((الحياة ليست سوى تدريب للأرجل على الصعود ))
لا تتذكر متى فكرت في ذلك أو إن كانت كتبته، لكن المقولة كانت تتردد في أذنيها منذ ركبت السيارة..طوال الساعة التي استغرقتها المسافة من بيتها إلى مقر جبال (ويتشيتا) في ولاية (أوكلاهوما)، لم يكن شيء يتردد داخلها سوى تلك العبارة. لم تجد ما تقوله لمُدرسها الذي كان يقود السيارة، كما لم تجد ما تحدث به نفسها، فهي لم تكن قادرة على استرجاع تفاصيل حياتها التي باتت منهكة أكثر من اللازم منذ وصولها إلى أرض الأحلام (أمريكا) ! كل تركيزها كان منصباً على قدميها، كانت تُحاول تحريكها بين فينةٍ وفينة، لتتأكد من صلاحيتها وقدرتها على التسلق..فأن تتسلق حتى لو صخرةً صغيرة، كان ذلك يُعطي دلالات كثيرة، وأولها استحقاقها لأن تكون على قيد الوجود..!
ذلك الجسر الذي يوصل بين نهاية السهل وبداية الصخور، التي تسند الجبل الممتد بالتفافة دائرية إلى أطراف السماء، كان بمثابة الإعلان الرسمي لبداية رحلة تحدي الريح التي كان من المفترض أن تبدأ في تلك اللحظة.. حالما وضعت قدميها على أضلع الجسر، شعرت بانتفاضة تهزها من الداخل.. لا لم يكن خوفاً من أن تسقط في الماء، فالماء لم يكن عميقاً ولا حتى متحركاً..لم يكن سوى مجرد جدول صغير يُحاول أن يخفف من وطأة اللون الصخري القاتم في تلك المنطقة.. لكن مجرد فكرة أن تضع قدميها في المسافة الفاصلة بين حلم الجبل وحقيقته، بين الحلم والحقيقة، تلك كانت الخطوة التي تعلم أنه لا مفر من الرجوع فيها، لأن حتى إمكانية الرجوع سيترتب عليها الكثير من احتقار الذات والاستخفاف بإمكانياتها..
الجبل، كان دوماً الملجأ الذي تلتجىء فيه من أحلامها وحقائقها..((الجبل هو ذلك الحنين للانبساط على جناح السهل دون فقدان شهوة (التحليق) ))..كانت ترى نفسها في الجبل أكثر من أي عنصر آخر في الطبيعة، كانت تشعر أنه كقلمها يُحاول أن يكتب على جسد الوادي دون أن يُطأطىء رأسه أو أن يفقد كبرياء حبره..
لم تدرك أنها بمجرد أن تخطو خطوة باتجاه ذلك الجبل فهذا يعني أنها تخطو خطوةً لتحديد مدى مصداقية أحلامها ومدى صمود حقيقة وجودها. لم تكن تدرك إلا في تلك اللحظة أنها بمجرد أن تدس إحدى قدميها بين الصخور، فإن ذلك يعني أنها لابد أن تصل إلى مكانٍ ما، و ليصل الإنسان لابد أن يكون قادراً على تحديد هدفه، وهي لازالت لا تعرف أين تقف ولا إلى أين تُريد أن تذهب أو حتى إن كانت تُريد أن تذهب فعلاً؟! لا بل هي تعلم أنها تريد أن تذهب، لكن الوجهة التي تُريد أن تقصدها هي التي تؤرقها، وحتى لو عرفت أين تريد أن تذهب فهي غير متأكدة ماذا ستفعل بعد أن تصل إليها..!
((وماذا بعد أن أصل ؟!)) هذا ما تردده بينها وبين نفسها حينما تُفكر في رحلتها..أحياناً تُفكر أنها ربما لا تُريد أن تصل لأن الوصول متعبٌ أكثر من حلم الوصول، فالأغصان شائكة ومؤرقة بالنسبة للطيور التي احترفت (الهجرة)..!
كانت قد تخطّت الجسر دون أن تنتبه، بل وقد مشت نحو الصخور التي تُصافح الأقدام التي قررت أن تتجاوز تلك الصخور وترى نواصيها من على القمة..
((هل يُمكن أن تأخذ أقدامنا قرارتنا عنا، وتقودنا إلى حيث تُريد مصائرنا أن تكون ؟! هل الخطوة تسبق الإرادة؟! أم أن الإرادة مجرد ظِل يتبع الخطوة؟!)) فجأة انشقّ صوت فيروز من كُوة الريح:”يا جبل الي بعيد، خلفك حبايبنا، بتموج متل العيد، و همك متعبنا”.. هل لذلك تخاف الجبل أحياناً، لأنها تخاف أن تقترب منه فيذوي حلم الحببب الذي يلوح خلفه؟! أم أنها ترفض فكرة أن تتسلق أي جبل بعد أن أخذت غيمة الرحيل حبل يديه معها ؟!
تتذكر كيف نظروا لأول مرةٍ سوياً مِن جبل (عاليه)ـ الذي لا تعرف اسمه وحتى لم تسأل عنه ـ إلى (بيروت) تحتهم وهي تسطع خلف ريشة الشمس الذهبية.. تتذكر لفتة الشمس وقتها، تتذكر ضحكة الريح، تتذكر الأسوار الحجرية المهدمة التي مشوا فوقها، تتذكر البيت المرمي في آخر السهل وراء الأسوار ووراء القناطر المختبئة، تتذكر كلمته التي قال: سأبني لك بيتاً كهذا.. تتذكر ابتسامتها التي كانت قادرة على استنطاق رحم المطر وقتها، تتذكر كل البيوت التي كانت بيوتهم لأنهم مروا بذاكرتها ولأنها سكنت مساماتهم، تتذكر سكون ملامح طيور الفرّي المقتولة والمعلقة في حِزام الصبي الذي أسقاهم الماء يومها، تتذكر قطعة الكرتون التي جلسوا فوقها تفادياً لقرص الحشرات وقرص الغياب، تتذكر البناية الشاهقة بالرغم من تهدم نصفها وضجوج نصفها الآخر بأشباح الريح..
لم تدرِ بنفسها إلا وقد وصلت مع المجموعة إلى منتصف الجبل .كانوا قد توقفوا لشرب الماء والمحافظة على درجة السوائل في الجسم خوفاً من الجفاف..لم تكن حقيبتها مزودة بالقدر الكافي من الماء، لأنها فكرت في رحلة التسلق كمتعة صرفة دون أخذ مقتضاياتها بالجدية المطلوبة؟! هل هذا هو الفرق بيننا وبينهم، فحتى المتعة لديهم لابد أن تأخذ حقها بمنتهى الصرامة، ولابد أن تُمارَس بنفس الجدية التي تُمارس بها الأعمال الأخرى؟! هل لهذا نحن شعبٌ لا يعرف كيف يستمتع بالحياة حتى لو كان لديه كل القدرات والإمكانيات اللازمة لذلك ؟!
رفضت الجلوس لأنها لم تكن تشعر بالتعب لتأخذ أي راحة، التفتت لأول مرة أثناء تسلقها لألوان الصخور العجيبة، وللحشرات والمخلوقات الغريبة التي تمشي بين الأحراش..أصوات الحشرات التي تصدح عبر الخَضار، ذكرتها بأصوات الصراصير ورائحة الصنوبر في جبل لبنان..استوقفتها صخرةٌ كان خضارها غريباً، وكأن تلميذاً لونها بطباشورٍ أخضر كلون السبورة، تذكرت فجأة أنهم لم يستخدموا الطباشور في الفصل للتلوين أبداً، وهي كانت تشتهي التلوين بالطباشير خاصة في حصص الرياضيات..!
قابلوا الكثير من الأشخاص الهابطين من الأعلى، حاولت أن تتفحص تعابير وجوههم بعد الوصول إلى القمة، لكن بشاشتهم ولطف تعابيرهم حالت دون أن تفعل..استوقفها كونهم يهتمون بإحضار كلابهم للتسلق، كاهتمامهم بإحضار أولادهم ليُروحوا عنهم في نهاية الأسبوع..سأل المدرس- المارين- ببساطة إن كانوا قد صادفوا أي ثعبانٍ في طريقهم، وسألونا إن كنا نشعر بالتعب أو الحماس للوصول للقمة..الغريب أنهم لم يتركوا أي انطباع عن رحلة تسلقهم أو وصولهم إلى القمة، حاولت التقاط أي شيء لكنهم وكأنهم كانوا يرفضون إخبارها لتُجرّب وتكتشف بنفسها..والأدهى من ذلك، نظرة الشمس الحادة التي كانت تمنعها حتى من النظر إلى ما فوق قدميها..
“فقط لا تنظروا إلى الأسفل، وسنصل بأمان “..
هذا ما كان يقوله المُدرس وكانت تُرتله كصلاة في سرها..الغريب أنها لم تكن تنظر حتى إلى حركة قدميها المسعورة، و التي باتت تبحث عن الصخور الآمنة للتسلق بتلقائية عجيبة..كانت تنظر إلى القمة فقط، دون أن يهمها الطريق الذي ستسلكه لتصل إليها..ربما فكرت في أن تسلك طريقاً معينا قبل أن تصعد، لكن أثناء صعودها وجدت أنها تتحرك لاإرادياً نحو الصخور الأقل انحداراً..هل هي هكذا رحلتنا في الحياة؛ محاولة لتجنب أكبر قَدر ممكن من الألم؟!
كانوا قد وصلوا إلى القمة قبل أن تستطرد مع تداعياتها، استسلمت لتنهيدة الوصول والاستغراق في محاولة إدراك صورة الأفق بعينيّ الجبل.. تذكرت ما قرأته في إحدى الروايات بأن الإنسان وبعد أن يحلم بالوصول إلى القمة ويُعافر في صعوده إليها، يكتشف أن تلك القمة ليست سوى تل صغير، وأن القمة الحقيقية لازالت بعيدة جداً عن قدميه..!
فكرت في ذلك وجِلدها يحترق تحت لهيب الشمس القريبة جداً منهم.. جلست على صخرةٍ منبسطة على القمة وباتت تُفكر في اللاشيء تاركة نفسها لمركب الريح.. بالرغم أنها لم تشعر بأنها تُلامس عُنق السماء كما اعتقدت أنها ستشعر حينما تصل إلى القمة، لكن كان هناك شيءٌ غريب يشدها لأن تلتصق بذراع الجبل أكثر..إنه نوعٌ من الرغبة في الوصول إلى نواة الأرض عبر فوهة الصخر..أو ربما نوعٌ من الانتماء إلى كل ما يُذكرنا ويُرجِعنا إلى الطين..
وَدت لو تتمدد على تلك الصخرة المنبسطة، وترى الأفق تحتها مائلاً كميل الضوء على حواف أسراب الضباب..لكن صوت المُدرس باغتَها بأن لابد أن ينزلوا..
((لماذا تكبدنا كل هذه المشقة إن كنا لن نلبث طويلاً .! )) فجأة قال– وكأنه سمع ما قالته في نفسها- :” لو جلستِ ساعة أو حتى يوماً كاملاً، فلن تشعري برغبةٍ في النزول !” نظرت إليه دون أن تنبس، وتبعته واضعة نُصب عينيها شريط خِبرته بين الجبال حينما كان في الجيش..
كانت تحبس أنفاسها لكيلا يظهر لهاثها أثناء الهبوط..كانت تشعر بألمٍ عميق يصل إلى رئتيها، في كل خطوةٍ تخطوها على جسد صخرةٍ جديدة..اعتقدت لوهلة أنهم لم يسلكوا ذات الطريق أثناء صعودهم، فقد كانت تنظر إلى الصخور لأول مرة، وقبل كل شيء تشعر بسكاكينها في قدميها..لم تعتقد أن رحلة الهبوط ستكون بتلك الصعوبة، ولم تشعر بأن الصخور التي عَبرت فوقها كانت بتلك الوعورة، ولا أن حذاءها كان بتلك الرقة..
((لماذا الهبوط صعبٌ لهذه الدرجة.! وهل هو هبوطٌ من الحلم إلى الحقيقة ، أم من الحقيقة إلى الحلم ؟!))
جاءها صوت المُدرس بدون نذير كالعادة:”التحدي الأكبر هنا، حين تُحاولين أن تُلقي بثقلك على الصخور دون أن يتعثر بوزنك أو بحزنك، أن تحافظي على ذلك التوازن بين صرامة وجوده وزئبقية وجودك.. هنا مكمن معاناتنا وصراعنا الأكبر؛ تحولنا من الجلوس على أرض الصخر السائرة نحو المحتوم الثابت، إلى اللحاق بأوراق الماء المسافرة إلى المجهول المتغير مع الفصول والمواسم.. لهذا نحن نصعد إلى القمة، لا لنصل، بل لنلمس حقيقةً صلبة قادرة على الوقوف في وجه الريح، ولنرى أنفسنا في مرآتها بعد ذلك.. نحن لا نتسلق لنصل إلى القمة، بل لنرى انعاكسنا في مرآة الماء المنتظرة بالأسفل..”
فجأة رأت أمامها صورة راقصة الباليه الروسية التي دائماً تُلاحقها، ابتعدت عن المجموعة وبدأت تهبط بسرعةٍ أكبر، كانت أطرافها تشتعل وهي ترى راقصة الباليه تقفز في الهواء، ثم تهبط على قدميها وتُحاول أن تستعيد توازنها بالنزول إلى الأرض والتقوقع على جسدها..بدأت سرعتها تزيد تدريجياً وهي ترى الراقصة تُلقي بكل ثقلها في الهواء حينما تقفز وتتكىء على قدميها أثناء هبوطها..!
ولم تصل إلا حينما استندت على صخرة قدميها..!
هبة البيتي
آوكلاهوما سيتي
٢٠٠٧
.
لا تتذكر متى فكرت في ذلك أو إن كانت كتبته، لكن المقولة كانت تتردد في أذنيها منذ ركبت السيارة..طوال الساعة التي استغرقتها المسافة من بيتها إلى مقر جبال (ويتشيتا) في ولاية (أوكلاهوما)، لم يكن شيء يتردد داخلها سوى تلك العبارة. لم تجد ما تقوله لمُدرسها الذي كان يقود السيارة، كما لم تجد ما تحدث به نفسها، فهي لم تكن قادرة على استرجاع تفاصيل حياتها التي باتت منهكة أكثر من اللازم منذ وصولها إلى أرض الأحلام (أمريكا) ! كل تركيزها كان منصباً على قدميها، كانت تُحاول تحريكها بين فينةٍ وفينة، لتتأكد من صلاحيتها وقدرتها على التسلق..فأن تتسلق حتى لو صخرةً صغيرة، كان ذلك يُعطي دلالات كثيرة، وأولها استحقاقها لأن تكون على قيد الوجود..!
ذلك الجسر الذي يوصل بين نهاية السهل وبداية الصخور، التي تسند الجبل الممتد بالتفافة دائرية إلى أطراف السماء، كان بمثابة الإعلان الرسمي لبداية رحلة تحدي الريح التي كان من المفترض أن تبدأ في تلك اللحظة.. حالما وضعت قدميها على أضلع الجسر، شعرت بانتفاضة تهزها من الداخل.. لا لم يكن خوفاً من أن تسقط في الماء، فالماء لم يكن عميقاً ولا حتى متحركاً..لم يكن سوى مجرد جدول صغير يُحاول أن يخفف من وطأة اللون الصخري القاتم في تلك المنطقة.. لكن مجرد فكرة أن تضع قدميها في المسافة الفاصلة بين حلم الجبل وحقيقته، بين الحلم والحقيقة، تلك كانت الخطوة التي تعلم أنه لا مفر من الرجوع فيها، لأن حتى إمكانية الرجوع سيترتب عليها الكثير من احتقار الذات والاستخفاف بإمكانياتها..
الجبل، كان دوماً الملجأ الذي تلتجىء فيه من أحلامها وحقائقها..((الجبل هو ذلك الحنين للانبساط على جناح السهل دون فقدان شهوة (التحليق) ))..كانت ترى نفسها في الجبل أكثر من أي عنصر آخر في الطبيعة، كانت تشعر أنه كقلمها يُحاول أن يكتب على جسد الوادي دون أن يُطأطىء رأسه أو أن يفقد كبرياء حبره..
لم تدرك أنها بمجرد أن تخطو خطوة باتجاه ذلك الجبل فهذا يعني أنها تخطو خطوةً لتحديد مدى مصداقية أحلامها ومدى صمود حقيقة وجودها. لم تكن تدرك إلا في تلك اللحظة أنها بمجرد أن تدس إحدى قدميها بين الصخور، فإن ذلك يعني أنها لابد أن تصل إلى مكانٍ ما، و ليصل الإنسان لابد أن يكون قادراً على تحديد هدفه، وهي لازالت لا تعرف أين تقف ولا إلى أين تُريد أن تذهب أو حتى إن كانت تُريد أن تذهب فعلاً؟! لا بل هي تعلم أنها تريد أن تذهب، لكن الوجهة التي تُريد أن تقصدها هي التي تؤرقها، وحتى لو عرفت أين تريد أن تذهب فهي غير متأكدة ماذا ستفعل بعد أن تصل إليها..!
((وماذا بعد أن أصل ؟!)) هذا ما تردده بينها وبين نفسها حينما تُفكر في رحلتها..أحياناً تُفكر أنها ربما لا تُريد أن تصل لأن الوصول متعبٌ أكثر من حلم الوصول، فالأغصان شائكة ومؤرقة بالنسبة للطيور التي احترفت (الهجرة)..!
كانت قد تخطّت الجسر دون أن تنتبه، بل وقد مشت نحو الصخور التي تُصافح الأقدام التي قررت أن تتجاوز تلك الصخور وترى نواصيها من على القمة..
((هل يُمكن أن تأخذ أقدامنا قرارتنا عنا، وتقودنا إلى حيث تُريد مصائرنا أن تكون ؟! هل الخطوة تسبق الإرادة؟! أم أن الإرادة مجرد ظِل يتبع الخطوة؟!)) فجأة انشقّ صوت فيروز من كُوة الريح:”يا جبل الي بعيد، خلفك حبايبنا، بتموج متل العيد، و همك متعبنا”.. هل لذلك تخاف الجبل أحياناً، لأنها تخاف أن تقترب منه فيذوي حلم الحببب الذي يلوح خلفه؟! أم أنها ترفض فكرة أن تتسلق أي جبل بعد أن أخذت غيمة الرحيل حبل يديه معها ؟!
تتذكر كيف نظروا لأول مرةٍ سوياً مِن جبل (عاليه)ـ الذي لا تعرف اسمه وحتى لم تسأل عنه ـ إلى (بيروت) تحتهم وهي تسطع خلف ريشة الشمس الذهبية.. تتذكر لفتة الشمس وقتها، تتذكر ضحكة الريح، تتذكر الأسوار الحجرية المهدمة التي مشوا فوقها، تتذكر البيت المرمي في آخر السهل وراء الأسوار ووراء القناطر المختبئة، تتذكر كلمته التي قال: سأبني لك بيتاً كهذا.. تتذكر ابتسامتها التي كانت قادرة على استنطاق رحم المطر وقتها، تتذكر كل البيوت التي كانت بيوتهم لأنهم مروا بذاكرتها ولأنها سكنت مساماتهم، تتذكر سكون ملامح طيور الفرّي المقتولة والمعلقة في حِزام الصبي الذي أسقاهم الماء يومها، تتذكر قطعة الكرتون التي جلسوا فوقها تفادياً لقرص الحشرات وقرص الغياب، تتذكر البناية الشاهقة بالرغم من تهدم نصفها وضجوج نصفها الآخر بأشباح الريح..
لم تدرِ بنفسها إلا وقد وصلت مع المجموعة إلى منتصف الجبل .كانوا قد توقفوا لشرب الماء والمحافظة على درجة السوائل في الجسم خوفاً من الجفاف..لم تكن حقيبتها مزودة بالقدر الكافي من الماء، لأنها فكرت في رحلة التسلق كمتعة صرفة دون أخذ مقتضاياتها بالجدية المطلوبة؟! هل هذا هو الفرق بيننا وبينهم، فحتى المتعة لديهم لابد أن تأخذ حقها بمنتهى الصرامة، ولابد أن تُمارَس بنفس الجدية التي تُمارس بها الأعمال الأخرى؟! هل لهذا نحن شعبٌ لا يعرف كيف يستمتع بالحياة حتى لو كان لديه كل القدرات والإمكانيات اللازمة لذلك ؟!
رفضت الجلوس لأنها لم تكن تشعر بالتعب لتأخذ أي راحة، التفتت لأول مرة أثناء تسلقها لألوان الصخور العجيبة، وللحشرات والمخلوقات الغريبة التي تمشي بين الأحراش..أصوات الحشرات التي تصدح عبر الخَضار، ذكرتها بأصوات الصراصير ورائحة الصنوبر في جبل لبنان..استوقفتها صخرةٌ كان خضارها غريباً، وكأن تلميذاً لونها بطباشورٍ أخضر كلون السبورة، تذكرت فجأة أنهم لم يستخدموا الطباشور في الفصل للتلوين أبداً، وهي كانت تشتهي التلوين بالطباشير خاصة في حصص الرياضيات..!
قابلوا الكثير من الأشخاص الهابطين من الأعلى، حاولت أن تتفحص تعابير وجوههم بعد الوصول إلى القمة، لكن بشاشتهم ولطف تعابيرهم حالت دون أن تفعل..استوقفها كونهم يهتمون بإحضار كلابهم للتسلق، كاهتمامهم بإحضار أولادهم ليُروحوا عنهم في نهاية الأسبوع..سأل المدرس- المارين- ببساطة إن كانوا قد صادفوا أي ثعبانٍ في طريقهم، وسألونا إن كنا نشعر بالتعب أو الحماس للوصول للقمة..الغريب أنهم لم يتركوا أي انطباع عن رحلة تسلقهم أو وصولهم إلى القمة، حاولت التقاط أي شيء لكنهم وكأنهم كانوا يرفضون إخبارها لتُجرّب وتكتشف بنفسها..والأدهى من ذلك، نظرة الشمس الحادة التي كانت تمنعها حتى من النظر إلى ما فوق قدميها..
“فقط لا تنظروا إلى الأسفل، وسنصل بأمان “..
هذا ما كان يقوله المُدرس وكانت تُرتله كصلاة في سرها..الغريب أنها لم تكن تنظر حتى إلى حركة قدميها المسعورة، و التي باتت تبحث عن الصخور الآمنة للتسلق بتلقائية عجيبة..كانت تنظر إلى القمة فقط، دون أن يهمها الطريق الذي ستسلكه لتصل إليها..ربما فكرت في أن تسلك طريقاً معينا قبل أن تصعد، لكن أثناء صعودها وجدت أنها تتحرك لاإرادياً نحو الصخور الأقل انحداراً..هل هي هكذا رحلتنا في الحياة؛ محاولة لتجنب أكبر قَدر ممكن من الألم؟!
كانوا قد وصلوا إلى القمة قبل أن تستطرد مع تداعياتها، استسلمت لتنهيدة الوصول والاستغراق في محاولة إدراك صورة الأفق بعينيّ الجبل.. تذكرت ما قرأته في إحدى الروايات بأن الإنسان وبعد أن يحلم بالوصول إلى القمة ويُعافر في صعوده إليها، يكتشف أن تلك القمة ليست سوى تل صغير، وأن القمة الحقيقية لازالت بعيدة جداً عن قدميه..!
فكرت في ذلك وجِلدها يحترق تحت لهيب الشمس القريبة جداً منهم.. جلست على صخرةٍ منبسطة على القمة وباتت تُفكر في اللاشيء تاركة نفسها لمركب الريح.. بالرغم أنها لم تشعر بأنها تُلامس عُنق السماء كما اعتقدت أنها ستشعر حينما تصل إلى القمة، لكن كان هناك شيءٌ غريب يشدها لأن تلتصق بذراع الجبل أكثر..إنه نوعٌ من الرغبة في الوصول إلى نواة الأرض عبر فوهة الصخر..أو ربما نوعٌ من الانتماء إلى كل ما يُذكرنا ويُرجِعنا إلى الطين..
وَدت لو تتمدد على تلك الصخرة المنبسطة، وترى الأفق تحتها مائلاً كميل الضوء على حواف أسراب الضباب..لكن صوت المُدرس باغتَها بأن لابد أن ينزلوا..
((لماذا تكبدنا كل هذه المشقة إن كنا لن نلبث طويلاً .! )) فجأة قال– وكأنه سمع ما قالته في نفسها- :” لو جلستِ ساعة أو حتى يوماً كاملاً، فلن تشعري برغبةٍ في النزول !” نظرت إليه دون أن تنبس، وتبعته واضعة نُصب عينيها شريط خِبرته بين الجبال حينما كان في الجيش..
كانت تحبس أنفاسها لكيلا يظهر لهاثها أثناء الهبوط..كانت تشعر بألمٍ عميق يصل إلى رئتيها، في كل خطوةٍ تخطوها على جسد صخرةٍ جديدة..اعتقدت لوهلة أنهم لم يسلكوا ذات الطريق أثناء صعودهم، فقد كانت تنظر إلى الصخور لأول مرة، وقبل كل شيء تشعر بسكاكينها في قدميها..لم تعتقد أن رحلة الهبوط ستكون بتلك الصعوبة، ولم تشعر بأن الصخور التي عَبرت فوقها كانت بتلك الوعورة، ولا أن حذاءها كان بتلك الرقة..
((لماذا الهبوط صعبٌ لهذه الدرجة.! وهل هو هبوطٌ من الحلم إلى الحقيقة ، أم من الحقيقة إلى الحلم ؟!))
جاءها صوت المُدرس بدون نذير كالعادة:”التحدي الأكبر هنا، حين تُحاولين أن تُلقي بثقلك على الصخور دون أن يتعثر بوزنك أو بحزنك، أن تحافظي على ذلك التوازن بين صرامة وجوده وزئبقية وجودك.. هنا مكمن معاناتنا وصراعنا الأكبر؛ تحولنا من الجلوس على أرض الصخر السائرة نحو المحتوم الثابت، إلى اللحاق بأوراق الماء المسافرة إلى المجهول المتغير مع الفصول والمواسم.. لهذا نحن نصعد إلى القمة، لا لنصل، بل لنلمس حقيقةً صلبة قادرة على الوقوف في وجه الريح، ولنرى أنفسنا في مرآتها بعد ذلك.. نحن لا نتسلق لنصل إلى القمة، بل لنرى انعاكسنا في مرآة الماء المنتظرة بالأسفل..”
فجأة رأت أمامها صورة راقصة الباليه الروسية التي دائماً تُلاحقها، ابتعدت عن المجموعة وبدأت تهبط بسرعةٍ أكبر، كانت أطرافها تشتعل وهي ترى راقصة الباليه تقفز في الهواء، ثم تهبط على قدميها وتُحاول أن تستعيد توازنها بالنزول إلى الأرض والتقوقع على جسدها..بدأت سرعتها تزيد تدريجياً وهي ترى الراقصة تُلقي بكل ثقلها في الهواء حينما تقفز وتتكىء على قدميها أثناء هبوطها..!
ولم تصل إلا حينما استندت على صخرة قدميها..!
هبة البيتي
آوكلاهوما سيتي
٢٠٠٧
.