نظر الممثل إلى الكاميرا وهو يمسك المسدس بيده ، وضعه داخل فمه مستعدا متوثبا ، ينتفض خوفا ويتداعى رعبا ، الجميع ينتظر إطلاق الرصاصة الوهمية داخل فمه .. يزحف الإبهام على جلد الزناد المبطن ببطئ ، ينظر إلى الكاميرا من جديد ، يضغطه بقوة وشراسة ..
ما حدث لم يكن متوقعا ؛ إذ انفجرت جمجمته إلى أشلاء تناثرت فوق الأرضية السوداء ، كأنها قنبلة تمزقت إلى أجزاء .
هجمت الدهشة كالانفجار فطوقت الألسن لثانية بدت وكأنها خارج نطاق الزمن ، أحقيقة ما حدث أم أنه وهم تختلقه الأعين ؟!
انقشع رويدا دخان المفاجأة الكثيف ، وأدرك الجميع حقيقة ما حدث ، فندت الصرخات عن بعض الأفواه المرتعبة ، وانطلق الشرر من الأعين البازغة المذهولة .
بقع الدماغ الحمراء تنتثر على الأرضية السوداء ، كأنها لوحة فنية .
تسارع الجميع في خطاه وضج المكان بالحركة ، فابتعد من ابتعد واقترب من اقترب .. ولكن لا شيء يغير الحقيقة المثبتة ، لقد مات الممثل !
جرت التحقيقات حثيثة بلا جدوى داخل أوستوديو 21 .. من الذي عبث بالمسدس ؟! ، ومن هو آخر شخص لمسه قبل تصوير المشهد ؟! ، ومن له مصلحة بموت الممثل ؟!
أسئلة بلا أجوبة ، فكل طريق يجر إلى جدار مسدود ، أمضى الجميع أياما طويلة عانوا في خضم مصاعبها شراسة التحقيقات وغموض الحقائق ، وامتلأت الأخبار بتفاصيل الحادثة المؤسفة ، وأخذ الجميع يتذكر مشهد موت الممثل كصورة مرعبة لا تفارق خيالاتهم ..
كانت كل فكرة أو دليل مجرد ظن فارغ وافتراضات عابثة ، تجر إلى مزيد من التعقيد والغموض ، فتم إقفال القضية لضعف الأدلة .
بدت المصيبة ثقيلة على الجميع ، وظن الكثير بأن ظلمتها لن تتلاشى .
ولكن لا شيء من حوادث الزمن تعجز عنه العادة ، تأخذه بين جناحيها وتلاطفه وترافقه وتحلق به بعيدا في آفاق الأمس الغابر ، إلى أن يتفتت في أعماقها كدخان تنفثه الريح .
لا بد للحياة أن تستمر ، ولا بد لكل شيء أن يسير في طريق أسبابه .
شكر منتج العمل ومخرجه حظهم ببهجة يخالطها شعور بالذنب ، فالمشهد كان أول مشهد يتم تصويره ، ولذا فسيكون استبدال الممثل سهلا .
سارت الأمور سريعة . وقف الممثل الجديد أمام الكاميرا متأهبا ، المسدس محشور في فمه ، قد تأكد من سلامته كل من يقف في موقع التصوير حرصا على عدم تكرار المأساة .
الجميع يتطلع قلقا متوترا ، صورة الذكرى الكئيبة تعود ثقيلة تجثم على أجواء المكان ، الممثل يضع إبهامه على الزناد استعدادا للتصوير ، ثم يلقي مزحة ضاحكة يسخر فيها من إمكانية موته المتوقع ، فيتلقاها الجميع بشيء من السخرية واللامبالاة .
بدأ التصوير ، فاتجه نحو الكاميرا ، وضغط على الزناد ، فانفجر رأسه أشلاء متناثرة على صفيح الأرضية السوداء .
ثمة شيء خاطئ !
نفس المشهد يتكرر مرة أخرى على أرض الواقع !
جرت التحقيقات سريعة وقاسية ومندفعة ، وتتابعت الأسئلة بلا توقف ، وثارت ضجة عارمة في وسائل الإعلام وبين الناس وفي كل مكان .. حيث كان المسدس خاليا من الرصاص أساسا ، كما أن عشرات من الأشخاص تأكدوا منه قبل بدأ التصوير .
الجميع بدأ يفسر بطريقته .. هنالك من أثبت وجود شيء خارق ، وهنالك من ابتكر أسبابا معقولة قد تفسر ما حدث ، وهنالك من توقف منبهرا أمام إعجازية اللغز الغريب ، وأخذ ينتظر الجديد بعجز واستسلام .
تم إقفال استوديو 21 مؤقتا ، ولم يسمح للطاقم بإعادة التصوير فيه بتاتا تحت أمر من السلطات إلى أن يتم كشف الأسباب .
ولكن كل الدلائل كانت فارغة وعديمة الجدوى ، أخذ المحققون يسهرون بالساعات في موقع الحادث ، بين الأدلة ومقابلة الشهود وترتيب لائحة المتهمين ، ولكن بدون فائدة .. كل شيء كان يكسوه غشاء الغموض ويتدثر برداء المستحيل .
وبعد مدة من التحقيق الحثيث بلا نتيجة ؛ تهاوى كافة المحققين أمام قوى عجزهم ، ورفعوا راية الاستسلام ، فتم افتتاح استوديو 21 من جديد .. ولكن بشروط رادعة .
الشرط الأساسي أن لا يتم تصوير أي مشهد يحتوي على أي مظهر من مظاهر العنف ، مؤقتا على الأقل ..
فعاود البعض العمل ، ورفض الآخرون رهبة وخشية .
لم يكن هنالك مسدسات ولا سكاكين ولا دماء ولا أي مشاهد حركية .. ولكن ثمة شيء غريب بدأ يحدث في الاستوديو .
ففي أحد مواقع التصوير بدأت الممثلة تبكي أثناء تصوير المشهد على فراق حبيبها ، واستمرت في بكائها بعد التصوير وهي تندفع لتقبله .. أخبرها الجميع بأن المشهد انتهى ولكنها ارتمت في أحضانه وهي تلثم فمه بفمها ، بينما يتهرب هو منها مرتبكا .
ظن الجميع بأن الإرهاق قد لعب بأعصابها ، فأخذها أحدهم إلى بيتها ، واستقبلها زوجها بقلق مع أولادها الصغار ، فاستسلمت خاضعة وادَّعت النوم .. ثم قامت في منتصف الليل وذهبت بسيارتها إلى منزل زميلها الممثل . طرقت الباب ففتح الرجل ، أخذ يتطلع فيها بذهول ، أما هي فارتمت في أحضانه مرة أخرى وهو يتملص منها ، ثم دخل متوترا وأقفل الباب عليها وهي تبكي بصوت متقطع .
وفي موقع آخر استلقى أحدهم على فراشه في غرفة الإنعاش وهو موصل بالأجهزة الطبية ، وأحاطه ثلة من الممثلين يفترض بأنهم أبناؤه قد حضروا لزيارته .
أخذوا يتضاحكون قبل التصوير ، فأبدى الممثل اشمئزازه من الأجهزة التي تطوق جسده ساخرا مستهزء .. بدأ التصوير ، فأخذ الممثل المريض ينظر إلى من حوله بأسى صامت ، وهم يتطلعون فيه بألم العاجز ولوعة المودع ، ثم أسلم الروح وقد أغلق عيناه ..
انتهى المشهد بنجاح ، ولكن الرجل لازال مستلقيا على فراشه ، ظن الآخرون بأنه قد نام ، وعندما اقتربوا منه اكتشفوا بأنه قد مات حقيقة .
وفي موقع ثالث كان هنالك مشهد بين رجل وزوجته على وشك ممارسة الجنس ، يستلقيان على فراش حريري أحمر ، قد اندفن كل واحد منهما في أحضان الآخر ..
انتهى المشهد وهما ينغمسان في قبلة حارة ملتهبة ، ولكنهما لم يتوقفا ، بل انطلقا يعبثان في بعضهما بحميمية واندفاع ، بدأ كل واحد منهما يخلع ملابسه منتشيا مستثارا ، فأخذ جميع الطاقم يتطلع فيهما بدهشة وذهول عاجز ..
ظن الجميع بأنها مجرد صدف غريبة ، لها علاقة بالإرهاق والتعب والتركيز وما إلى ذلك ..
ولكن أيمكن للصدف أن تهجم دفعة واحدة كجيش منظم ؟!
وهو ما حدث .. إذ تكدست الأيام اللاحقة بالأحداث الغريبة التي استمرت تزداد في غرابتها ، إلى أن بدأ الممثلون بفقدان هويتهم ، وهو التعبير الأدق لوصف تلك الحالة الغريبة ، حيث أصبح كثير منهم لا يعي بأنه خرج من المشهد ، فيستمر في ثوب الشخصية لعدة دقائق ، ثم زادت إلى عدة ساعات ؛ إلى أن يدرك حقيقته .. حتى أن أحدهم ضرب زميله الآخر لأنه استولى على سريره في زنزانة السجن !
ثم توغلوا لدرجة أن كل واحد منهم أصبح يعيش خارج الاستوديو بشخصيته ، فدخل أحدهم إلى بقالة وأطلق الرصاص على الجميع ، وآخر فجر نفسه في مجمع سكني للأجانب بعدما صنع القنبلة بنفسه ، وثالث انتحر وقد ترك رسالة يشكو فيها من بؤسه ، ورابع صنع دواء للسعال في مختبر بيته !
كان الوضع جنونيا لا يصدق ، فتم إقفال الأستوديو من جديد ، وخضع الجميع لتحقيقات صارمة كثف فيها المحققون جهودهم ، وضغطوا على كل من له علاقة بهذا الاستوديو اللعين ، من الرئيس إلى الفراش ، وطالب المسؤولون بتفسيرات سريعة مباشرة .. فهددوا وتوعدوا ووعدوا .
ولكن كالعادة ؛ كل شيء كان يقود إلى طريق مسدود .
وأمام فداحة النتائج وغموض الأسباب ، قررت السلطات العاجزة إقفال الأستوديو نهائيا .
استعاد بعض الممثلين عافيته ، أما البعض الآخر فلازال يعيش وهمه .
ظن الجميع بأن الموجة قد اختفت بكل غموضها وغرائبها ، وأن مصائب الأستوديو اللعين قد ذهبت بكل ما فيها ..
ولكن الأخبار حملت أحداثا جديدة ، حيث أن جميع الاستوديوهات المجاورة بدأت تعاني نفس المشكلة .
امتلأت القنوات بالمحللين والمفسرين ، الجميع يقرر بأن عالم الوهم بدأ يختلط بعالم الحقيقة ، وأنه يجب إغلاق الاستوديوهات نهائيا حفاظا على سلامة الناس .
بدأ الممثلون يمتنعون عن التمثيل ، وازداد الطلب على الأفلام والمسلسلات القديمة ، وارتفعت القيمة السوقية للأفلام الوثائقية لتضرب الأرقام القياسية ، واتجه الناس من جديد إلى الكتب بشراهة ، فبدأ الروائيون يكتبون أعمالهم بسرعة تماثل سرعة الطلب في السوق .
ما حدث أن روائيا كان يكتب عن شخصية مضطربة ، يجلس خلف طاولته في غرفته الأثيرة .. وفجأة ترك رزمة أوراقه ، ثم اتجه إلى النافذة وفتحها ، وبدون مقدمات ألقى بنفسه منها ، فسقط في الشارع وسط الصرخات المدوية .
وآخر تقمص دور محقق ضليع ، دخل السوبرماركت وأخذ يسير بين أفواج المتسوقين المتكدسة مزاحما بالأكتاف ، مندفعا بالأكف ، متلفظا بالشتائم ، متجها بحماس وتوتر نحو قسم الشامبو ، وهو يتلفت بعصبية ، يبحث عن جثة القتيل ..
ولكنه بالطبع لم يجدها . أخذ يصرخ بجنون وغضب ، ينطلق لهيب الشرر من نظراته ، يطالب الواقفين بالتفسير السريع ، أين ذهبت الجثة ؟! ، من الذي سرقها ؟! ، كيف تجرأتم ؟! .. الجميع يتأمله بذهول وعجز ، لا أجوبة هنا ، استدار ومضى مسرعا في خطواته ، يبحث عنها بين أقسام السوبرماركت .
وثالث كان يكتب عن تجربة امرأة في منتصف العمر ، تتجاذبها القناعات الجديدة وقيود التربية ، فلبس ثوبا نسائيا ودهن وجهه بالماكياج ، ثم دخل على مجلس للنساء ، فتم ضربه إلى أن دخل الإنعاش .
أخذ كل شيء يسير بسرعة جنونية ، حتى بدى التحول بكل غرائبه المذهلة المفاجئة وكأنه خارجٌ عن نطاق القدرة ، فلا يمكن السيطرة عليه .
فشل العلماء في حل اللغز ، واستسلم الباحثون وتداعى المفسرون واندحر الجميع في عجز كامل يسيطر على كل شيء .. حتى بدى الإعلام مستسلما بزمرة محلليه وكتابه وخطبائه ، وأظهر الناس الخضوع والخوف ، وتداعت السلطات في غياهب الغموض والتردد .
لا بد من اتخاذ إجراءات صارمة قبل فوات الأوان .. هكذا أخذ الجميع يطالب ويدعو بحزم وجدية ، الناس والإعلام والمسؤولون ، الجميع أحس بالخطر ..
ما فائدة الفن إذا كان يهدد الحياة ؟ ، ما فائدة الإبداع ؟ ، ما فائدة الكتابة ؟ ، ما فائدة الترفيه والاستعراض ؟
أسئلة بدأت تنتشر في كل مكان كالنار في الهشيم .. ضاربة بعرض الحائط أي احتمالات أخرى ، معرضة عن مئات من السنوات في دراسة إبداعات الوهم وفلسفاتها .
ولذا قررت السلطات مجبرة حظر أي عمل يحتوي على أي نوع من أنواع الوهم ، وأن أي شخص يمارس هذا العمل سيتم معاقبته بشكل صارم .. وتم إصدار قانون خاص بالحالة .
وحظَّت السلطاتُ الأهالي على ضرورة منع أولادهم ومنسوبيهم من ممارسة أعمال الوهم بكافة أشكالها وصورها ، ليس لشيء سوى لأجل سلامتهم الخاصة .
فتم إقفال مؤسسات الوهم ، وتُركت بناياتها الضخمة ومنشآتها المتعددة مهملة إلى أن تعطف الظروف وتلين الأقدار ..
ووجد العاملون فيها أنفسهم مجردين من كل قواهم ، يضيعون وسط عالم خاضع للواقع بلا وهم .
ما حدث لم يكن متوقعا ؛ إذ انفجرت جمجمته إلى أشلاء تناثرت فوق الأرضية السوداء ، كأنها قنبلة تمزقت إلى أجزاء .
هجمت الدهشة كالانفجار فطوقت الألسن لثانية بدت وكأنها خارج نطاق الزمن ، أحقيقة ما حدث أم أنه وهم تختلقه الأعين ؟!
انقشع رويدا دخان المفاجأة الكثيف ، وأدرك الجميع حقيقة ما حدث ، فندت الصرخات عن بعض الأفواه المرتعبة ، وانطلق الشرر من الأعين البازغة المذهولة .
بقع الدماغ الحمراء تنتثر على الأرضية السوداء ، كأنها لوحة فنية .
تسارع الجميع في خطاه وضج المكان بالحركة ، فابتعد من ابتعد واقترب من اقترب .. ولكن لا شيء يغير الحقيقة المثبتة ، لقد مات الممثل !
جرت التحقيقات حثيثة بلا جدوى داخل أوستوديو 21 .. من الذي عبث بالمسدس ؟! ، ومن هو آخر شخص لمسه قبل تصوير المشهد ؟! ، ومن له مصلحة بموت الممثل ؟!
أسئلة بلا أجوبة ، فكل طريق يجر إلى جدار مسدود ، أمضى الجميع أياما طويلة عانوا في خضم مصاعبها شراسة التحقيقات وغموض الحقائق ، وامتلأت الأخبار بتفاصيل الحادثة المؤسفة ، وأخذ الجميع يتذكر مشهد موت الممثل كصورة مرعبة لا تفارق خيالاتهم ..
كانت كل فكرة أو دليل مجرد ظن فارغ وافتراضات عابثة ، تجر إلى مزيد من التعقيد والغموض ، فتم إقفال القضية لضعف الأدلة .
بدت المصيبة ثقيلة على الجميع ، وظن الكثير بأن ظلمتها لن تتلاشى .
ولكن لا شيء من حوادث الزمن تعجز عنه العادة ، تأخذه بين جناحيها وتلاطفه وترافقه وتحلق به بعيدا في آفاق الأمس الغابر ، إلى أن يتفتت في أعماقها كدخان تنفثه الريح .
لا بد للحياة أن تستمر ، ولا بد لكل شيء أن يسير في طريق أسبابه .
شكر منتج العمل ومخرجه حظهم ببهجة يخالطها شعور بالذنب ، فالمشهد كان أول مشهد يتم تصويره ، ولذا فسيكون استبدال الممثل سهلا .
سارت الأمور سريعة . وقف الممثل الجديد أمام الكاميرا متأهبا ، المسدس محشور في فمه ، قد تأكد من سلامته كل من يقف في موقع التصوير حرصا على عدم تكرار المأساة .
الجميع يتطلع قلقا متوترا ، صورة الذكرى الكئيبة تعود ثقيلة تجثم على أجواء المكان ، الممثل يضع إبهامه على الزناد استعدادا للتصوير ، ثم يلقي مزحة ضاحكة يسخر فيها من إمكانية موته المتوقع ، فيتلقاها الجميع بشيء من السخرية واللامبالاة .
بدأ التصوير ، فاتجه نحو الكاميرا ، وضغط على الزناد ، فانفجر رأسه أشلاء متناثرة على صفيح الأرضية السوداء .
ثمة شيء خاطئ !
نفس المشهد يتكرر مرة أخرى على أرض الواقع !
جرت التحقيقات سريعة وقاسية ومندفعة ، وتتابعت الأسئلة بلا توقف ، وثارت ضجة عارمة في وسائل الإعلام وبين الناس وفي كل مكان .. حيث كان المسدس خاليا من الرصاص أساسا ، كما أن عشرات من الأشخاص تأكدوا منه قبل بدأ التصوير .
الجميع بدأ يفسر بطريقته .. هنالك من أثبت وجود شيء خارق ، وهنالك من ابتكر أسبابا معقولة قد تفسر ما حدث ، وهنالك من توقف منبهرا أمام إعجازية اللغز الغريب ، وأخذ ينتظر الجديد بعجز واستسلام .
تم إقفال استوديو 21 مؤقتا ، ولم يسمح للطاقم بإعادة التصوير فيه بتاتا تحت أمر من السلطات إلى أن يتم كشف الأسباب .
ولكن كل الدلائل كانت فارغة وعديمة الجدوى ، أخذ المحققون يسهرون بالساعات في موقع الحادث ، بين الأدلة ومقابلة الشهود وترتيب لائحة المتهمين ، ولكن بدون فائدة .. كل شيء كان يكسوه غشاء الغموض ويتدثر برداء المستحيل .
وبعد مدة من التحقيق الحثيث بلا نتيجة ؛ تهاوى كافة المحققين أمام قوى عجزهم ، ورفعوا راية الاستسلام ، فتم افتتاح استوديو 21 من جديد .. ولكن بشروط رادعة .
الشرط الأساسي أن لا يتم تصوير أي مشهد يحتوي على أي مظهر من مظاهر العنف ، مؤقتا على الأقل ..
فعاود البعض العمل ، ورفض الآخرون رهبة وخشية .
لم يكن هنالك مسدسات ولا سكاكين ولا دماء ولا أي مشاهد حركية .. ولكن ثمة شيء غريب بدأ يحدث في الاستوديو .
ففي أحد مواقع التصوير بدأت الممثلة تبكي أثناء تصوير المشهد على فراق حبيبها ، واستمرت في بكائها بعد التصوير وهي تندفع لتقبله .. أخبرها الجميع بأن المشهد انتهى ولكنها ارتمت في أحضانه وهي تلثم فمه بفمها ، بينما يتهرب هو منها مرتبكا .
ظن الجميع بأن الإرهاق قد لعب بأعصابها ، فأخذها أحدهم إلى بيتها ، واستقبلها زوجها بقلق مع أولادها الصغار ، فاستسلمت خاضعة وادَّعت النوم .. ثم قامت في منتصف الليل وذهبت بسيارتها إلى منزل زميلها الممثل . طرقت الباب ففتح الرجل ، أخذ يتطلع فيها بذهول ، أما هي فارتمت في أحضانه مرة أخرى وهو يتملص منها ، ثم دخل متوترا وأقفل الباب عليها وهي تبكي بصوت متقطع .
وفي موقع آخر استلقى أحدهم على فراشه في غرفة الإنعاش وهو موصل بالأجهزة الطبية ، وأحاطه ثلة من الممثلين يفترض بأنهم أبناؤه قد حضروا لزيارته .
أخذوا يتضاحكون قبل التصوير ، فأبدى الممثل اشمئزازه من الأجهزة التي تطوق جسده ساخرا مستهزء .. بدأ التصوير ، فأخذ الممثل المريض ينظر إلى من حوله بأسى صامت ، وهم يتطلعون فيه بألم العاجز ولوعة المودع ، ثم أسلم الروح وقد أغلق عيناه ..
انتهى المشهد بنجاح ، ولكن الرجل لازال مستلقيا على فراشه ، ظن الآخرون بأنه قد نام ، وعندما اقتربوا منه اكتشفوا بأنه قد مات حقيقة .
وفي موقع ثالث كان هنالك مشهد بين رجل وزوجته على وشك ممارسة الجنس ، يستلقيان على فراش حريري أحمر ، قد اندفن كل واحد منهما في أحضان الآخر ..
انتهى المشهد وهما ينغمسان في قبلة حارة ملتهبة ، ولكنهما لم يتوقفا ، بل انطلقا يعبثان في بعضهما بحميمية واندفاع ، بدأ كل واحد منهما يخلع ملابسه منتشيا مستثارا ، فأخذ جميع الطاقم يتطلع فيهما بدهشة وذهول عاجز ..
ظن الجميع بأنها مجرد صدف غريبة ، لها علاقة بالإرهاق والتعب والتركيز وما إلى ذلك ..
ولكن أيمكن للصدف أن تهجم دفعة واحدة كجيش منظم ؟!
وهو ما حدث .. إذ تكدست الأيام اللاحقة بالأحداث الغريبة التي استمرت تزداد في غرابتها ، إلى أن بدأ الممثلون بفقدان هويتهم ، وهو التعبير الأدق لوصف تلك الحالة الغريبة ، حيث أصبح كثير منهم لا يعي بأنه خرج من المشهد ، فيستمر في ثوب الشخصية لعدة دقائق ، ثم زادت إلى عدة ساعات ؛ إلى أن يدرك حقيقته .. حتى أن أحدهم ضرب زميله الآخر لأنه استولى على سريره في زنزانة السجن !
ثم توغلوا لدرجة أن كل واحد منهم أصبح يعيش خارج الاستوديو بشخصيته ، فدخل أحدهم إلى بقالة وأطلق الرصاص على الجميع ، وآخر فجر نفسه في مجمع سكني للأجانب بعدما صنع القنبلة بنفسه ، وثالث انتحر وقد ترك رسالة يشكو فيها من بؤسه ، ورابع صنع دواء للسعال في مختبر بيته !
كان الوضع جنونيا لا يصدق ، فتم إقفال الأستوديو من جديد ، وخضع الجميع لتحقيقات صارمة كثف فيها المحققون جهودهم ، وضغطوا على كل من له علاقة بهذا الاستوديو اللعين ، من الرئيس إلى الفراش ، وطالب المسؤولون بتفسيرات سريعة مباشرة .. فهددوا وتوعدوا ووعدوا .
ولكن كالعادة ؛ كل شيء كان يقود إلى طريق مسدود .
وأمام فداحة النتائج وغموض الأسباب ، قررت السلطات العاجزة إقفال الأستوديو نهائيا .
استعاد بعض الممثلين عافيته ، أما البعض الآخر فلازال يعيش وهمه .
ظن الجميع بأن الموجة قد اختفت بكل غموضها وغرائبها ، وأن مصائب الأستوديو اللعين قد ذهبت بكل ما فيها ..
ولكن الأخبار حملت أحداثا جديدة ، حيث أن جميع الاستوديوهات المجاورة بدأت تعاني نفس المشكلة .
امتلأت القنوات بالمحللين والمفسرين ، الجميع يقرر بأن عالم الوهم بدأ يختلط بعالم الحقيقة ، وأنه يجب إغلاق الاستوديوهات نهائيا حفاظا على سلامة الناس .
بدأ الممثلون يمتنعون عن التمثيل ، وازداد الطلب على الأفلام والمسلسلات القديمة ، وارتفعت القيمة السوقية للأفلام الوثائقية لتضرب الأرقام القياسية ، واتجه الناس من جديد إلى الكتب بشراهة ، فبدأ الروائيون يكتبون أعمالهم بسرعة تماثل سرعة الطلب في السوق .
ما حدث أن روائيا كان يكتب عن شخصية مضطربة ، يجلس خلف طاولته في غرفته الأثيرة .. وفجأة ترك رزمة أوراقه ، ثم اتجه إلى النافذة وفتحها ، وبدون مقدمات ألقى بنفسه منها ، فسقط في الشارع وسط الصرخات المدوية .
وآخر تقمص دور محقق ضليع ، دخل السوبرماركت وأخذ يسير بين أفواج المتسوقين المتكدسة مزاحما بالأكتاف ، مندفعا بالأكف ، متلفظا بالشتائم ، متجها بحماس وتوتر نحو قسم الشامبو ، وهو يتلفت بعصبية ، يبحث عن جثة القتيل ..
ولكنه بالطبع لم يجدها . أخذ يصرخ بجنون وغضب ، ينطلق لهيب الشرر من نظراته ، يطالب الواقفين بالتفسير السريع ، أين ذهبت الجثة ؟! ، من الذي سرقها ؟! ، كيف تجرأتم ؟! .. الجميع يتأمله بذهول وعجز ، لا أجوبة هنا ، استدار ومضى مسرعا في خطواته ، يبحث عنها بين أقسام السوبرماركت .
وثالث كان يكتب عن تجربة امرأة في منتصف العمر ، تتجاذبها القناعات الجديدة وقيود التربية ، فلبس ثوبا نسائيا ودهن وجهه بالماكياج ، ثم دخل على مجلس للنساء ، فتم ضربه إلى أن دخل الإنعاش .
أخذ كل شيء يسير بسرعة جنونية ، حتى بدى التحول بكل غرائبه المذهلة المفاجئة وكأنه خارجٌ عن نطاق القدرة ، فلا يمكن السيطرة عليه .
فشل العلماء في حل اللغز ، واستسلم الباحثون وتداعى المفسرون واندحر الجميع في عجز كامل يسيطر على كل شيء .. حتى بدى الإعلام مستسلما بزمرة محلليه وكتابه وخطبائه ، وأظهر الناس الخضوع والخوف ، وتداعت السلطات في غياهب الغموض والتردد .
لا بد من اتخاذ إجراءات صارمة قبل فوات الأوان .. هكذا أخذ الجميع يطالب ويدعو بحزم وجدية ، الناس والإعلام والمسؤولون ، الجميع أحس بالخطر ..
ما فائدة الفن إذا كان يهدد الحياة ؟ ، ما فائدة الإبداع ؟ ، ما فائدة الكتابة ؟ ، ما فائدة الترفيه والاستعراض ؟
أسئلة بدأت تنتشر في كل مكان كالنار في الهشيم .. ضاربة بعرض الحائط أي احتمالات أخرى ، معرضة عن مئات من السنوات في دراسة إبداعات الوهم وفلسفاتها .
ولذا قررت السلطات مجبرة حظر أي عمل يحتوي على أي نوع من أنواع الوهم ، وأن أي شخص يمارس هذا العمل سيتم معاقبته بشكل صارم .. وتم إصدار قانون خاص بالحالة .
وحظَّت السلطاتُ الأهالي على ضرورة منع أولادهم ومنسوبيهم من ممارسة أعمال الوهم بكافة أشكالها وصورها ، ليس لشيء سوى لأجل سلامتهم الخاصة .
فتم إقفال مؤسسات الوهم ، وتُركت بناياتها الضخمة ومنشآتها المتعددة مهملة إلى أن تعطف الظروف وتلين الأقدار ..
ووجد العاملون فيها أنفسهم مجردين من كل قواهم ، يضيعون وسط عالم خاضع للواقع بلا وهم .