عبدالرزاق دحنون - السومريون الأوائل

دَوَّن السومريون حكاياتهم وقصصهم وأمثالهم باللغة السومرية والخط المسماري على ألواح الطين. وهي تمثل عاداتهم وتقاليدهم وترسم صورة واضحة عن حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية قبل أكثر من خمسة آلاف عام في جنوب وادي الرافدين. ويمكننا القول بثقة: إن هذه القصص والحكايات والأمثال قد رويت و أُعيدت روايتها في أكواخ القصب وهذَّبتها شفاه أجيال عديدة من الأمهات السومريات قبل أن تُنقش بالخط المسماري على ألواح من طين دجلة والفرات, ومن ثم شاعت هذه الأمثال والحكايات عند مختلف الشعوب التي سكنت وادي الرافدين.

أول جنة

ما أشد ما يَعْجَبُ المرء كيف أُتيح لهذين النهرين العظيمين دجلة والفرات أن يمدّا ويرويا تلك السهول الرملية القاحلة , وأنهما بفيضهما أخصبا تلك البقاع التي عمرت بالزراعة , وجمعت الناس عليها يفلحون ويزرعون , وهيأت لتلك المدن الأولى أن تحيا من شبكات القنوات والسدود المعقدة التي بناها أهل سومر بكدهم وفطنتهم فصار جنوب وادي الرافدين جنات عدن تجري من تحتها الأنهار, واستقامت حياة البشر , فشيدوا لأنفسهم بيوتاً اتسعت لما لم تتسع له الكهوف الطبيعية من أسباب الراحة, وغدوا يستنبتون الأرض حول ديارهم, يكدحون في فلحها وبذرها وريّها, وحين أخرجت الأرض ثمارها, اقتربت حيوانات البر من منازلهم , فكسر البشر جدار الخوف القائم بينهم وبين هذه الحيوانات, فأصبحت أهلية تعيش في مزارعهم, وتعينهم في أمور معاشهم, فلحوا الأرض بالمحراث الخشبي الذي تجره الثيران, وحملوا أثقالهم على ظهورها, وتشاركوا اللبن مع إناثها, واستفادوا من جلدها في صنع ثيابهم ومن عظامها في صنع مخارزهم ومكاشطهم وسكاكينهم ومن ألواح أكتافها في صنع أمشاطهم لتسريح شعر أولادهم ونسائهم ومن روثها المجفف أشعلوا نار مواقدهم. ومع خروجهم من حياة الخوف من الطبيعة الموحشة إلى حياة الدور المعمورة والحقول المزروعة راحوا يمعنون الخيال, فظهرت الحكايات التي تؤنس وحشتهم قرب المواقد المضرمة في ليالي الشتاء الطويلة.

أول مدن

كان السومريون في الغالب ذوي وجوه بيضوية, متيني البنية, غليظي الرقاب, ذوي أنوف كبيرة ناتئة, وعيون مستديرة تسرُّ الناظرين, ولا يمكن القول إنهم خارقوا الجمال, ولكن وجوههم تنمُّ عن شخصية قوية مرحة ولطيفة. ولعل تماثيل "جوديا" حاكم مدينة" لكش" التي وصلتنا, وقد قُدت من حجر "الديوريت" الصلد, تُعطي صورة واضحة عن هيئة السومري الأصيل, فقد كان "جوديا" حريصاً على أن يُصوَّر في الكثير من تماثيله واقفاً مضموم اليدين, ماثلاً بين يدي الله في تواضع المواطن المؤمن البسيط, مرتدياً ثياباً كثياب عامة الخلق.
تقول الأساطير المدونة: إن بلاد ما بين النهرين كانت جنات عدن تغيب في ضباب كثيف لا حدود له قبل أن يقطنها البشر والحيوان. ونحن لا نعرف أفضل من ذلك. فتاريخ وادي الرافدين في تلك الفترة من عمر البشر يكتنفه الغموض .والسؤال الذي يخطر في البال متى كانت بدايات العائلة الحاذقة المنظمة التي ترسل أولادها إلى المدارس في وادي الرافدين؟

أول كلمات

أهل سومر من أوائل الشعوب التي عرفت القراءة والكتابة في تاريخ البشر. هذا ما تؤكده جميع الدراسات. ويعدون, من دون أدنى شك, من أكثر الشعوب التي شهدها العالم موهبة. ففي ممالك المدن السومرية والتي نستطيع ترتيبها جغرافياً من الجنوب إلى الشمال : أور, اريدو, لارسا, أوروك, لكش, أومّا, ايسن, أدب, نيبور, كيش, أشنونا, بابل, ماري. هذه المدن العامرة بالحضارة كانت أرقى الأماكن في العالم التي نشأت على حافة أحواض القصب في جنوب وادي الرافدين, وفيها ولدت الكتابة في حدود الألف الرابع قبل الميلاد.
بدأت الكتابة برسم شكل صورة الشيء, فمثلاً حين يريد السومري كتابة كلمة جاموس كان يرسم رأس الجاموس, وعندما يريد أن يكتب كلمة حنطة كان يرسم شكل السنبلة. ثم تطور الرسم إلى رموز بسيطة مالت نحو التجريد وخُطَّتْ بأقلام القصب على ألواح الطين الطرية. وفيما بعد تحولت إلى كلمات تأخذ حروفها شكل المسمار, ومن هنا جاءت تسميتها بالكتابة المسمارية, والتي بقيت سائدة في وادي الرافدين حتى سنة خمسين بعد الميلاد.
وقد شوى أهل سومر هذه الألواح الطينية في النار, فتحوّلت إلى فخار صلب منع عنها عاديات الزمان. وكمثال عن كيفية تطور و تأليف الكلمات, فقد كان السومري لا يعرف كيف يكتب فعل أكل, والذي يعد من الأفعال الأساسية في الحياة, فاخترع الفعل على الشكل التالي: فم + خبز = أكل -وهذا الاختراع المُدهش في بساطته وحصافته و عبقريته نقل تاريخ البشرية من المجهول إلى المعلوم - وأغلب الظن أن كلمة خبز عند أهل سومر باقية ما تزال في لفظة "نني" التي يطلقها الأطفال في الشمال السوري على الخبز مع بداية نطقهم لأولى الكلمات, أو في كلمة "نانات" وهي أرغفة من عجين القمح مقلية بزيت الزيتون يخبزها سكان المنطقة الشمالية من الهلال الخصيب .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى