أحمد شحيمط - نيتشه وسؤال الحقيقة

  • نيتشه والتفكير في الحقيقة
الشائع في الفلسفة من خلال تاريخها الطويل أنها ظلت في بحث دائم عن الحقيقة ، والقصد هنا يعني الحقيقة الثابتة والنهائية، وليست الحقيقة النسبية التي تنسب الى فيلسوف بذاته، عالم الحقيقة بمنأى عن الشك في البديهيات واليقينيات الراسخة، والتي تعني اعادة النظر في احادية الحقيقة ومعايير بنائها وترسيخها في الوجدان وفي أعماق الفكر الخالص ، تلك أهم الافكار التي سعى فيلسوف المطرقة والنقد الجدري لفهم وهدم أسس ومعالم الحقيقة كما وضعها الفلاسفة من سقراط الى هيجل، وحتى أولئك الذين تأثر بهم نيتشه ومنهم شوبنهاور. فهل كان الفلاسفة على صواب في الفصل بين الحقيقة والحياة؟ وهل يملك نيتشه النظرة الثاقبة في بناء معيار جديد للحقيقة وتخليصها من القيم الثابتة ؟
من يقرأ نيتشه سوف يخرج بانطباعات كثيرة بخصوص افكاره المتناثرة واللانسقية . يكتب شذرة وينقلك الى عالم اخر في دورة سريعة، من عالم الفكر والاخلاق والقيم، جولة لا محدودة في معالم النقد واغوار النفس الانسانية، وفي تجليات المنسي، استمد اراءه من نفسه ومرضه، ومدين للوحدة والنظرة الثاقبة للحياة، وعزلته عن الناس والسفر في امكنة مختلفة والعودة من جديد للواقع والتاريخ من خلال عمله كباحث في ميدان الفيلولوجيا، منقبا في تاريخ الافكار والاحداث والمذاهب الفكرية والاخلاقية . يبحث الفيلسوف عن أفق لأجل بناء منطق جديد للإنسانية، ويرمم أزمة الحضارة الغربية التي اخترقت في صميمها بفعل ثقافة عدمية وانحطاط اخلاقي في هيمنة الافلاطونية والمسيحية، وتغلغل الفكر الخالص في مفاصل الحياة لإعادة انتاج الماضي . وعندما يلامس الناس فلسفته يولد من جديد، وتولد العقول الحرة ويتحقق الانسان الاخير من ركام الازمات. ارادة القوة والزيادة في قدرة الانسان على الظهور والميلاد ، ليس الانسان على شاكلة محددات عصر الانوار أو العصور الحديثة ، مواصفات الانسان الحر المتحرر من هيمنة القيم الراسخة والمفاهيم التي شكلت الثقافة الغربية، من الحرية والمساواة في الليبرالية، واخلاق القساوسة والضعفاء، ضد السادة الاحرار من الطبقة الارستقراطية، وبذلك يعتبر نيتشه الحياة اليونانية أرقى بكثير من الحياة المسيحية وخصوصا في النفع الحيوي للنوع، وإقبال الناس على الحياة، وما يتعلق بالغريزة والنشوة في وحدة متكاملة بين ديونيزوس وأبولون، من الالهة في الأساطير الاغريقية. ففي عالم الفلسفة كان نصيب الحكماء السبعة كبيرا عند تحليل آرائهم ومبادئهم، ويعتبر طاليس كبير هؤلاء الحكماء الذي عُد أول الفلاسفة حسب نيتشه لأنه من فكرة غريبة عن مجتمعه صنع عالما من الافكار والتأملات في الوجود عندما قال أن الماء أصل الاشياء . فكانت نوايا وحدس الفيلسوف تحقيق للفكرة في ميلاد الفلسفة من الدهشة .
  • نقد الحقيقة وقلب القيم
من أكثر الفلاسفة إخلاصا لأفكارهم ونقدا للمفاهيم الفلسفية خصوصا الحقيقة والهوية والتطابق والذاتية والعقل يعتبر نيتشه فيلسوف من عصر اخر في سعيه الدائم نحو كشف الحقيقة والمعنى، في انقلاب للقيم وانقلاب الفلسفة على نفسها مستعينا بالية النقد والقراءة في اعماق الفكر وترسبات الحقيقة، وما ترسخ في الوعي من حقائق مزيفة ، من فرط قدمها نسينا انها حقائق يقينية، بل أوهاما نسينا انها كذلك ، والوعي عند نيتشه لم يتطور بصفة عامة، الا تحت ضغط الحاجة الى التواصل ، ولم يكن الوعي ، منذ البداية ضروريا ونافعا الا داخل علاقات الانسان بالإنسان ، خاصة بين الذي يصدر الاوامر والذي يطيع ، وتبعا لدرجة هذا النفع كان يتطور(1)، وعي الانسان غير منفصل عن الحاجة والضرورة في مجابهة القوة والتكتل ضد القهر، ووضع القوانين التي كانت من فعل الضعفاء وليس من الاقوياء ، وفي عملية الابحار في تاريخ الاخلاق يشير نيتشه الى صنفين لا اكثر: أخلاق السادة وأخلاق العبيد ، والحياة معارضة للضعف والشفقة، تعبير عن القوة والفرح ، والافكار ليست بمقياس افلاطون في عالم المثل والفضائل الاخلاقية المثالية كالعدالة ، في الخير يتجلى الشعور بالقوة، وفي الشر الشعور بالضعف، وما وراء ذلك تتجلى ارادة الانسان في تجاوز ذاته والارتقاء من الادنى الى الاعلى، ولن تتحقق رغبة نيتشه الا بتجاوز الفكر الثابت، والاعلاء من الغريزة والحياة للحفاظ على النوع. الحياة التي يؤكدها نيتشه بوصفها الحياة الصاعدة ، التي تحكمها اخلاق السادة ، هذه الاخلاق التي تعلي من القيم الايجابية التي تثبت كل ما هو حيوي، وتكرس حق السيطرة والاستقلال ، إنها حياة خلاقة ومبدعة لأنها تقرر في كل لحظة ما هو كائن وما ينبغي ان يكون (2)، الاقوياء هم الطيبون، اصحاب المراتب، في مقابل الضعفاء أصحاب القيم المنحطة والسلبية ، قيم الخنوع والاستسلام ، ومن هنا كانت حاجة نيتشه في تحطيم الاصنام دون العودة الى الوراء في استلهام الحقيقة من افواه الفلاسفة، ومن ترانيم القساوسة وتعاليم بولس، علما أن عودة نيتشه الى الوراء للروح اليونانية وحكمة الحكماء السابقين على سقراط وافلاطون دليل على حيوية هذا الفكر الذي انطلق من الطبيعة والدهشة، وفتح افقا جديدة في التفكير .

العقل الحر أساس التقويم في الاخلاق ، هذا العقل الخلاق الذي تحرر من الاسطورة شيد أولى الينابيع الاولى للفلسفة، وفي ذلك الزمن تجلت الحقيقة في بعدها الذاتي والموضوعي معا، وفي عودة الفيلسوف نيتشه للتراث الفلسفي اليوناني قبل سقراط، حتى يكشف عن اعجابه بالحياة وبالفن التراجيدي في اقبال الناس على الحياة، رغم ما فيها من قسوة، والفن أبلغ تعبير عن روح الانسان ، والموسيقى الوسيلة الوحيدة للخلاص في الحياة لأتها تصوير دقيق لإرادة الحياة في تدفقها التي هي الوجود ، والفن اندماج لقوة ديونيزوس وجمال أبولون، تقابل بين القوة والنشوة والاعتدال والتنظيم، بين الانفلات والتوازن في عملية مستمرة للإعلاء من الغرائز والحياة، ولم تنفصل هذه الثنائية الا بفعل فلسفة سقراط في الفضيلة، وعند أفلاطون في الفصل بين عالم الحقيقة وعالم الظواهر، واستمر الانحطاط في الفكر حتى اكتشف نيتشه فكر شوبنهاور والموسيقار الالماني فاغنر .
  • الحقيقة والحياة
يشتد نقد نيتشه للقيم الراسخة بفعل العقل والفكر الخالص ، حقائق قسمت العالم الى مزيف وحقيقي . عالم العقل الخالص والقواعد الثابتة التي ارسى دعائمها الفلاسفة ومنهم سقراط، والذي كان ينتمي حسب نيتشه الى أكثر الدهماء دونية ، كان سقراط رجل الشعب ، نعرف ، ويمكن كذلك ان نلاحظ كم كان سمجا ، لكن القبح ، الذي كان في حد ذاته اعتراضا، كان بالنسبة للإغريق مبرر رفض ، تقريبا، من جهة اخرى، هل كان سقراط إغريقيا ؟

غالبا ما تكون السماجة تعبيرا عن تهجين، عن نمو معاق بفعل التهجين(3)، هذا الرأي العنيف اتجاه سقراط وقيم الانحطاط مرده للقيم الاخلاقية والمثل العليا التي وضعها سقراط، في تعلم شباب أثينا هذا النوع من الفن الجديد الذي يكرس الفضيلة، وضد الغرائز التي كانت تغرق في الفوضى، وأنها بداية انحطاط اثينا ، في مقاومة الغرائز والحياة لصالح الفضائل ونيل السعادة . فالعقل صنم وجب تحطيمه، ولم يتولد عنه الا الاخطاء، فلا يستعمل الانسان العقل الا للطمح في العواقب الحميدة، وليس في قول الحقيقة ، ضريبة القول تؤدي بالإنسان الى اضرار لا يريدها ولا يُقبل عليها ، والعالم الذي يريده العقل اقامة الدليل عليه، ليس في نظر نيتشه الا تخيلات، ولم تعد هذه الفكرة تجدي نفعا الاخلاق المضادة للطبيعة ، أي تقريبا الاخلاق الملقنة ،الممجدة المنصوح بها الى هذا اليوم ، تسير على العكس تماما ،ضد غرائز الحياة(4) ، الاخلاق الافلاطونية والاخلاق المسيحية ومثالية الفلاسفة في التمييز بين عالم الظواهر والشيء في ذاته خصوصا عند كانط ، تلك اخلاق ضد الحياة وليست مقياسا للطبيعة المعادية لكل ما هو منحط وتافه، يقلل من حيوية الانسان في الاعلاء من ذاته ومن قيمة الحياة.

فالوجود الحقيقي هو الحياة، والحياة ليست الا ارادة، وهذه الارادة ليست في نهاية الامر الا ارادة القوة(5)، صراع الانسان مع ذاته، وخلق قيم ضد العدمية السلبية، وثقافة الانحطاط التي جاءت من ترسبات الحقائق التي ترسخت بفعل العقل واللغة، الاخيرة بوصفها استعارات وصور بلاغية، وأفكار تغلغلت في اعماق الفكر الخالص فأصبحت يقينيات يسلم بها الانسان، فلا زالت الحقيقة تقدم ذاتها على أنها كذلك يقينية ومطلقة وخالصة. فمن اضداد الحقيقة ينكشف بريق الحقيقة ووهجها في ازالة الحجب عنها، عندما يتم كشف أخطاء العقل، وثبات الحقائق في عودة للوراء لأجل تعرية الحقائق، والانطلاق من الاخطاء والكذب والاوهام، بالمطرقة يصبح الفيلسوف طبيب الحضارة في التشخيص والتنقيب . صراع نيتشه وسط الافكار والآراء ، ليس الا صراعا من أجل الحياة نفسها والسمو بها، نضال شاق في سبيل أن يجعل للحياة معنى ومغزى ، وأن يكتشف كيف يكون الرقي بها والاستعلاء(6)، ولذلك كان نقد هيدغر لنتشه من زاوية التأسيس للوجود والموجود من خلال قيم راسخة في ذهنه للبحث عن نموذج الانسان الأعلى" السوبرمان"، من منطلق ارادة القوة في السيطرة والتحكم والتجاوز للذات.فالحياة لا تفتح دراعيها الا للأقوياء، ارادة الحياة تعني السيادة والتحكم، والجسد هو من يوجهنا الى ارادة القوة وليس الوعي، وبالتالي يربط نيتشه الحقيقة بالحياة وقوة الاقوياء، فتتخذ هذه الحياة مسارا بيولوجيا وليس تاريخيا، أو هكذا نجد لمسة علمية من الداروينية في فكر نيتشه أو لنقل بالذات تشعب أفكار الفيلسوف المستمدة من عدة عناصر متشابكة سرعان من يتخذها الفيلسوف عناصر في التحليل والتفنيد، وينقلب على صاحبها لان الافكار تتدافع في ذهنه، وتنبثق من المعاينة والتجربة والنقد، أمله أن يصير زرادشت – نيتشه – فيلسوف المستقبل، يولد من جديد، وينبعث فكر الامل الذي يعني تجسيد ارادة القوة، وتجاوز عيوب الانسانية ونواقصها، ويشكل هذا الفعل مقومات الفكر المستقبلي، يدرس في الجامعات ويبعث في الحياة لونا جديدا من الامل والنشوة بعدما تسربت ثقافة الانحطاط والعدمية السلبية للفكر والعقول، فلا بد أن تنبثق الحقيقة من الحياة، وليس من الافكار المحنطة والبائدة، من رحم الخيال المريض للفلاسفة المثاليون والحالمون بالفضيلة دون رؤية واضحة للسلوك الانساني المبني على المنفعة وحفظ النوع، وصراع الانسان من أجل البقاء.
الهوامش :
  • (1) فريدريك نيتشه " العلم المرح " ترجمة حسان بورقية – محمد الناجي . افريقيا الشرق 1993 الطبعة الاولى ، ص217
  • (2)نبيل عبد اللطيف " فلسفة القيم - نماذج نيتشوية "- التنوير للطباعة والنشر بيروت ص 28
  • (3)ف . نيتشه " افول الاصنام " ترجمة حسان بورقية – محمد الناجي، افريقيا الشرق الطبعة الاولى 1996 ص 19
  • (4)ف . نيتشه " افول الاصنام " ص40
  • (5)عبد الرحمان بدوي " نيتشه "وكالة المطبوعات الكويت ، الطبعة الاولى 1975 ص215
  • (6)عبد الرحمان بدوي " نيتشه " ص89

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى