(هل جربت سابقاً حياة الصعاليك)
أتعلمون من نحن؟ نحن من ننظرُ لكم بازدراء
نعلمُ حقيقتكم ،نرى وجوهكم الحقيقية
نجتمع حينما يحل المساء على حافات بيوتنا لنتبادل الحديث والكثير من الصلوات.
نعرفكم جيدا ،أنتم معشر الباقين على قيد الحياة .
كلنا هنا نعلمُ من نحن ومن أنتم!!!
نعلم خوفكم منا وتحاشيكم المرور بجانب بيوتنا واذا أرغم أحدكم يوما بأن يودع حبيبا له للسكنى بجوارنا فهو يأتي به على عجل مقشعر البدن ليودعه هنا ثم يتركه مهرولا ولا يأتي لزيارته بعد هذا ،نشعر بالحنين لكم أحيانا والشفقة أيضا، ليتكم عرفتم الحياة كما عرفناها لما تسابقتم نحو النور!
نسيت أن أعرفكم بي
أوووه !!
حقا
هنا لا مكان للأسماء فنحن لا نحتاج للنداء على بعضنا البعض ،هنا لا حاجة بنا للتخاطب
كلنا هنا نشعر ببعضنا دون حديث.
نقضي النهار مختبئين تحت الأرض نرقب النور من بعيد ، نخاف أن نمد أيدينا فتحرق
وما أن تبدأ الشمس بسكب أشعتها البرتقالية على الأرض حتى نتأهب للخروج .
وما أن يحل الظلام حتى نتدفق من أسفل الأرض كالعين الجارية ، نتسابق لنملأ رئتينا بالهواء.
نعم نحن الساكنون باطن الأرض ،نحن الغضب المشتعل ، لم نكن نعرف بعضنا بعضا فيما سبق اما الأن فنحن نسكن نفس المكان.
تجمعنا صلات أقوى مما يجمع الأب ببنيه ، والأخوة فيما بينهم ،جمعنا البؤس والوحدة
نحن هنا شيوخ وشباب ونساء وأطفال
نتلحف البرد والغربة معا ،
لا يشغلنا ما يشغل الساكنين فوق الأرض
فباطن الأرض لا يحتاج إلا للقناعة فقط.
هنا تتساوى الرؤوس فجميعنا سواسية.
ننتظرُ غروب الشمس بفارغ الصبر
لنتسلق حواف القبور ونمضي في حديث مسائي أشبه بصلوات الغفران.
تمضي أيامنا ببطء ، راضون نحن بما نراه حولنا ومانسمع.
نمضي نحو الآخرة في قناعة (أن الحياة الدنيا ليست لنا).
ماذا كنت أقول؟
نعم نعم
نسيت أن أخبركم عن اسمي!
اسمي!!؟
لا أعلمُ!
فقد نسيت ماذا كانوا ينادوني ،منذ أعوام كثيرة أنا هنا ، لم يتكبد أحد هنا عناء سؤالي عن اسمي.
لا يهم لا يهم ، يمكنكم مناداتي بالجثة.
نعم الجثة
أقصد ما بقي من رفات جسدي النحيل
تغطيه رقعة بيضاء طاهرة إلا من بعض الحنين لأهل الأرض
ما ألذ هذه الموسيقى الكونية
همهمات الغفران
هكذا نسميها
تهدهد بها الأمهات صغارها
ونخاطب بها الملائكة
ونؤنس بها بعضنا بعضا
يقال أن البشر لا يستطيعون سماعنا
ولكني أشك في هذا!
لأن حارس المقبرة العجوز أراه كل ليلة وهو مرهف سمعه للبعيد ، وكأنه يتلو معنا همهمات الغفران.
بل أنه يخلص فيها أكثر منا
ويبدو متأثرا
لم أرَ بشرا بطيبة قلب هذا العجوز
فهو لم يفارقنا منذ سبعة وعشرين عاما
حتى أنه لا يأكل إلا ما يقوم به صلبه
ولا تربطه علاقة بمن هم خارج أسوار المقبرة
تماما هو يبدو كشبح مثلنا تماما!!
في كل ليلة يقوم بإشعال النار في كوخه في زاوية المقبرة ويجلس حولها القرفصاء مرهفا سمعه لنشيد الموتى.
أتجول فوق رؤوس قومي ،محلقا ممعنا النظر خارج الأسوار.
البلدة هذه الليلة تبدو هادئة
أضواءها خافتة ، كما أن أزقتها خالية من العابرين في مثل هذا الوقت من العام.
ياترى هل من حقي التساؤل ؟
لا أدري… لا أدري
لازال الوقت مبكرا على النوم
فجأةً أرى أضواء بعض المصابيح قادمة نحونا
إنهم رجال البلدة
يقفون خارجا فهم ليسوا بتلك الشجاعة التي تمكنهم من اقتحام صلواتنا.
يخرج اليهم العجوز مترنحا ،
يكاد يسقط بين خطوة وأخرى
– اسمع أيها العجوز لقد توفي شيخ البلدة
بعد مغرب هذه الليلة
-إنا لله وإنا اليه راجعون
ـ نريدك أن تقوم بتجهيز القبر !
فالدفن سيكون بعد صلاة الفجر
ـ لا يمكنني فالظلام دامس هذه الليلة
مالم يساعدني أحدهم
ثم أننا في الشتاء وأنا لم أعد بكامل صحتي
ـ لا يعنينا هذا أيها الثرثار
ـ نحن نريد قبرا جاهزا بعد الفجر
ـ كما يلزمك أن تختار لنا مكانا لا يتعرض لحرارة الشمس في الصيف
ولا يكون عرضة لأن يصبح مستنقعا وقت المطر
ـ نريد قبرا يليق بالشيخ يا رجل
يمضون من حيث أتوا
يقف حارس المقبرة وحيدا برهه من الزمن،
ثم يدخل كوخه ويبدأ في نقل معوله وبعض العدة ولاينسى أيضا المصباح
يضعها وسط المقبرة وهو يتذكر وصية القوم
متمتما : تبا لهم إنهم سيدفنون ميتاً !
والموتى لا يشعرون بحرارة الشمس ولا ببرد الشتاء.
ـ هيّا أيها الهرم من قال لك هذا؟
نحن أكثر شعورا منكم معشر الأحياء
بدا وكأنه يسمع كلماتي
فقد بدا مرهفا سمعه قليلا ثم بدأ بالضحك
تبا لك أيها العجوز يبدو أنك قد أصابك الجنون
فأنت كمن يقف بين الموت والحياة
ولا ينتمي لا الى هذا ولا الى ذاك
فكيف لك أن تحتفظ بعقلك
قد أشفق عليه أحيانا
بت أنوي أن اقوم من مرقدي لأعاونه فيما هو مزمع عليه من عمل ،لأتذكر أني لا أمتلك يدين
ولا فائدة مرجوة مني للأحياء.
نعم لا فائدة مرجوة مني!
هذه العبارة التي طالما رددتها أمي
قبل أن ترحل وتتركني
أو ربما أنا رحلت
لا أدري من سبق الآخر
فقط ما أذكره أني لم أرها ثانية بعد تلك الليلة التي رمتني بأبشع التهم،
فحملت ما تبقى لي من كرامة وخرجت هائما على وجهي
ولازلت من حينها هائما ولم أجدني!
أرى الرجل المسن منهمكا في البحث عن مكان خالٍ من التربة ليبدأ في تجهيزه ولكن عبثا يحاول ؛ فهذه المقبرة باتت مجمعا سكنيا أثريًا
أغمض عيني متخيلا أني لازلت على قيد الحياة
أرى نجوما حولي وبشرا يرقصون
وجثثا تطاردني وتهمهم بصلواتها الغامضة
تنبت لي قدمان فاقف كما هم البشر ، أعبر سور المقبرة ،
أمضي في صمت وهدوء نحو البلدة
ألجُ وسط المارة هناك
أتبادل معهم الملامح
تسري الدماء بوجهي
تنبت لي يدان أيضا
أقف أمام المرايا
لأراني من جديد
تبادلني الوجوه النظرات
وكأني بهم يصرخون هاربين
روح بعثت من باطن الأرض
تبحث لها عن جسد تسكنه لبعض الوقت
في طريقي أرى المقهى هناك مزدحما بالبشر
إلا كرسيا فارغا
عكفت على المرور لولا أني أرى بياضا يلوح فوق الكرسي الخالي
يحرسه
أقتربت من البياض
مددت له يدي فتلبسني
جسده
فإذا بي قد اصبحت شيخا هرما منحني الظهر يقاوم سعالاً قد أصاب صدره ، أحاول الجلوس فينهرني صبي المقهى
ماذا تفعل أيها الصعلوك؟
اخرج من هنا
ليس ينقصنا هنا إلا الصعاليك أيضا
ألا يكفي مانحن فيه
أحاول إجابته لولا أن نوبة سعال أخرى تلتهمني في عجل
وبينما أنا أحاول البحث عن منديلي المهترئ
يفاجئني الصبي بضربة من قدمه أسفل ظهري
فأسقط أرضا وقد بت أقرب للموتى منهم للأحياء
تبا لهذا المساء
أحاول الفرار بروحي من هذا الجسد الهرم
عبثا أحاول فهو يكافح بشدة للبقاء على قيد الحياة
يتجمع حولي المارة محاولين إنقاذي بينما تنطلق الشتائم من الأفواه على صبي القهوة العربيد
لم أجد مفرا من الجلوس بجواري وأنظر في وجهي الذي يبدو أنه يفارق الحياة
يا لهولاء البشر!
لا أعلمُ لمَ أصر على العيش؟
فالمقابر أجمل بكثير
كما أن بشرها مختلفون
آخر ما كنت أنتظره أن أكون صعلوكا مشردا عجوزا لا بيت لي.
كفى كفى!!
أنفض ردائي واقفا لأودع تلك اللعنة التي أصابتني
في المرة القادمة سأحرص أن اتلبس جسدا اقوى
لابأس بجسد صبي المقهى
لطالما كنت أرى أنه لا يليق بي إلا أن أكون قويا ، يخاف الجميع مني
أمضي من بين الجموع إلى وسط البلدة
هناك أرى مجموعة من الصبية وقد تجمعوا حول صبي يبدو أنه قد أغضبهم
ربطوا قدميه في إحدى العربات وراحوا يكيلون له السباب بينما يقف الآخرون متفرجين بينما يرتجف الصبي من البرد وقد بدا يفقد الحياة
دون تفكير ألتقط منه جسده لأسكنه
وحين عادت اليه الحياة ذهل الاطفال الذين كانوا يقفون متفرجين ، كيف استطاع الاستفاقة من إغمائه بهذه السرعة .
أبدأ بالصياح فيتجمع المارة ويحتشد حولي الجمع فتنهمر دموعي.
يا إلهي هل أبدو مزعجا هنا
– هؤلاء هم الصبية دائما يثيرون المشاكل
يقترب شرطيان فيلوذ الصبية بالفرار بينما يقف الجمع المحتشد دون أن يفكوا وثاقي
تتقدم عجوز من بينهم لتفك قدمي من وثاقهما وتقول لي انطلق ! ولكن حذار أن تسرق ثانية
أوووه هذا أنا سارق إذا؟
ولكن ماذا سرقت ياترى؟
ـ نعم إنه سارق فقد دأب على سرقة رغيف ساخن من مخبزي كل يوم
ـ نعم وأنا سرق مني زجاجة حليب
ـ أنتم قساة القلوب
هذا الفتى يعول أخته الصغيرة بعد وفاة والديه في حادثة شنيعة منذ عام
ـ يا الهي ،كيف يسكن ببلدتنا الفقراء ؟
ـ نعم نعم يجب أن نطرد الصعاليك فهم يشوهون أزقة البلدة بثيابهم الرثة!
لا أدري .. ماذا أصابني فقد أصبحت نظراتي أقل حدة ؟
بل أصبحت بريئا نوعا ما
بينما أشعر بتقلصات معدتي
يا إلهي
هل كتب عليّ أن ان اتلبس الأجساد البائسة!
أخذت عهدا على نفسي ألا أتركني هذه المرة إلا بعد أن أملأ لي معدتي وأختي الصغيرة.
أجلس على الرصيف حيث لا أستطيع رؤية شيء سوى أقدام ذاهبة وأخرى قادمة
لا أحد يتجشم عناء النظر إلي
أهم بالوقوف فتتقدم تلك السيدة التي فكت وثاقي لترمي لي بقطعة نقود
أحملها فرحا وأهم بأن أقف لأشكرها فأتفاجأ بأنها خيال أبيض يحلق فوق رأسي بينما
هناك على الرصيف المقابل يزدحم المارة حول جثة امرأة عجوز دهستها عربة مسرعة.
لم أشعر بي إلا والدموع تنساب على وجنتي بينما يسقط مني الصبي ويمضي هاربا
فأقف دون حراك !
وقد عدت روحا هائمة
أحاول العبور مرة أخرى وأنا أكثر إصرارا بأن أنتقي مسكنا لروحي في المرة المقبلة أقل تشردا.
يمضي نصف الليل وأنا لازلت أتجول في شوارع البلدة،
البرد يزداد وردائي الأبيض أضعف من أن يُدفئني.
أحاول العثور على جسد خال يشعرني بالحياة ويملأني بالدفء
بينما أنا هكذا إذا بي أسمع صوت بكاء من شرفة المنزل المجاور
عبثا أحاول الصعود
فقدمايا كأنتا مهترئتين جدا بل هي في حقيقة الأمر رفات أقدام.
أحاول فهم ما يجري حولي
لا شيء سوى صوت بكاء يبدو أنه لفتاة قد يئست من الحياة
وبينما أنا أبحث عن طريقة للصعود
واذا بي أسمع صرخة
ثم جسداً يستقر بجواري
عبثا حاولت منعه من الوصول للأرض فقط كنت أضعف من أن أتحمل سقطتها
بدلا من هذا ارى روحها تصعد السماء ثم ارى جسدا يسقط مضرجا بالدماء بجواري
وما أن استقر بجواري على حافة الطريق حتى فاجأتني قوة عجيبة وبدأت قدماي بالفرار
قبل أن يتسابق الناس لمكان سقوطي.
هأنذا فتاة جميلة!
أمضي في ظلام ووحشة الطريق بمفردي
فتاة بائسة، يائسة
أجري وألتفتُ حولي فلا أريد أن يمسكني أحدٌ
وكأنّ بي وقد فك وثاقي من سجن قديم فأطلقتُ ساقي للريح
أحدثني
أتساءلُ
ـ ما بك ؟
ـ لم أقدمت على رميي ؟
فلا أجيبني
ما أجملنا نحن الفتيات !
نبدو مسالمات بينما في داخلنا براكين تشتعل من الغضب،
أحاول تهدئتي
أمسح عني دموعي
وجهي أشد نعومة وأكثر استدارة
يا إلهي
هل تتخذ الأجساد كينونة الأرواح التي تسكنها؟؟
لا أعلمُ
بقرب النهر أجلس
كل شيء يبدو هادئا
إلا ثورتي
:ما بك؟
:اخبريني
فأجيبني
:لا أريد الحياة
:لا أحدَ يحبني
:لا أحد يستحق أن أحيا لأجله
:حتى من أحببته تخلى عني وذهب لطلب يد إحدى قريباته ، تخلى عني بعدما أغضبت أمي وأبي كي أرضيه!
هاهو الجبان يأخذ مني ما يريد
ثم حين يقرر الزواج يختار أخرى
:وأنت تظننين أن هذا سببٌ كافٍ للموت!
يا إلهي الموت!!!
لم هم يرمون كل أشيائهم القبيحة ؟
خطاياهم !
وحتى زلاتهم حين يقترفونها يهربون للموت
ما ذنب الموت كي يحمل بشاعتهم ؟
فالموت أجمل وأكثر هدوءًا وجمالا منهم
في الجانب الآخر من النهر هناك عائلة تمضي الليل البارد في عربتهم التي يبدو أن أحد إطاراتها معطوبٌ.
ما أجمل أن يكون لك عائلة يشاركوك أشيائك حتى السيئة منها.
أراني وقد ألتحفت العشب وتمددت فأتركني وقد غلبني النعاس فأتحرر من ذلك الجسد المحمل بالخطايا، سأمضي لأبحث من جديد عن جسد اسكنه.
لا أريد جسدا انهكته خطاياه في المرة القادمة
سأبحثُ عن اجساد نقية
أقتربُ من العربة أكثر
أجدني هنا
هذه العائلة تليقُ بي
ماذا دهاني؟
لمَ لا أذهب لمنزلنا القديم؟
أبحث عن أمي
أتراها باقية على سبابها لي
أم أن الموت غفر لي خطاياي لديها؟!
أهم أن أمضي ناحية منزلي
شرق البلدة
فإذا بجمع غفير يحملون جسدا قد كُسي بالبياض متجهين ناحية المقبرة،
فلم أجد بدا من الاختباء داخل الكفن لأسكن جسدا دافئا اكثر أهمية.
نعم نعم
هأنذا أشعر بالدفء، كما أشعر أني قد أصبحت مهما الآن.
فحولي جمع غفير وعربات علية القوم وبعض الأعلام،
كما أن هذا الجسد لازال متمسكا بالحياة
يحترمه الموت ويخشى تجريده من الدفء
أووووه!!
طوبى للمشردين
حتى الموت يعاملهم كمشردين.
غبت عن الوجود قليلاً
لأستيقظ وقد أصبحت جثةً جديدة دافئة
تسكن قبراً جديداً دافئاً
والموتى حولي يرتلون صلوات الغفران
بينما قبري القديم قد سكنه جثمان شيخ القرية.
قاصة سعودية
أتعلمون من نحن؟ نحن من ننظرُ لكم بازدراء
نعلمُ حقيقتكم ،نرى وجوهكم الحقيقية
نجتمع حينما يحل المساء على حافات بيوتنا لنتبادل الحديث والكثير من الصلوات.
نعرفكم جيدا ،أنتم معشر الباقين على قيد الحياة .
كلنا هنا نعلمُ من نحن ومن أنتم!!!
نعلم خوفكم منا وتحاشيكم المرور بجانب بيوتنا واذا أرغم أحدكم يوما بأن يودع حبيبا له للسكنى بجوارنا فهو يأتي به على عجل مقشعر البدن ليودعه هنا ثم يتركه مهرولا ولا يأتي لزيارته بعد هذا ،نشعر بالحنين لكم أحيانا والشفقة أيضا، ليتكم عرفتم الحياة كما عرفناها لما تسابقتم نحو النور!
نسيت أن أعرفكم بي
أوووه !!
حقا
هنا لا مكان للأسماء فنحن لا نحتاج للنداء على بعضنا البعض ،هنا لا حاجة بنا للتخاطب
كلنا هنا نشعر ببعضنا دون حديث.
نقضي النهار مختبئين تحت الأرض نرقب النور من بعيد ، نخاف أن نمد أيدينا فتحرق
وما أن تبدأ الشمس بسكب أشعتها البرتقالية على الأرض حتى نتأهب للخروج .
وما أن يحل الظلام حتى نتدفق من أسفل الأرض كالعين الجارية ، نتسابق لنملأ رئتينا بالهواء.
نعم نحن الساكنون باطن الأرض ،نحن الغضب المشتعل ، لم نكن نعرف بعضنا بعضا فيما سبق اما الأن فنحن نسكن نفس المكان.
تجمعنا صلات أقوى مما يجمع الأب ببنيه ، والأخوة فيما بينهم ،جمعنا البؤس والوحدة
نحن هنا شيوخ وشباب ونساء وأطفال
نتلحف البرد والغربة معا ،
لا يشغلنا ما يشغل الساكنين فوق الأرض
فباطن الأرض لا يحتاج إلا للقناعة فقط.
هنا تتساوى الرؤوس فجميعنا سواسية.
ننتظرُ غروب الشمس بفارغ الصبر
لنتسلق حواف القبور ونمضي في حديث مسائي أشبه بصلوات الغفران.
تمضي أيامنا ببطء ، راضون نحن بما نراه حولنا ومانسمع.
نمضي نحو الآخرة في قناعة (أن الحياة الدنيا ليست لنا).
ماذا كنت أقول؟
نعم نعم
نسيت أن أخبركم عن اسمي!
اسمي!!؟
لا أعلمُ!
فقد نسيت ماذا كانوا ينادوني ،منذ أعوام كثيرة أنا هنا ، لم يتكبد أحد هنا عناء سؤالي عن اسمي.
لا يهم لا يهم ، يمكنكم مناداتي بالجثة.
نعم الجثة
أقصد ما بقي من رفات جسدي النحيل
تغطيه رقعة بيضاء طاهرة إلا من بعض الحنين لأهل الأرض
ما ألذ هذه الموسيقى الكونية
همهمات الغفران
هكذا نسميها
تهدهد بها الأمهات صغارها
ونخاطب بها الملائكة
ونؤنس بها بعضنا بعضا
يقال أن البشر لا يستطيعون سماعنا
ولكني أشك في هذا!
لأن حارس المقبرة العجوز أراه كل ليلة وهو مرهف سمعه للبعيد ، وكأنه يتلو معنا همهمات الغفران.
بل أنه يخلص فيها أكثر منا
ويبدو متأثرا
لم أرَ بشرا بطيبة قلب هذا العجوز
فهو لم يفارقنا منذ سبعة وعشرين عاما
حتى أنه لا يأكل إلا ما يقوم به صلبه
ولا تربطه علاقة بمن هم خارج أسوار المقبرة
تماما هو يبدو كشبح مثلنا تماما!!
في كل ليلة يقوم بإشعال النار في كوخه في زاوية المقبرة ويجلس حولها القرفصاء مرهفا سمعه لنشيد الموتى.
أتجول فوق رؤوس قومي ،محلقا ممعنا النظر خارج الأسوار.
البلدة هذه الليلة تبدو هادئة
أضواءها خافتة ، كما أن أزقتها خالية من العابرين في مثل هذا الوقت من العام.
ياترى هل من حقي التساؤل ؟
لا أدري… لا أدري
لازال الوقت مبكرا على النوم
فجأةً أرى أضواء بعض المصابيح قادمة نحونا
إنهم رجال البلدة
يقفون خارجا فهم ليسوا بتلك الشجاعة التي تمكنهم من اقتحام صلواتنا.
يخرج اليهم العجوز مترنحا ،
يكاد يسقط بين خطوة وأخرى
– اسمع أيها العجوز لقد توفي شيخ البلدة
بعد مغرب هذه الليلة
-إنا لله وإنا اليه راجعون
ـ نريدك أن تقوم بتجهيز القبر !
فالدفن سيكون بعد صلاة الفجر
ـ لا يمكنني فالظلام دامس هذه الليلة
مالم يساعدني أحدهم
ثم أننا في الشتاء وأنا لم أعد بكامل صحتي
ـ لا يعنينا هذا أيها الثرثار
ـ نحن نريد قبرا جاهزا بعد الفجر
ـ كما يلزمك أن تختار لنا مكانا لا يتعرض لحرارة الشمس في الصيف
ولا يكون عرضة لأن يصبح مستنقعا وقت المطر
ـ نريد قبرا يليق بالشيخ يا رجل
يمضون من حيث أتوا
يقف حارس المقبرة وحيدا برهه من الزمن،
ثم يدخل كوخه ويبدأ في نقل معوله وبعض العدة ولاينسى أيضا المصباح
يضعها وسط المقبرة وهو يتذكر وصية القوم
متمتما : تبا لهم إنهم سيدفنون ميتاً !
والموتى لا يشعرون بحرارة الشمس ولا ببرد الشتاء.
ـ هيّا أيها الهرم من قال لك هذا؟
نحن أكثر شعورا منكم معشر الأحياء
بدا وكأنه يسمع كلماتي
فقد بدا مرهفا سمعه قليلا ثم بدأ بالضحك
تبا لك أيها العجوز يبدو أنك قد أصابك الجنون
فأنت كمن يقف بين الموت والحياة
ولا ينتمي لا الى هذا ولا الى ذاك
فكيف لك أن تحتفظ بعقلك
قد أشفق عليه أحيانا
بت أنوي أن اقوم من مرقدي لأعاونه فيما هو مزمع عليه من عمل ،لأتذكر أني لا أمتلك يدين
ولا فائدة مرجوة مني للأحياء.
نعم لا فائدة مرجوة مني!
هذه العبارة التي طالما رددتها أمي
قبل أن ترحل وتتركني
أو ربما أنا رحلت
لا أدري من سبق الآخر
فقط ما أذكره أني لم أرها ثانية بعد تلك الليلة التي رمتني بأبشع التهم،
فحملت ما تبقى لي من كرامة وخرجت هائما على وجهي
ولازلت من حينها هائما ولم أجدني!
أرى الرجل المسن منهمكا في البحث عن مكان خالٍ من التربة ليبدأ في تجهيزه ولكن عبثا يحاول ؛ فهذه المقبرة باتت مجمعا سكنيا أثريًا
أغمض عيني متخيلا أني لازلت على قيد الحياة
أرى نجوما حولي وبشرا يرقصون
وجثثا تطاردني وتهمهم بصلواتها الغامضة
تنبت لي قدمان فاقف كما هم البشر ، أعبر سور المقبرة ،
أمضي في صمت وهدوء نحو البلدة
ألجُ وسط المارة هناك
أتبادل معهم الملامح
تسري الدماء بوجهي
تنبت لي يدان أيضا
أقف أمام المرايا
لأراني من جديد
تبادلني الوجوه النظرات
وكأني بهم يصرخون هاربين
روح بعثت من باطن الأرض
تبحث لها عن جسد تسكنه لبعض الوقت
في طريقي أرى المقهى هناك مزدحما بالبشر
إلا كرسيا فارغا
عكفت على المرور لولا أني أرى بياضا يلوح فوق الكرسي الخالي
يحرسه
أقتربت من البياض
مددت له يدي فتلبسني
جسده
فإذا بي قد اصبحت شيخا هرما منحني الظهر يقاوم سعالاً قد أصاب صدره ، أحاول الجلوس فينهرني صبي المقهى
ماذا تفعل أيها الصعلوك؟
اخرج من هنا
ليس ينقصنا هنا إلا الصعاليك أيضا
ألا يكفي مانحن فيه
أحاول إجابته لولا أن نوبة سعال أخرى تلتهمني في عجل
وبينما أنا أحاول البحث عن منديلي المهترئ
يفاجئني الصبي بضربة من قدمه أسفل ظهري
فأسقط أرضا وقد بت أقرب للموتى منهم للأحياء
تبا لهذا المساء
أحاول الفرار بروحي من هذا الجسد الهرم
عبثا أحاول فهو يكافح بشدة للبقاء على قيد الحياة
يتجمع حولي المارة محاولين إنقاذي بينما تنطلق الشتائم من الأفواه على صبي القهوة العربيد
لم أجد مفرا من الجلوس بجواري وأنظر في وجهي الذي يبدو أنه يفارق الحياة
يا لهولاء البشر!
لا أعلمُ لمَ أصر على العيش؟
فالمقابر أجمل بكثير
كما أن بشرها مختلفون
آخر ما كنت أنتظره أن أكون صعلوكا مشردا عجوزا لا بيت لي.
كفى كفى!!
أنفض ردائي واقفا لأودع تلك اللعنة التي أصابتني
في المرة القادمة سأحرص أن اتلبس جسدا اقوى
لابأس بجسد صبي المقهى
لطالما كنت أرى أنه لا يليق بي إلا أن أكون قويا ، يخاف الجميع مني
أمضي من بين الجموع إلى وسط البلدة
هناك أرى مجموعة من الصبية وقد تجمعوا حول صبي يبدو أنه قد أغضبهم
ربطوا قدميه في إحدى العربات وراحوا يكيلون له السباب بينما يقف الآخرون متفرجين بينما يرتجف الصبي من البرد وقد بدا يفقد الحياة
دون تفكير ألتقط منه جسده لأسكنه
وحين عادت اليه الحياة ذهل الاطفال الذين كانوا يقفون متفرجين ، كيف استطاع الاستفاقة من إغمائه بهذه السرعة .
أبدأ بالصياح فيتجمع المارة ويحتشد حولي الجمع فتنهمر دموعي.
يا إلهي هل أبدو مزعجا هنا
– هؤلاء هم الصبية دائما يثيرون المشاكل
يقترب شرطيان فيلوذ الصبية بالفرار بينما يقف الجمع المحتشد دون أن يفكوا وثاقي
تتقدم عجوز من بينهم لتفك قدمي من وثاقهما وتقول لي انطلق ! ولكن حذار أن تسرق ثانية
أوووه هذا أنا سارق إذا؟
ولكن ماذا سرقت ياترى؟
ـ نعم إنه سارق فقد دأب على سرقة رغيف ساخن من مخبزي كل يوم
ـ نعم وأنا سرق مني زجاجة حليب
ـ أنتم قساة القلوب
هذا الفتى يعول أخته الصغيرة بعد وفاة والديه في حادثة شنيعة منذ عام
ـ يا الهي ،كيف يسكن ببلدتنا الفقراء ؟
ـ نعم نعم يجب أن نطرد الصعاليك فهم يشوهون أزقة البلدة بثيابهم الرثة!
لا أدري .. ماذا أصابني فقد أصبحت نظراتي أقل حدة ؟
بل أصبحت بريئا نوعا ما
بينما أشعر بتقلصات معدتي
يا إلهي
هل كتب عليّ أن ان اتلبس الأجساد البائسة!
أخذت عهدا على نفسي ألا أتركني هذه المرة إلا بعد أن أملأ لي معدتي وأختي الصغيرة.
أجلس على الرصيف حيث لا أستطيع رؤية شيء سوى أقدام ذاهبة وأخرى قادمة
لا أحد يتجشم عناء النظر إلي
أهم بالوقوف فتتقدم تلك السيدة التي فكت وثاقي لترمي لي بقطعة نقود
أحملها فرحا وأهم بأن أقف لأشكرها فأتفاجأ بأنها خيال أبيض يحلق فوق رأسي بينما
هناك على الرصيف المقابل يزدحم المارة حول جثة امرأة عجوز دهستها عربة مسرعة.
لم أشعر بي إلا والدموع تنساب على وجنتي بينما يسقط مني الصبي ويمضي هاربا
فأقف دون حراك !
وقد عدت روحا هائمة
أحاول العبور مرة أخرى وأنا أكثر إصرارا بأن أنتقي مسكنا لروحي في المرة المقبلة أقل تشردا.
يمضي نصف الليل وأنا لازلت أتجول في شوارع البلدة،
البرد يزداد وردائي الأبيض أضعف من أن يُدفئني.
أحاول العثور على جسد خال يشعرني بالحياة ويملأني بالدفء
بينما أنا هكذا إذا بي أسمع صوت بكاء من شرفة المنزل المجاور
عبثا أحاول الصعود
فقدمايا كأنتا مهترئتين جدا بل هي في حقيقة الأمر رفات أقدام.
أحاول فهم ما يجري حولي
لا شيء سوى صوت بكاء يبدو أنه لفتاة قد يئست من الحياة
وبينما أنا أبحث عن طريقة للصعود
واذا بي أسمع صرخة
ثم جسداً يستقر بجواري
عبثا حاولت منعه من الوصول للأرض فقط كنت أضعف من أن أتحمل سقطتها
بدلا من هذا ارى روحها تصعد السماء ثم ارى جسدا يسقط مضرجا بالدماء بجواري
وما أن استقر بجواري على حافة الطريق حتى فاجأتني قوة عجيبة وبدأت قدماي بالفرار
قبل أن يتسابق الناس لمكان سقوطي.
هأنذا فتاة جميلة!
أمضي في ظلام ووحشة الطريق بمفردي
فتاة بائسة، يائسة
أجري وألتفتُ حولي فلا أريد أن يمسكني أحدٌ
وكأنّ بي وقد فك وثاقي من سجن قديم فأطلقتُ ساقي للريح
أحدثني
أتساءلُ
ـ ما بك ؟
ـ لم أقدمت على رميي ؟
فلا أجيبني
ما أجملنا نحن الفتيات !
نبدو مسالمات بينما في داخلنا براكين تشتعل من الغضب،
أحاول تهدئتي
أمسح عني دموعي
وجهي أشد نعومة وأكثر استدارة
يا إلهي
هل تتخذ الأجساد كينونة الأرواح التي تسكنها؟؟
لا أعلمُ
بقرب النهر أجلس
كل شيء يبدو هادئا
إلا ثورتي
:ما بك؟
:اخبريني
فأجيبني
:لا أريد الحياة
:لا أحدَ يحبني
:لا أحد يستحق أن أحيا لأجله
:حتى من أحببته تخلى عني وذهب لطلب يد إحدى قريباته ، تخلى عني بعدما أغضبت أمي وأبي كي أرضيه!
هاهو الجبان يأخذ مني ما يريد
ثم حين يقرر الزواج يختار أخرى
:وأنت تظننين أن هذا سببٌ كافٍ للموت!
يا إلهي الموت!!!
لم هم يرمون كل أشيائهم القبيحة ؟
خطاياهم !
وحتى زلاتهم حين يقترفونها يهربون للموت
ما ذنب الموت كي يحمل بشاعتهم ؟
فالموت أجمل وأكثر هدوءًا وجمالا منهم
في الجانب الآخر من النهر هناك عائلة تمضي الليل البارد في عربتهم التي يبدو أن أحد إطاراتها معطوبٌ.
ما أجمل أن يكون لك عائلة يشاركوك أشيائك حتى السيئة منها.
أراني وقد ألتحفت العشب وتمددت فأتركني وقد غلبني النعاس فأتحرر من ذلك الجسد المحمل بالخطايا، سأمضي لأبحث من جديد عن جسد اسكنه.
لا أريد جسدا انهكته خطاياه في المرة القادمة
سأبحثُ عن اجساد نقية
أقتربُ من العربة أكثر
أجدني هنا
هذه العائلة تليقُ بي
ماذا دهاني؟
لمَ لا أذهب لمنزلنا القديم؟
أبحث عن أمي
أتراها باقية على سبابها لي
أم أن الموت غفر لي خطاياي لديها؟!
أهم أن أمضي ناحية منزلي
شرق البلدة
فإذا بجمع غفير يحملون جسدا قد كُسي بالبياض متجهين ناحية المقبرة،
فلم أجد بدا من الاختباء داخل الكفن لأسكن جسدا دافئا اكثر أهمية.
نعم نعم
هأنذا أشعر بالدفء، كما أشعر أني قد أصبحت مهما الآن.
فحولي جمع غفير وعربات علية القوم وبعض الأعلام،
كما أن هذا الجسد لازال متمسكا بالحياة
يحترمه الموت ويخشى تجريده من الدفء
أووووه!!
طوبى للمشردين
حتى الموت يعاملهم كمشردين.
غبت عن الوجود قليلاً
لأستيقظ وقد أصبحت جثةً جديدة دافئة
تسكن قبراً جديداً دافئاً
والموتى حولي يرتلون صلوات الغفران
بينما قبري القديم قد سكنه جثمان شيخ القرية.
قاصة سعودية
