغتها موجَزة ومُكثّفة، بما أنها تتطرّق إلى حدثٍ فردي وفريد والنبش داخل هذا الحدث.
أما الوصف فيقوم بدور كشف دواخل الشخصية بناء على مؤشرات خارجية، كما في القصة الأولى، وكما في قصة المتسول حيث يقول السارد: إنه رجل يشبه عباس العقاد في كل شيء إلا في مخه وعبقرياته وأطروحاته الفكرية...وهذا الواقف عند رأسي امتشق عصاه، ولازمة صغيرة تفنن في صناعتها وتلحينها، قد يكون أنفق علي إخراجها ما شاء الله من وقته الغالي..ص 23، لاحظوا العبارة الساخرة، فالمتسول لكه الوقت كله، إذ لا عمل لديه سوى إنفاقه في التسول.
وفي الحوار نلمس براعته في إدارته، وتحكمه في تسييره بريقة تسمح له بالكشف عن دواخل الشخصيات وتفكيرها ونظرتها إلى الحياة، كما في قصة "حوار" ص69، وغيرها من القصص التي توظفه.
يبث القاص في ثنايا نصوصه علامات هي بمثابة خارطة طريق للقراءة المثمرة، يسعى إلى تنبيه القارئ إلى ضرورة التريث والتأمل، إن فقدها سار في اتجاهات متعارضة ومتضاربة لا يستقر له حال، ولا يهنأ له بال، ولا يبلغ تأويلا مريحا. لا تعمل تلك الرسائل المبثوثة إلى الأخذ بيد القارئ وتوجيهه، فهي لا تنظر إليه على أنه قاصر، بل تراه ذكيا، فتعمد إلى إثارة انتباهه.
لنأخذ قصة "وميض" ص87، نجده فيها يتحدث عن فتاة فلسطينية وهبت حياتها للقضية، وسعت إلى التضحية بنفسها للنيل من العدو، وهو ما نجحت في تحقيقه، فأين هي تلك الرسائل الخفية؟
نجدها في العبارات التالية: استيقظت استيقاظ المقبل على الحياة، تلفعت بالبياض، أرخت شعرها الفاحم على متنها، كما أحسن خلقها، وتلت "والعصر إن الإنسان لفي خسر"، تمنطقت بحزام لا يشبه حزام بنات العصر، وحشت حقيبتها أغراضا لا تشبه أغراض بنات العصر، عيون قردة وخنازير...
فالعبارات أعلاه تعد خارطة طريق للقراءة الاستباقية، إذ تعبر عن اختلاف الفتاة عن فتيات جيلها في خلقها وفي سلوكها وفي نظرتها إلى العالم، هذا الاختلاف جعلها تتصيد فريستها بعد التجمل لا من أجل الجسد ومتعه، بل من أجل اختيار الضحية الأمثل لتحقيق الغاية وهي إسقاط أكبر عدد من الضحايا بحزامها الناسف. والضحايا ليسوا سوى أولئك الذين وصفهم القرآن الكريم، بالقردة والخنازير، ومن هنا نفهم أسباب تركيز تلك الجمل على كلمات العصر، ولا تشبه. هي إشارات استباقية تمهد للفعل النبيل الذي ستقوم به الفتاة الجميلة خلقة وخلقا.
تتميز المجموعة بشمولية الرؤيا و احتماء الحبكة بالتفاصيل اليومية الدقيقة المغموسة في مشاهد البؤس، والمرتكن إلى بؤرة تجمّع أو تشكّل الخطاب الدّال على استنهاض حسّ الانتماء،نعثر على ذلك مثالا في قصة "الشيخ قارون" ص7، ذات المنحى الانتقادي لظاهرة النفاق الديني، حيث الباطن غير الظاهر؛ نص يسرد وجع الإنسان، ورفضه لمثل هذه الأفعال المنحطة.
شخصيات العمل مستلة من ذاكرة التمزّق لذا، فهي محاصرة بقبح الراهن تنشد خلق الصدمة الأقدر على انتشال الذات من سلباتها والميل إلى خلق عالم ميوته الحرية والعدالة الاجتماعية. شخصيات المجموعة تعيش في القاع، آتية من بيئة موسومة بالقهر والإقصاء، تمزج بين البؤس والمرح كي تتجاوز هامشيتها؛ تعيش بؤسها بصبر، وتسخر منه، لكنها تتوق إلى الانعتاق ، شخصيات حالمة تنشد غدا أفضل.
مجموعة أنيقة رغم رسمها لقبح الواقع، و استخراجها صديد الجرح الإنساني وتقرّحاته، ما يحسب لها ابتعادها عن التافه والفضلة والزائد ،واعتمادها التفاصيل الدقيقة والمهمة، وسعيها إلى بناء عالم مواز للواقع لا يقوم على اجتراره أو استنساخه، وهو ما منح للتجربة غوصا يعبر عن براعة سردية مضمخة بجماليات التخييل.
اختيار هذا العنوان ليكون مظلة النصوص يشي ببعده الساخر، فالقاص جمع فيه بين عنصرين متنافرين لكنهما متآلفين في جوف وقلب شخصية القصة الأولى. فالشيخ يرمز للبعد الديني الداعي للاعتدال والناصح بعد التكالب على الماديات، بخلاف الكلمة الثانية التي ترمز للبعد الدنيوي وحب الشهوات وجمع المال. وما جمع شخصيتنا للعنصرين إلا دليل على تهافتها وتهافت سلوكاتها، وبالتالي فهي غير جديرة بالخطابة، فالمنافق مجاله خارج المقدس.
القصة اعتمدت على الكشف والتعرية حيث وجدنا القاص يجند كل الوسائل لبلوغ هذا الهدف، إذ بنى نصه على المقابلة بين المظهر والجوهر لتعرية الخطيب وتبيان نفاقه الذي يتعارض مع توجهات الدين الإسلامي الحنيف.
شخصيات القصة ثلاث، السارد، وصديقه، والخطيب، أما المستمعين، فهم أشبه بالكورال هدفهم تشجيع فريق الخطيب بفعل غياب وعيهم نتيجة سحر قوله وحلاوة بيانه، وقدراته على استثمار السيرة النبوية لإخفاء ماديته.
وإذا استثنينا الصديق على اعتبار أنه ممثل المصلين الذين يرغب السارد في إيقاظهم، سنحصل على شخصيتين متعارضتين؛ شخصية الشيخ الذي يؤدي وظيفة إديولوجية تتمثل في تغييب وعي الناس حتى لا يطالبوا بحقهم في متع الحياة، معتمدا الدين وسيلة وغاية، وشخصية السارد الذي سيعمل على تعرية الشيخ وتبيان نفاقه، سارد يعاني الفقر والعوز كباقي المصلين، بدليل دراجته المهترئة بخلاف سيارة الشيخ الفارهة، الدالة على امتلاكه كل أسباب الرفاهية والعيش الرغيد.
وإذا كنا لا نعرف اسم السارد في هذا النص، فإن قصة "الأب العجوز" ص17، ستمنحنا إياه؛ إنه أحمد، لكنه ليس أحمد القاص من لحم ودم، بل أحمد السارد من حبر وورق، يمثل الأول، لكنه يبقى شخصية متخيلة مفارقة له؛ وهو نفسه شخصية قصة "اختراع" ص13، وقصة "المتسول" ص23، وقصة "الحلاق" ص37، وقصص أخرى حيث حضور ضمير المتكلم المعبر عن دواخل الشخصية، والشاهد على صدقية الأحداث.
شخصيته تتميز بالنبل والطهارة، وتبتعد عن المحرمات، فحين يتفق الأصدقاء بعد نقاش طويل على شراء الخمرة، ويتقاسمون كؤوسها بينهم، نجد أحمد مبتعدا عن شربها، فهي حرام كما قال بذلك عبد العزيز وقد استبدت به بعبارة تشي بالمفارقة: الأب العجوز ح ح ح حراااام ص22، فكيف يقبل على الحرام من يرتاد المسجد، وقلبه ملاك؟
وللطفولة نصيب في العمل ببراءتها وشغبها كما في النصوص التالية: "الأب العجوز" و"اختراع" ودرس في التربية التشكيلية" هذا النص الذي يتخذ الدرس وسيلة سخرية من الأسد الحقيقي، الأسد الإنسان الذي يحكم بيد من حديد شعبا عريقا.
تطرق المجموعة العديد من القضايا الوطنية والقومية والإنسانية، مركزة على قضايا متنوعة كالنفاق، وشقاوة الطفولة، وبراءتها، والدفاع عن الحق الفلسطيني في استعادته لأرضه بشتى الطرق..
تأتي المجموعة عاكسة لتشوهات وتجاعيد الخارج عبر الداخلي المعتق بالقبح والمثقل بصروف الدهر، مساندا بلعبة مؤدلجة قذرة لم تزل بمثابة المنتج لكل هذا العهر والخبث والموت والدمار. تعمل النصوص على تشريح الواقع، وإخراج ما به من صديد وعفونة، بفعل التناقض البين بين المظهر والجوهر،، وبفعل التفاوت الطبقي بين الإنسان والمكان والجماد، مع الإشارة إلى بارة الطفولة وشقاوتها.
إنها قصص من واقعنا البائس، ترسم معالم الجحيم الذي يعتصر بواطن الشخصيات التي تعيش شرخها الوجودي،وانهيارها القيمي والأخلاقي، وقد تلوثت براءتها، وتلطخت طفولتها، وانتكس شموخ وطنها وصورته، وبالرغم من التضحيات الجسام لشخصياتها فقد عاشت الانكسار والمعاناة؛ إلا أن ما يميزها هو قدرتها على مجابهة الحياة لا الموت، بفضل تحليها بخصلة النضال والصمود بغير قليل من الخوف والحذر وهي تتشوف إلى الحرية والكرامة، وتناضل من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية.
لعل السخرية هي أبلغ خطاب، وأحد سلاح لمواجهة قبح الواقع ، يعتمد عليها القاص لإبراز ما يعج به هذا الواقع من مشاكل، وما يعرفه الإنسان من تناقضات صارخة، ورغم ذلك يتعايش معها بشكل عادي دون الشعور بتناقضاتها وما تخلفه من كوارث.
مجموعة "الشيخ قارون" تتوسل بالسخرية، إذا، لمواجهة قبح لا يمكن غض البصر عنه بل ينبغي مواجهته، وهي تضع القارئ أمام مسؤولياته حين تبرز له من خلال مشاهد متعددة ما يحبل به الواقع من علل وأمراض، حتى يتمكن من فهمها ومن ثم تجاوزها، إن العلاج لا يكون إلا عبر الفهم والمعرفة.
اللافت للانتباه أن العمل يتكئ على النص المؤسس في كتابة نصوصه، وعلى نصوص أخرى، يعتمد عليها في صوغ السخرية، يتخير الجمل التي تكتنز بالدلالات، يسخرها لبناء المعنى، وصياغة النص بطريقة فنية لا تعتمد المباشرة ولا التقريرية، رغم أن الأسلوب الذي كتبت به النصوص يبدو بسيطا لكن عمقه لا تخطئه العين القارئة والثاقبة؛ هو ما يمكن تسميته بالسهل الممتنع والممتع.
يلاحظ قدرة السارد ومن خلفه القاص على بناء النصوص بشكل محكم، سمتها الأساس دخولها ضمن النص الحجاجي؛ فالسارد رغم تنويع ضمائر حكيه، وتغيير منظوراته السردية، يسعى إلى إقناع القارئ بتصوراته، ورؤيته للواقع، مستغلا كل السبل لبلوغ هذا المسعى، تسعفه في اللغة المطواعة، والأوصاف والحوار؛ فهي عناصر أساسية، وتقنيتان مهمة تلعب دورا مهما في تحقيق مراد الرسالة الثاوية في النصوص، وعلى القارئ إدراكها وإدراك أبعادها. يقول القاص عن لغته في حوار أجراه معه الشاعر ميلود لقاح، ومنشور بموقع الميادين الإلكتروني: اللغة هي عجينة المُبدِع، فيها يصنع ما يشاء، ومن خلالها يوصل إبداعه إلى المُتلقّي، ومَن لا يمتلك هذه العجينة عجينة اللغة، لن يخبـز لنا خبزاً أو كعكاً، شريطة أن تكون لديه قدرة فائِقة على تطويعها وتشكيلها، وإلا كان مصيره العجز عن توصيل خبزه أو كعكه إلى الفرن؛ أي البوح عمَّا يريد تبليغه للآخر الذي هو طبعاً القارِئ. هكذا يجوز الحُكم بأن حُسن تطويع اللغة هو سبب نجاح أيّ عمل أدبي أو العكس، كيفما كان هذا المُنجَز الأدبي قصة، رواية، شعراً ...وبالنسبة إلى القصَّة القصيرة فهي تشترط أنَّ تكون لغتها موجَزة ومُكثّفة، بما أنها تتطرّق إلى حدثٍ فردي وفريد والنبش داخل هذا الحدث.
أما الوصف فيقوم بدور كشف دواخل الشخصية بناء على مؤشرات خارجية، كما في القصة الأولى، وكما في قصة المتسول حيث يقول السارد: إنه رجل يشبه عباس العقاد في كل شيء إلا في مخه وعبقرياته وأطروحاته الفكرية...وهذا الواقف عند رأسي امتشق عصاه، ولازمة صغيرة تفنن في صناعتها وتلحينها، قد يكون أنفق علي إخراجها ما شاء الله من وقته الغالي..ص 23، لاحظوا العبارة الساخرة، فالمتسول لكه الوقت كله، إذ لا عمل لديه سوى إنفاقه في التسول.
وفي الحوار نلمس براعته في إدارته، وتحكمه في تسييره بريقة تسمح له بالكشف عن دواخل الشخصيات وتفكيرها ونظرتها إلى الحياة، كما في قصة "حوار" ص69، وغيرها من القصص التي توظفه.
يبث القاص في ثنايا نصوصه علامات هي بمثابة خارطة طريق للقراءة المثمرة، يسعى إلى تنبيه القارئ إلى ضرورة التريث والتأمل، إن فقدها سار في اتجاهات متعارضة ومتضاربة لا يستقر له حال، ولا يهنأ له بال، ولا يبلغ تأويلا مريحا. لا تعمل تلك الرسائل المبثوثة إلى الأخذ بيد القارئ وتوجيهه، فهي لا تنظر إليه على أنه قاصر، بل تراه ذكيا، فتعمد إلى إثارة انتباهه.
لنأخذ قصة "وميض" ص87، نجده فيها يتحدث عن فتاة فلسطينية وهبت حياتها للقضية، وسعت إلى التضحية بنفسها للنيل من العدو، وهو ما نجحت في تحقيقه، فأين هي تلك الرسائل الخفية؟
نجدها في العبارات التالية: استيقظت استيقاظ المقبل على الحياة، تلفعت بالبياض، أرخت شعرها الفاحم على متنها، كما أحسن خلقها، وتلت "والعصر إن الإنسان لفي خسر"، تمنطقت بحزام لا يشبه حزام بنات العصر، وحشت حقيبتها أغراضا لا تشبه أغراض بنات العصر، عيون قردة وخنازير...
فالعبارات أعلاه تعد خارطة طريق للقراءة الاستباقية، إذ تعبر عن اختلاف الفتاة عن فتيات جيلها في خلقها وفي سلوكها وفي نظرتها إلى العالم، هذا الاختلاف جعلها تتصيد فريستها بعد التجمل لا من أجل الجسد ومتعه، بل من أجل اختيار الضحية الأمثل لتحقيق الغاية وهي إسقاط أكبر عدد من الضحايا بحزامها الناسف. والضحايا ليسوا سوى أولئك الذين وصفهم القرآن الكريم، بالقردة والخنازير، ومن هنا نفهم أسباب تركيز تلك الجمل على كلمات العصر، ولا تشبه. هي إشارات استباقية تمهد للفعل النبيل الذي ستقوم به الفتاة الجميلة خلقة وخلقا.
تتميز المجموعة بشمولية الرؤيا و احتماء الحبكة بالتفاصيل اليومية الدقيقة المغموسة في مشاهد البؤس، والمرتكن إلى بؤرة تجمّع أو تشكّل الخطاب الدّال على استنهاض حسّ الانتماء،نعثر على ذلك مثالا في قصة "الشيخ قارون" ص7، ذات المنحى الانتقادي لظاهرة النفاق الديني، حيث الباطن غير الظاهر؛ نص يسرد وجع الإنسان، ورفضه لمثل هذه الأفعال المنحطة.
شخصيات العمل مستلة من ذاكرة التمزّق لذا، فهي محاصرة بقبح الراهن تنشد خلق الصدمة الأقدر على انتشال الذات من سلباتها والميل إلى خلق عالم ميوته الحرية والعدالة الاجتماعية. شخصيات المجموعة تعيش في القاع، آتية من بيئة موسومة بالقهر والإقصاء، تمزج بين البؤس والمرح كي تتجاوز هامشيتها؛ تعيش بؤسها بصبر، وتسخر منه، لكنها تتوق إلى الانعتاق ، شخصيات حالمة تنشد غدا أفضل.
مجموعة أنيقة رغم رسمها لقبح الواقع، و استخراجها صديد الجرح الإنساني وتقرّحاته، ما يحسب لها ابتعادها عن التافه والفضلة والزائد ،واعتمادها التفاصيل الدقيقة والمهمة، وسعيها إلى بناء عالم مواز للواقع لا يقوم على اجتراره أو استنساخه، وهو ما منح للتجربة غوصا يعبر عن براعة سردية مضمخة بجماليات التخييل.