يمكن اعتبار مجموعة "رأس تحتاج إلى ترتيق" لأحمد بلقاسم، عملا ذا أطروحة، ذلك أنها اتخذت من القصة القصيرة جدا موضوعها الأوحد، تناولته من جوانب متعددة بشكل ساخر ونقد لاذع.
تتكون المجموعة الصادرة عن مطبعة نجمة الشرق في طبعتها الأولى سنة 2018، من عشرين نصا بأحجام مختلفة ؛ بعضها جاء قصيرا جدا بحيث لا يتعدى نصف الصفحة، ك"دعوة" ص27 و"شاطر" ص37. . فباستثناء أربع قصص وهي: "الأربعون شيطانا" و"غصة" و"وقت الذروة" و"سروال مكعب"، جاءت باقي النصوص ناقدة للقصة القصيرة جدا بشكل خاص، وباقي الأجناس بشكل عام، من منطلق الغيرة على الكتابة، وحرصا على جمالياتها.
في هذه المجموعة يتوجه المبدع بخطابه النقدي إلى المهتمين بهذا الجنس والفاعلين فيه، معتمدا استراتيجية السخرية لتجنب السقوط في المباشرة والتقريرية.
وتقسم المجموعة مجال اشتغالها النقدي للقص الوجيز إلى المحاور التالية: المرسل والمرسل إليه، والرسالة، والإلقاء، دون إغفال الناقد الذي خصصت له حيزا من النقد صغير لكنه لاذع. وسنتوقف عند هذه المحاور كما تجلت في الإضمامة، لننتقل بعدها للحديث عن تقنيات الكتابة الموظفة في تناولها النقدي، وشغلها الإبداعي للقصة القصيرة جدا.
فلم نقد القص الوجيز على وجه التخصيص في هذه المجموعة؟
لأنها جنس أدبي حديث يمتاز بقصر الحجم والإيحاء المكثف والنزعة القصصية الموجزة والمقصدية الرمزية المباشرة وغير المباشرة، فضلا عن خاصية التلميح والاقتضاب والتجريب والنفس الجملي القصير الموسوم بالحركية والتوتر وتأزم المواقف والأحداث، بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار.
وقد عرفت إقبالا واسعا من قبل عدد كبير من الكتاب، وأصبحت تقام لها المهرجانات والملتقيات داخل المغرب وخارجه، وكثر مريدوها ومناصروها في الوطن العربي الكبير. هذا الإقبال الذي لم ينطلق في جانب منه من وعي فني وجمالي بطبيعة الكتابة السردية وخصوصياتها، ولم يتأسس على رصيد معرفي ورؤية إبداعية، وإنما انطلق عند الكثيرين من فهم خاطئ لهذا اللون من الكتابة، انحصر في اليسر والسهولة، فكان أن انتسبوا إليها مباشرة دون أن يجربوا القصة بقواعدها المعروفة، ولا حتى أن يرتووا منها وينهلوا من معين روادها في الشرق والغرب، كما هو مفروض في كل أشكال الكتابة الإبداعية، ودون أن يعوا من جانب آخر أن هذا اللون الجديد هو ذلك السهل الممتنع الذي لا يقوى عليه إلا من جرب الكتابة وخبِر مجاهلها، الشيء الذي أثار حفيظة كاتبنا ودفعه إلى أن يتخذ منهم مادة للحكي، معتمدا آلية السخرية ضد الرداءة التي عمت أطراف هذا الجنس الوليد والشهيد؛ وهي الناقد، والمرسل والمرسل إليه، والرسالة. فالنصوص الجيدة والتي تمتلك عناصر القصة قليلة... أما الباقي فسيل من الزبد عديم القيمة.
عن الناقد:
خصصت المجموعة حيزا من اهتمامها لناقد القصة القصيرة جدا، ولم تجنبه سخريتها منه معتبرة إياه سببا مهما في شيوع الرداءة، ففي نص "حوار وراء الأسوار" ص71، يصور لنا السارد هذا الرجل طفيليا لا يفوت فرصة حضور المهرجانات/ البهرجانات، كما تم تسجيلها بسخرية ذات بعد انتقادي حيث حضور المظاهر وغياب الجوهر؛ كان يأتي صحبة عائلته، دون أي نظرية جديدة، لكنه، هذه المرة حضر بقلم وردي ليشبع شهوتي البطن والفرج، واصفا إياه بسفير النوايا الحسنة، والصفة تستبطن نقدا لاذعا، لكونه يضمر نيات سيئة تتجلى في تشجيعه المتهافت للراغبات في الانضمام لسجله العائلي.
لقد مارس الكاتب النقد من داخل الإبداع، ولعل انصرافه إلى هذه الوجهة هو في الحقيقة غمز للنقد الأكاديمي الجاد ولمز له؛ فهو السبب في شيوع الرداءة، والمسؤول عنها.
عن القاص/المرسل:
تجدر الإشارة إلى أن سارد النصوص يسحب صفة الإبداع عن كتاب القص الوجيز، ولا يعدهم مبدعين؛ يراهم فارغين، مسطحين، لا يعيشون إلا على فتات الغير.
فمرسل القصص القصيرة جدا يعتمد إما على بقرة الرواية ليصنع منها قديد نصوصه الوجيزة؛ كونه لا يمتلك خيالا ولا أصالة، وإما يرد من حياض غيره، كما في قصة "سروال من حلفاء" ص: 11 إذ يحدثنا السارد عن كاتب مغرور تجرأ على كتابة رواية طلبا للشهرة، لكن بياض الصفحة تحداه، وأورث في نفسه العجز. وللخروج من هذا المأزق فكر بكتابة قصة قصيرة جدا. والحق أن الكتابة فعل سام يحمل رسالة، وليس مطية لبلوغ الشهرة، يقول السارد عن شخصيته الساعية للشهرة، معتمدا الألفاظ الفخمة ذات الجرس والوقع، للحط منها "يا له من جهبذ صنديد، اختار أيسر وأقصر السبل لبلوغ الهدف، اختار أن يكتب القصة القصيرة جدا..جدا..جدا…!"ص: 31. الكتابة اختيار فني وجمالي قبل أن يكون طريق شهرة.
والأمر نفسه بالنسبة لشخصية قصة "شاطر" ص37، فقد اشترت رواية صنعت بها ألف قصة وقصة قصيرة جدا ؛ اختارت أقصر السبل لنيل الشهرة؛ فكانت نعم الشاطر.
أو يشحذ النصوص من كتاب مستعدين لمده بالخواء. كما في قصة "قصص تحت الطلب وخدمة ما بعد البيع" ص:17.
يؤكد الكاتب، من خلال نصوصه الساخرة، ضرورة توافر شرط الإبداع في كل عمل إبداعي، يضمن للمبدع تميزه وللإبداع جماليته، وهو شرط افتقدته كثير من الكتابات المجنسة تحت مسمى قصص قصيرة جدا، فإما أن يتعسف عليها صاحبها ويلوي عنقها من أجل ضمان مشاركة في مهرجان، أو يلجأ إلى تجميع كلمات متنافرة يقرصنها من هنا وهناك، فلا حدث يلحم سداها ولا حبكة تقيم بنيتها، فيؤلف منها قصته القصيرة جدا، وقد عبر الكاتب عن هذه السلوكات ب"قصص تحت الطلب" يطلبها "كويتب" القصة القصيرة جدا، والتصغير للتحقير كما هو جلي، من كاتب آخر.
وحين تسعى كاتبة القصص القصيرة جدا اتخاذ سمت الشاعرة وتسعى إلى اعتلاء المنبر لإسماع صوتها، يقوم السارد بقمعها عن طريق حيلة جهنمية ناجحة، رأفة، بأذن المتلقي، فحري بها أن تظل ملتصقة بالأرض ولا تمد عنقها إلى الأعلى حتى لا تكل رقبتها "ماء مثلج" ص77.
وقد يلجأ كاتب القص الوجيز إلى صالونات التجميل لتتألق نصوصه، كما في قصة "غيْرة" ص: 51 التي تحكي عن كاتب قصص قصيرة جدا سعى إلى المشاركة في مهرجان، فلم يرقه ما كتب، فما كان منه إلا أن حمل بنات أفكاره إلى صالون تجميل تديره خليلة ناقد كبير، فإذا بالقصص تتأنق وتتجمل، بل الأكثر من ذلك تصبح متعددة الاستعمالات يمكن قراءتها شعرا كما يمكن قراءتها قصصا، مما ولد خلطا بين الأجناس لا تداخلها، كل ذلك بسبب النقد غير الأكاديمي الرصين، إذ لم يعد يهتم بالمعايير العلمية في قراءة النصوص بقدر ما اهتم بالولاءات والإخوانيات، فأصبح نقدا تحت الطلب، كما القصة القصيرة جدا التي صارت، هي الأخرى، تحت الطلب. الأمر الذي أساء إلى الإبداع كثيرا وفتح الطريق أمام الغث والهجين.
عن القصة/الرسالة:
في نصيص قصير جدا يغيب فيه الحدث وتحضر فيه أسماء كتاب القصة القصيرة الذين لمع اسمهم في سماء الإبداع، وكانت لهم بصمتهم التي لن تمحى؛ من أمثال: غوغول صاحب المعطف الخصيب، ويوسف إدريس، وأحمد بوزفور، يشير السارد، بنقده اللاذع الذي تبناه أداة فعالة للفضح في عمله، إلى مسعى القص الوجيز الانتساب إلى تلك الأسماء بحثا عن شرعية ما، وتأصيل مطلوب ومرغوب فيه، بيد أن عنوان النص يسخر من مثل هذا المسعى، إذ يراه مستحيلا، فلا يمكن للقمم أن تنحدر إلى الأسفل. لذا، تحتاج رأس القص الوجيز إلى رتق حتى تتوقف عن تلك الأحلام والهذيانات، وألا تظل مفتوحة على الوهم.
صرخة السارد/صرخة المبدع:
بعد أن وجه سهام نقده اللاذع لمختلف الأطراف السابقة، نجده في قصة "ذات جمعة مباركة" ص45، يعتلي منبر الخطابة بعد تغيب الخطيب، ليصب نقده الساخر على القصة القصيرة جدا وأشباه المبدعين فيها، ويسخر من سعيهم، ومما جاء في الخطبة التي ألقاها في حضرة المصلين قوله: "أيها القوقجيون اسمعوا وعوا، وليبلغ الحاضر منكم الغائب" ص: 48، وقوله في حواره مع أحد السائلين عن معنى القوقجيين: "أستاذ من فضلك ما معنى ال ق ق ج؟/ تعني القصص القصيرة جدا/ في أي التفاسير أجدها؟/ عليك بالقوقجيين" ص: 50.
هكذا يصور السارد/الخطيب القصص القصيرة جدا بأنها قصص لا عمق لها ولا جمال، ويبدو أنه قد أصدر حكما عاما وقاطعا، ونرى أن كل حكم لن يكون إلا جائرا وغير موضوعي. فالأحكام العامة مضللة، لا تسهم في التطور، هي صارمة كالسيف، تقطع أعناق الكل، غير مدركة أن نصوص كل الأجناس، فيها الغث والسمين؛ وهو ما يدركه المبدع في إشارته إلى الشعر الذي شهد هو الآخر اجتياحا.
كما يبدو أن سخرية القاص من القصة القصيرة جدا باعتبارها جنسا إبداعيا؛ هو نقد تبخيس. فالنصان القصيران الواردان في العمل بعيدان كل البعد عن القص الوجيز، لا تتوفر فيهما شروطه في حدها الأدنى وإنما يعبران عن موقف من الفاعلين فيه، ودعوة إليهم لكي يراجعوا ذواتهم دون أن تأخذهم العزة بالإثم. فجميل أن تمارس الكتابة الإبداعية فوضاها من منظور مضاد لنظام التكريس والتعليل والأمثلة، وجميل أن تستشرف أشكالا وتقنيات جديدة، ولكن بالقدر الذي يضمن لها أصالتها وإبداعيتها، ومن ثم فاعليتها في التعبير والتغيير.
عن المرسل إليه/المتلقي:
وحين ننتقل إلى هذا الركن يتجلى لنا النقد اللاذع بجلاء حيث يظهر موقف السارد ومن خلفه الكاتب للقص الوجيز، فنرى هذا المتلقي غائبا غير متابع، أو تكون القاعة فارغة تتابع ببلاهة حروف الملقي. ففي قصة "قصة طرية جدا يستحسن التهامها وهي ساخنة" ص23، يلقي السارد نصه الذي اختاره عن قصد بعد خلافات حادة بين القزميات، غير عابئ بنوم رفيقه، وخلو القاعة من التصفيق. وفي قصة "دعوة" ص27، ينحني القاص للكراسي الفارغة التي بادلته صمتا بأحسن منه. أما في قصة "غيرة" فيرتفع منسوب السخرية من كاتب القص الوجيز/الشعر الوجيز، حين يتوهم أن إغماءة الخنساء دليل غيرة.
عن التقنيات:
اعتمد المبدع على السخرية باعتبارها الأسلوب الأكثر ملاءمة للكشف عن الأمراض والعلل التي تنخر جسد الإبداع؛ فقد كانت عابرة لمختلف مفاصل الحكي، من شخصيات وحوار ووصف، ومن خلال مقاطع سردية وتوظيفات معجمية ولغوية، مما يجعل منها بنية فنية أو خطابا يؤلف بين أجزاء النص القصصي ويرتاد به عوالم التجريب.
المفارقة الساخرة:
كما في هذا المقطع: "فمنذ أن من الله عليه بحفظ بيت شهير من الشعر لصاحبته تماضر بنت عمرو، إبان مسيرته التعليمية المظفرة في أحد فصول المرحلة الثانوية والذي قضى فيه ثلاث سنوات حسوما" ص: 11. فكلمة حسوما مستوردة من الآية الكريمة "الحاقة، "قال تعالى: ﴿ثمانية أيام حسوما﴾ فالمفارقة الساخرة تنهض من التقابل اللغوي بين تكراره المتتابع والمشؤوم في فصل واحد، وبين مسيرته التعليمية المظفرة. وهي مفارقة تتغيى التنقيص من شأن هذا الرجل والتهكم من مستواه الثقافي الهزيل، والذي لا يتجاوز بيتا من الشعر لصاحبته الخنساء، ومع ذلك يتجرأ على الإبداع.
فالسارد يسخر ممن يقتحم مجال الإبداع وهو صفر الذهن والذوق.
التناص الساخر:
والمثال السابق يعبر عن هذا المسعى، إذ النص الغائب يحضر إما لتعضيد المعنى المراد، أو السخرية من الشخصية حين يتم تحويره، بقلب معناه حتى يؤدي المطلوب المراد تبليغه. كما في العبارتين التاليتين:
"كجلمود صخر حطه السقف من عل" ص: 27، وكذلك "لا تنابزوا بالأقلام" ص: 48، فالعبارة الأولى تبدل السيل بالسقف، لتعبر عن المعنى الشعبي الناقد للتطفل، فالرجل طارئ على حقل الإبداع، ورغم ذلك يتجرأ على الكتابة. أما الثانية فهي من القرآن، مع بعض التحوير الذي طال الكلمة الثانية، حيث صارت الألقاب أقلاما، وينطوي هذا التغيير على سخرية مرة من الصراع الفارغ بين الكتاب، حيث يستحضر القارئ المعنى المتضمن في الآية، ويسحبه على السياق الجديد؛ فالآية تنهى عن التنابز، وتراه فعلا سيئا، وسارد القصة يراه مستفحلا بين كتاب القص الوجيز، في صراعهم على الريادة والشهرة.
وفي قصة "ذات جمعة مباركة" ص45، يمكن أن نستل من خطبة السارد وقد صار خطيبا، مقابلة دالة، حيث تم تهريب النقاش إلى المسجد في يوم الجمعة المباركة، مما يشي بالقدسية مقابل الدنس الذي يرتبط بالققجة، ذلك أن كل منهي عنه لا يمكن إلا أن يكون مدنسا، مما يخلق تعارضا بين الأعلى والأسمى وبين الأسفل والأدنى؛ وهي المقابلة نفسها التي نجدها في المقتطف التالي من طلب الكويتب: قصة ما سمعتها أذن ولا قرأتها عين ص20، مقابلة تتولد من خلال التقابل بين الإثابة بعد جهد ومجاهدة كما في الأصل، وبين الرغبة في الحصول على ما لا نستحق بسهولة، ودون تعب أو كد. الأمر الذي يدفع الكاتب المخاطب إلى منح الكويتب ما يستحقه ووفق طلبه: ... !
فالمقتطف هو آية قرآنية تعد المؤمنين بالخير، تم تحويرها لتناسب المقام، وتضع القارئ أمام ثنائية ضدية؛ وهي: الأسمى والأعلى للمؤمنين الطائعين، مقابل الأدنى والأسفل للكسالى المتسلقين.
القلب والتحوير:
كما يستثمر الكاتب تقنية القلب والتحوير في توظيفه للألفاظ أو العبارات، فعلى مستوى استعمال اللفظ نجد: «كاتب مطمور» ص: 44 بدل أن يقول مغمورا، و»قصيردته» ص: 27، بدل قصيدته، و»البهرجان» ص: 71 بدل المهرجان.
الوصف الساخر:
إضافة إلى ما سبق، نجد الكاتب يستثمر الوصف الذي يعتبر سمته المميزة في كل أعماله، فمن خلاله يخلق الكاتب وضعيات ساخرة وخاصة حينما يتعلق الأمر بالسخرية من الشخوص، كما في هذا الوصف الذي خص به ذلك الكاتب الذي تاق إلى الشهرة تماما كما بلغها صخر مرثي الشاعرة الخنساء بعد حفظه لبيت من أبياتها الشهيرة "وإن صخرا لتأتم الهداة به**كأنه علم في رأسه نار"؛ هذا البيت الذي قدح فيه نار الغيرة، يقول: "ومن شدة أوار هذه النار تفحم وجهه، واكفهر دم قلبه، وولاه شيطان إبداعه إسته المشوي" ص: 12، فهذه العبارات الواصفة ليس من هدف وراءها سوى الاستهزاء والسخرية بشخص أراد أن يبلغ الشهرة ويقتحم مجال الإبداع برصيد معرفي لا يتعدى بيتا واحدا من الشعر، ولعل في قول الكاتب: "ولاه شيطان إبداعه إسته المشوي" أبلغ تعبير عما يمكن أن يصل إليه هذا المبدع من نتائج.
وفي موضع آخر يصف كاتبا معتدا بنفسه مغرورا بما يذيعه في حقه مقربوه من إطراء قائلا: «يصبو أن ينال إحدى الجوائز الأدبية العالمية، أقل ما يطمح الحصول عليه هي الغنكور أو البوكر.. ولم لا الازدواجية.. حلال عليه أن يجمع بين الأختين وحتى الجدة نوبل[…]بما أنه استحلى ارتداء خرقة الكبرياء المرصعة بلآلئ الغرور، فمن المؤكد أنه سيحصد من البطائق الحمراء ما يجعل مؤخرته تتورم في دكة الاحتياط»ص: 44، فأسلوب القلب لعب دورا مهما في إبراز العيوب والسخرية منها.
ولم يكتف الكاتب بلمز القصة القصيرة جدا فقط، بل وجه سهامه إلى جنس الشعر أيضا، وإن بشكل عابر، نظرا لما تعرفه القصيدة هي الأخرى من فوضى ومن اختزال شديد يكاد يذهب بمقوماتها الفنية، ففي قصة "ماء مثلج" ص: 77 يظهر موقفه الرافض لهذه الكتابات التي جنست نفسها شعرا، ولكي يظهر ضعفها جعل صوت القصيدة يبح وهي تعتلي المنصة لتشنيف أسماء الحضور بمجرة شربة ماء بارد فلم يسمع منها سوى "صوت الهواء صوت مبحوح جدا جدا جدا" ص: 80
ولابد لنا من الإشارة، قبل الختم، إلى بعض الملاحظات التي لا تنال من قيمة العمل، منها:
التعاقد بين القاص والقارئ:
نرى أن عنصر القصصية يغيب في مجموعة من النصوص مما يخل بالتعاقد المبرم بين الكاتب والقارئ، حتى إننا نشعر وكأن السارد يقيم دردشة حول القص الوجيز بغرض تبخيسه، وتحقيره. فالمنطلق المتحكم في جملة نصوص العمل هو التحامل.
ثم إننا نتساءل عن مسالة القصة في نصين جاءا مجرد حوار محض بين شخصيتين حول مسألة القص الوجيز.
والحوار نوعٌ من أنواعِ النصوص الأدبية يجري بين شخصين، أو أكثر، والهدف منه توصيل فكرةٍ ما إلى الشخص الذي يقرأ النص الحواري، وأيضاً يعرفُ النص الحواري بأنه وسيلةٌ من الوسائل المستخدمة في توضيح موضوعٍ ما بالاعتماد على وجود حوارٍ ينقلُ الأفكار المرتبطة بالموضوع بأسلوبٍ واضحٍ. نستنتج من هذا أن نصوص الحوار لا تدخل مجال القص حتى ولو اشتملت على بعض مشمولاته من قبيل الشخصيات والموضوع..كونها تسعى إلى تبخيس القصة القصيرة جدا؛ وهو هدف تشاركهما فيه مجمل نصوص العمل. وهي أقرب إلى المشهد المسرحي، خاصة وأنها تشتمل على قليل من الإرشادات الداخلية.
خاتمة:
تميز عمل المبدع أحمد بلقاسم بأطروحته النقدي للقصة القصيرة جدا من منطلق الغيرة على الإبداع الذي اقتحمه الفاشلون بغاية غير أدبية، تتجلى في نيل الشهرة، وحضور المهرجانات لإشباع بطونهم وغيرها؛ وقد بلغ مطمح بعضهم درجة من السفاهة حد الرغبة في نيل الجوائز الكبرى؛ فكان من الضروري من نقد مسعى هؤلاء بسخرية قد تردعهم، وتعيد الأمور إلى نصابها، لا سيما في غياب شبه كلي للنقد الموضوعي الصارم. كل ذلك في قالب قصصي ساخر يعتمد الرمز والإيحاء، والإشارة بعيدا عن التقريرية. كما يتجاوز السرد المباشر إلى ماهو بياني ومجازي ضمن بلاغة الانزياح والخرق الجمالي.
***
استفدنا من المرجع التالي:
محمد رحو: مقولات الإبداع في المجموعة القصصية «رأس تحتاج إلى ترتيق» للقاص أحمد بلقاسم.
تتكون المجموعة الصادرة عن مطبعة نجمة الشرق في طبعتها الأولى سنة 2018، من عشرين نصا بأحجام مختلفة ؛ بعضها جاء قصيرا جدا بحيث لا يتعدى نصف الصفحة، ك"دعوة" ص27 و"شاطر" ص37. . فباستثناء أربع قصص وهي: "الأربعون شيطانا" و"غصة" و"وقت الذروة" و"سروال مكعب"، جاءت باقي النصوص ناقدة للقصة القصيرة جدا بشكل خاص، وباقي الأجناس بشكل عام، من منطلق الغيرة على الكتابة، وحرصا على جمالياتها.
في هذه المجموعة يتوجه المبدع بخطابه النقدي إلى المهتمين بهذا الجنس والفاعلين فيه، معتمدا استراتيجية السخرية لتجنب السقوط في المباشرة والتقريرية.
وتقسم المجموعة مجال اشتغالها النقدي للقص الوجيز إلى المحاور التالية: المرسل والمرسل إليه، والرسالة، والإلقاء، دون إغفال الناقد الذي خصصت له حيزا من النقد صغير لكنه لاذع. وسنتوقف عند هذه المحاور كما تجلت في الإضمامة، لننتقل بعدها للحديث عن تقنيات الكتابة الموظفة في تناولها النقدي، وشغلها الإبداعي للقصة القصيرة جدا.
فلم نقد القص الوجيز على وجه التخصيص في هذه المجموعة؟
لأنها جنس أدبي حديث يمتاز بقصر الحجم والإيحاء المكثف والنزعة القصصية الموجزة والمقصدية الرمزية المباشرة وغير المباشرة، فضلا عن خاصية التلميح والاقتضاب والتجريب والنفس الجملي القصير الموسوم بالحركية والتوتر وتأزم المواقف والأحداث، بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار.
وقد عرفت إقبالا واسعا من قبل عدد كبير من الكتاب، وأصبحت تقام لها المهرجانات والملتقيات داخل المغرب وخارجه، وكثر مريدوها ومناصروها في الوطن العربي الكبير. هذا الإقبال الذي لم ينطلق في جانب منه من وعي فني وجمالي بطبيعة الكتابة السردية وخصوصياتها، ولم يتأسس على رصيد معرفي ورؤية إبداعية، وإنما انطلق عند الكثيرين من فهم خاطئ لهذا اللون من الكتابة، انحصر في اليسر والسهولة، فكان أن انتسبوا إليها مباشرة دون أن يجربوا القصة بقواعدها المعروفة، ولا حتى أن يرتووا منها وينهلوا من معين روادها في الشرق والغرب، كما هو مفروض في كل أشكال الكتابة الإبداعية، ودون أن يعوا من جانب آخر أن هذا اللون الجديد هو ذلك السهل الممتنع الذي لا يقوى عليه إلا من جرب الكتابة وخبِر مجاهلها، الشيء الذي أثار حفيظة كاتبنا ودفعه إلى أن يتخذ منهم مادة للحكي، معتمدا آلية السخرية ضد الرداءة التي عمت أطراف هذا الجنس الوليد والشهيد؛ وهي الناقد، والمرسل والمرسل إليه، والرسالة. فالنصوص الجيدة والتي تمتلك عناصر القصة قليلة... أما الباقي فسيل من الزبد عديم القيمة.
عن الناقد:
خصصت المجموعة حيزا من اهتمامها لناقد القصة القصيرة جدا، ولم تجنبه سخريتها منه معتبرة إياه سببا مهما في شيوع الرداءة، ففي نص "حوار وراء الأسوار" ص71، يصور لنا السارد هذا الرجل طفيليا لا يفوت فرصة حضور المهرجانات/ البهرجانات، كما تم تسجيلها بسخرية ذات بعد انتقادي حيث حضور المظاهر وغياب الجوهر؛ كان يأتي صحبة عائلته، دون أي نظرية جديدة، لكنه، هذه المرة حضر بقلم وردي ليشبع شهوتي البطن والفرج، واصفا إياه بسفير النوايا الحسنة، والصفة تستبطن نقدا لاذعا، لكونه يضمر نيات سيئة تتجلى في تشجيعه المتهافت للراغبات في الانضمام لسجله العائلي.
لقد مارس الكاتب النقد من داخل الإبداع، ولعل انصرافه إلى هذه الوجهة هو في الحقيقة غمز للنقد الأكاديمي الجاد ولمز له؛ فهو السبب في شيوع الرداءة، والمسؤول عنها.
عن القاص/المرسل:
تجدر الإشارة إلى أن سارد النصوص يسحب صفة الإبداع عن كتاب القص الوجيز، ولا يعدهم مبدعين؛ يراهم فارغين، مسطحين، لا يعيشون إلا على فتات الغير.
فمرسل القصص القصيرة جدا يعتمد إما على بقرة الرواية ليصنع منها قديد نصوصه الوجيزة؛ كونه لا يمتلك خيالا ولا أصالة، وإما يرد من حياض غيره، كما في قصة "سروال من حلفاء" ص: 11 إذ يحدثنا السارد عن كاتب مغرور تجرأ على كتابة رواية طلبا للشهرة، لكن بياض الصفحة تحداه، وأورث في نفسه العجز. وللخروج من هذا المأزق فكر بكتابة قصة قصيرة جدا. والحق أن الكتابة فعل سام يحمل رسالة، وليس مطية لبلوغ الشهرة، يقول السارد عن شخصيته الساعية للشهرة، معتمدا الألفاظ الفخمة ذات الجرس والوقع، للحط منها "يا له من جهبذ صنديد، اختار أيسر وأقصر السبل لبلوغ الهدف، اختار أن يكتب القصة القصيرة جدا..جدا..جدا…!"ص: 31. الكتابة اختيار فني وجمالي قبل أن يكون طريق شهرة.
والأمر نفسه بالنسبة لشخصية قصة "شاطر" ص37، فقد اشترت رواية صنعت بها ألف قصة وقصة قصيرة جدا ؛ اختارت أقصر السبل لنيل الشهرة؛ فكانت نعم الشاطر.
أو يشحذ النصوص من كتاب مستعدين لمده بالخواء. كما في قصة "قصص تحت الطلب وخدمة ما بعد البيع" ص:17.
يؤكد الكاتب، من خلال نصوصه الساخرة، ضرورة توافر شرط الإبداع في كل عمل إبداعي، يضمن للمبدع تميزه وللإبداع جماليته، وهو شرط افتقدته كثير من الكتابات المجنسة تحت مسمى قصص قصيرة جدا، فإما أن يتعسف عليها صاحبها ويلوي عنقها من أجل ضمان مشاركة في مهرجان، أو يلجأ إلى تجميع كلمات متنافرة يقرصنها من هنا وهناك، فلا حدث يلحم سداها ولا حبكة تقيم بنيتها، فيؤلف منها قصته القصيرة جدا، وقد عبر الكاتب عن هذه السلوكات ب"قصص تحت الطلب" يطلبها "كويتب" القصة القصيرة جدا، والتصغير للتحقير كما هو جلي، من كاتب آخر.
وحين تسعى كاتبة القصص القصيرة جدا اتخاذ سمت الشاعرة وتسعى إلى اعتلاء المنبر لإسماع صوتها، يقوم السارد بقمعها عن طريق حيلة جهنمية ناجحة، رأفة، بأذن المتلقي، فحري بها أن تظل ملتصقة بالأرض ولا تمد عنقها إلى الأعلى حتى لا تكل رقبتها "ماء مثلج" ص77.
وقد يلجأ كاتب القص الوجيز إلى صالونات التجميل لتتألق نصوصه، كما في قصة "غيْرة" ص: 51 التي تحكي عن كاتب قصص قصيرة جدا سعى إلى المشاركة في مهرجان، فلم يرقه ما كتب، فما كان منه إلا أن حمل بنات أفكاره إلى صالون تجميل تديره خليلة ناقد كبير، فإذا بالقصص تتأنق وتتجمل، بل الأكثر من ذلك تصبح متعددة الاستعمالات يمكن قراءتها شعرا كما يمكن قراءتها قصصا، مما ولد خلطا بين الأجناس لا تداخلها، كل ذلك بسبب النقد غير الأكاديمي الرصين، إذ لم يعد يهتم بالمعايير العلمية في قراءة النصوص بقدر ما اهتم بالولاءات والإخوانيات، فأصبح نقدا تحت الطلب، كما القصة القصيرة جدا التي صارت، هي الأخرى، تحت الطلب. الأمر الذي أساء إلى الإبداع كثيرا وفتح الطريق أمام الغث والهجين.
عن القصة/الرسالة:
في نصيص قصير جدا يغيب فيه الحدث وتحضر فيه أسماء كتاب القصة القصيرة الذين لمع اسمهم في سماء الإبداع، وكانت لهم بصمتهم التي لن تمحى؛ من أمثال: غوغول صاحب المعطف الخصيب، ويوسف إدريس، وأحمد بوزفور، يشير السارد، بنقده اللاذع الذي تبناه أداة فعالة للفضح في عمله، إلى مسعى القص الوجيز الانتساب إلى تلك الأسماء بحثا عن شرعية ما، وتأصيل مطلوب ومرغوب فيه، بيد أن عنوان النص يسخر من مثل هذا المسعى، إذ يراه مستحيلا، فلا يمكن للقمم أن تنحدر إلى الأسفل. لذا، تحتاج رأس القص الوجيز إلى رتق حتى تتوقف عن تلك الأحلام والهذيانات، وألا تظل مفتوحة على الوهم.
صرخة السارد/صرخة المبدع:
بعد أن وجه سهام نقده اللاذع لمختلف الأطراف السابقة، نجده في قصة "ذات جمعة مباركة" ص45، يعتلي منبر الخطابة بعد تغيب الخطيب، ليصب نقده الساخر على القصة القصيرة جدا وأشباه المبدعين فيها، ويسخر من سعيهم، ومما جاء في الخطبة التي ألقاها في حضرة المصلين قوله: "أيها القوقجيون اسمعوا وعوا، وليبلغ الحاضر منكم الغائب" ص: 48، وقوله في حواره مع أحد السائلين عن معنى القوقجيين: "أستاذ من فضلك ما معنى ال ق ق ج؟/ تعني القصص القصيرة جدا/ في أي التفاسير أجدها؟/ عليك بالقوقجيين" ص: 50.
هكذا يصور السارد/الخطيب القصص القصيرة جدا بأنها قصص لا عمق لها ولا جمال، ويبدو أنه قد أصدر حكما عاما وقاطعا، ونرى أن كل حكم لن يكون إلا جائرا وغير موضوعي. فالأحكام العامة مضللة، لا تسهم في التطور، هي صارمة كالسيف، تقطع أعناق الكل، غير مدركة أن نصوص كل الأجناس، فيها الغث والسمين؛ وهو ما يدركه المبدع في إشارته إلى الشعر الذي شهد هو الآخر اجتياحا.
كما يبدو أن سخرية القاص من القصة القصيرة جدا باعتبارها جنسا إبداعيا؛ هو نقد تبخيس. فالنصان القصيران الواردان في العمل بعيدان كل البعد عن القص الوجيز، لا تتوفر فيهما شروطه في حدها الأدنى وإنما يعبران عن موقف من الفاعلين فيه، ودعوة إليهم لكي يراجعوا ذواتهم دون أن تأخذهم العزة بالإثم. فجميل أن تمارس الكتابة الإبداعية فوضاها من منظور مضاد لنظام التكريس والتعليل والأمثلة، وجميل أن تستشرف أشكالا وتقنيات جديدة، ولكن بالقدر الذي يضمن لها أصالتها وإبداعيتها، ومن ثم فاعليتها في التعبير والتغيير.
عن المرسل إليه/المتلقي:
وحين ننتقل إلى هذا الركن يتجلى لنا النقد اللاذع بجلاء حيث يظهر موقف السارد ومن خلفه الكاتب للقص الوجيز، فنرى هذا المتلقي غائبا غير متابع، أو تكون القاعة فارغة تتابع ببلاهة حروف الملقي. ففي قصة "قصة طرية جدا يستحسن التهامها وهي ساخنة" ص23، يلقي السارد نصه الذي اختاره عن قصد بعد خلافات حادة بين القزميات، غير عابئ بنوم رفيقه، وخلو القاعة من التصفيق. وفي قصة "دعوة" ص27، ينحني القاص للكراسي الفارغة التي بادلته صمتا بأحسن منه. أما في قصة "غيرة" فيرتفع منسوب السخرية من كاتب القص الوجيز/الشعر الوجيز، حين يتوهم أن إغماءة الخنساء دليل غيرة.
عن التقنيات:
اعتمد المبدع على السخرية باعتبارها الأسلوب الأكثر ملاءمة للكشف عن الأمراض والعلل التي تنخر جسد الإبداع؛ فقد كانت عابرة لمختلف مفاصل الحكي، من شخصيات وحوار ووصف، ومن خلال مقاطع سردية وتوظيفات معجمية ولغوية، مما يجعل منها بنية فنية أو خطابا يؤلف بين أجزاء النص القصصي ويرتاد به عوالم التجريب.
المفارقة الساخرة:
كما في هذا المقطع: "فمنذ أن من الله عليه بحفظ بيت شهير من الشعر لصاحبته تماضر بنت عمرو، إبان مسيرته التعليمية المظفرة في أحد فصول المرحلة الثانوية والذي قضى فيه ثلاث سنوات حسوما" ص: 11. فكلمة حسوما مستوردة من الآية الكريمة "الحاقة، "قال تعالى: ﴿ثمانية أيام حسوما﴾ فالمفارقة الساخرة تنهض من التقابل اللغوي بين تكراره المتتابع والمشؤوم في فصل واحد، وبين مسيرته التعليمية المظفرة. وهي مفارقة تتغيى التنقيص من شأن هذا الرجل والتهكم من مستواه الثقافي الهزيل، والذي لا يتجاوز بيتا من الشعر لصاحبته الخنساء، ومع ذلك يتجرأ على الإبداع.
فالسارد يسخر ممن يقتحم مجال الإبداع وهو صفر الذهن والذوق.
التناص الساخر:
والمثال السابق يعبر عن هذا المسعى، إذ النص الغائب يحضر إما لتعضيد المعنى المراد، أو السخرية من الشخصية حين يتم تحويره، بقلب معناه حتى يؤدي المطلوب المراد تبليغه. كما في العبارتين التاليتين:
"كجلمود صخر حطه السقف من عل" ص: 27، وكذلك "لا تنابزوا بالأقلام" ص: 48، فالعبارة الأولى تبدل السيل بالسقف، لتعبر عن المعنى الشعبي الناقد للتطفل، فالرجل طارئ على حقل الإبداع، ورغم ذلك يتجرأ على الكتابة. أما الثانية فهي من القرآن، مع بعض التحوير الذي طال الكلمة الثانية، حيث صارت الألقاب أقلاما، وينطوي هذا التغيير على سخرية مرة من الصراع الفارغ بين الكتاب، حيث يستحضر القارئ المعنى المتضمن في الآية، ويسحبه على السياق الجديد؛ فالآية تنهى عن التنابز، وتراه فعلا سيئا، وسارد القصة يراه مستفحلا بين كتاب القص الوجيز، في صراعهم على الريادة والشهرة.
وفي قصة "ذات جمعة مباركة" ص45، يمكن أن نستل من خطبة السارد وقد صار خطيبا، مقابلة دالة، حيث تم تهريب النقاش إلى المسجد في يوم الجمعة المباركة، مما يشي بالقدسية مقابل الدنس الذي يرتبط بالققجة، ذلك أن كل منهي عنه لا يمكن إلا أن يكون مدنسا، مما يخلق تعارضا بين الأعلى والأسمى وبين الأسفل والأدنى؛ وهي المقابلة نفسها التي نجدها في المقتطف التالي من طلب الكويتب: قصة ما سمعتها أذن ولا قرأتها عين ص20، مقابلة تتولد من خلال التقابل بين الإثابة بعد جهد ومجاهدة كما في الأصل، وبين الرغبة في الحصول على ما لا نستحق بسهولة، ودون تعب أو كد. الأمر الذي يدفع الكاتب المخاطب إلى منح الكويتب ما يستحقه ووفق طلبه: ... !
فالمقتطف هو آية قرآنية تعد المؤمنين بالخير، تم تحويرها لتناسب المقام، وتضع القارئ أمام ثنائية ضدية؛ وهي: الأسمى والأعلى للمؤمنين الطائعين، مقابل الأدنى والأسفل للكسالى المتسلقين.
القلب والتحوير:
كما يستثمر الكاتب تقنية القلب والتحوير في توظيفه للألفاظ أو العبارات، فعلى مستوى استعمال اللفظ نجد: «كاتب مطمور» ص: 44 بدل أن يقول مغمورا، و»قصيردته» ص: 27، بدل قصيدته، و»البهرجان» ص: 71 بدل المهرجان.
الوصف الساخر:
إضافة إلى ما سبق، نجد الكاتب يستثمر الوصف الذي يعتبر سمته المميزة في كل أعماله، فمن خلاله يخلق الكاتب وضعيات ساخرة وخاصة حينما يتعلق الأمر بالسخرية من الشخوص، كما في هذا الوصف الذي خص به ذلك الكاتب الذي تاق إلى الشهرة تماما كما بلغها صخر مرثي الشاعرة الخنساء بعد حفظه لبيت من أبياتها الشهيرة "وإن صخرا لتأتم الهداة به**كأنه علم في رأسه نار"؛ هذا البيت الذي قدح فيه نار الغيرة، يقول: "ومن شدة أوار هذه النار تفحم وجهه، واكفهر دم قلبه، وولاه شيطان إبداعه إسته المشوي" ص: 12، فهذه العبارات الواصفة ليس من هدف وراءها سوى الاستهزاء والسخرية بشخص أراد أن يبلغ الشهرة ويقتحم مجال الإبداع برصيد معرفي لا يتعدى بيتا واحدا من الشعر، ولعل في قول الكاتب: "ولاه شيطان إبداعه إسته المشوي" أبلغ تعبير عما يمكن أن يصل إليه هذا المبدع من نتائج.
وفي موضع آخر يصف كاتبا معتدا بنفسه مغرورا بما يذيعه في حقه مقربوه من إطراء قائلا: «يصبو أن ينال إحدى الجوائز الأدبية العالمية، أقل ما يطمح الحصول عليه هي الغنكور أو البوكر.. ولم لا الازدواجية.. حلال عليه أن يجمع بين الأختين وحتى الجدة نوبل[…]بما أنه استحلى ارتداء خرقة الكبرياء المرصعة بلآلئ الغرور، فمن المؤكد أنه سيحصد من البطائق الحمراء ما يجعل مؤخرته تتورم في دكة الاحتياط»ص: 44، فأسلوب القلب لعب دورا مهما في إبراز العيوب والسخرية منها.
ولم يكتف الكاتب بلمز القصة القصيرة جدا فقط، بل وجه سهامه إلى جنس الشعر أيضا، وإن بشكل عابر، نظرا لما تعرفه القصيدة هي الأخرى من فوضى ومن اختزال شديد يكاد يذهب بمقوماتها الفنية، ففي قصة "ماء مثلج" ص: 77 يظهر موقفه الرافض لهذه الكتابات التي جنست نفسها شعرا، ولكي يظهر ضعفها جعل صوت القصيدة يبح وهي تعتلي المنصة لتشنيف أسماء الحضور بمجرة شربة ماء بارد فلم يسمع منها سوى "صوت الهواء صوت مبحوح جدا جدا جدا" ص: 80
ولابد لنا من الإشارة، قبل الختم، إلى بعض الملاحظات التي لا تنال من قيمة العمل، منها:
التعاقد بين القاص والقارئ:
نرى أن عنصر القصصية يغيب في مجموعة من النصوص مما يخل بالتعاقد المبرم بين الكاتب والقارئ، حتى إننا نشعر وكأن السارد يقيم دردشة حول القص الوجيز بغرض تبخيسه، وتحقيره. فالمنطلق المتحكم في جملة نصوص العمل هو التحامل.
ثم إننا نتساءل عن مسالة القصة في نصين جاءا مجرد حوار محض بين شخصيتين حول مسألة القص الوجيز.
والحوار نوعٌ من أنواعِ النصوص الأدبية يجري بين شخصين، أو أكثر، والهدف منه توصيل فكرةٍ ما إلى الشخص الذي يقرأ النص الحواري، وأيضاً يعرفُ النص الحواري بأنه وسيلةٌ من الوسائل المستخدمة في توضيح موضوعٍ ما بالاعتماد على وجود حوارٍ ينقلُ الأفكار المرتبطة بالموضوع بأسلوبٍ واضحٍ. نستنتج من هذا أن نصوص الحوار لا تدخل مجال القص حتى ولو اشتملت على بعض مشمولاته من قبيل الشخصيات والموضوع..كونها تسعى إلى تبخيس القصة القصيرة جدا؛ وهو هدف تشاركهما فيه مجمل نصوص العمل. وهي أقرب إلى المشهد المسرحي، خاصة وأنها تشتمل على قليل من الإرشادات الداخلية.
خاتمة:
تميز عمل المبدع أحمد بلقاسم بأطروحته النقدي للقصة القصيرة جدا من منطلق الغيرة على الإبداع الذي اقتحمه الفاشلون بغاية غير أدبية، تتجلى في نيل الشهرة، وحضور المهرجانات لإشباع بطونهم وغيرها؛ وقد بلغ مطمح بعضهم درجة من السفاهة حد الرغبة في نيل الجوائز الكبرى؛ فكان من الضروري من نقد مسعى هؤلاء بسخرية قد تردعهم، وتعيد الأمور إلى نصابها، لا سيما في غياب شبه كلي للنقد الموضوعي الصارم. كل ذلك في قالب قصصي ساخر يعتمد الرمز والإيحاء، والإشارة بعيدا عن التقريرية. كما يتجاوز السرد المباشر إلى ماهو بياني ومجازي ضمن بلاغة الانزياح والخرق الجمالي.
***
استفدنا من المرجع التالي:
محمد رحو: مقولات الإبداع في المجموعة القصصية «رأس تحتاج إلى ترتيق» للقاص أحمد بلقاسم.