هل تذكر بيتنا في حارة اليرموك ، يكويه حر الصيف ، ويذوب في برد الشتاء ؟!
كم كان يضج بأحلام الطفولة ..
أتذكر الحارة ، ورفاق الأمس ، وربيع الأنس .. ورحيق الليل في رواحات المساء ؟!
ما الذي حدث لنا يا صالح .. أخبرني ما الذي حدث ؟!
إنني أفتقد لذة النعيم منذ زمن ، أحلم بكثير من الأشياء ، وأفيق على أخرى لا أحلم بها .
أتعلم أنهم سيهدمون مدرستنا ؟!
لقد كنتُ أول شخص يدرس فيها ثم يعود إليها مدرسا .. كانت لحظة غريبة حينما دخلت على مديرنا عثمان رحمة الله عليه ، هل تصدق أن شنبه لم يزد ولم ينقص قيد إنش ؟! .. أعلم أنه لا يصح الضحك على الأموات .. ولكنني لن أنسى ذلك الشنب ما حييت .
غرفة الوكيل في ذلك الوقت تحولت إلى مقصف ، وانتقل الوكيل إلى الدور الثاني .. كان شابا في حدود عمري تقريبا .. أتراه يدرك جيدا أنه خليفة لشريف الحامولي ؟! .. لقد قصصت عليه من كان شريف الحامولي فلم يصدقني ، أخبرته حينما حملك من "غالوقتك" وأخذ يمسح بك السبورة ، فانخرط يضحك ضحك من لم يصدق شيئا من ذلك .. شاب لطيف ، لا يملك عصا ، كيف تصبح وكيلا وأنت لا تملك عصا ؟!
هل تصدق أنني لحقت على الحامولي ؟! .. هو أيضا لم يعد معه عصا في تلك الأيام ، التهاب المفاصل جعله غير قادر على الضرب أو الرفع بـ "الغالوقة" .. لم يتذكرني ، أخبرته أنني الفتى الذي أجبرني هو بنفسه على أن أحمل "نصف بلكَّة" لمدة ربع ساعة حينما تسللت من الطابور ذات مرة .. نظر إلي متفكرا ثم استسلم قائلا : عشرون سنة ، في كل واحدة منها ستون طالبا ، وفي كل ستين طالبا هنالك ثلاثون حملوا تلك البلكة ..
لا أعلم لماذا ، ولكنني شعرت بالخيبة ، لقد ظننت وأنا أحمل تلك البلكة أنني فعلت شيئا لا يمكن للحامولي أن ينساه ، وإذا بي كغيري ، وإذا بنا جميعا نضيع في ذاكرة الحامولي .. زمن !!
أتذكر غرفة المدرسين ؟! .. دعني أخبرك بشيء ، لم تكن على قدر الغموض الذي كان يسيطر عليها ونحن نقف خلف بابها الخشبي .. 9 طاولات ، يجلس عليها 9 أساتذة ، يشربون الشاي ويتناحرون على الجريدة وينكتون ويمزحون ويضحكون ، غرفهم كفصولنا غير أنهم لا يضربون على القفا .. لقد خُدعنا يا صالح ، لم يكن فيهم شيء مما ظننا ، أو بالأصح مما أظهروا لنا .
عشرون سنة أمضيتها في تلك المدرسة .. عمر طويل .. حينما يسألني أحد : أين أمضيت ربيع شبابك ، فسأقول : في مدرسة بلال ابن أبي رباح .. هذا يكفي أن يمنح صورة جيدة لما أعنيه : عمر طويل .
قابلت قبل يومين شابا لطيفا ، سلم علي بحفاوة ، سألني : هل تذكرني ؟! .. حاولت ولكنني لم أستطع ، قال لي بأنني أوصلتُه ذات مرة إلى بيته عندما كان طالبا لدي .. لم أتذكر شيئا مما تفوَّه به الفتى ، كل ما تذكرته هو شريف الحامولي ، ما أشبه الليلة بالبارحة !!
أدركت أن حمل البلكة والتوصيلة إلى البيت لا تعني شيئا لنا ، ولكننا ننطبع في ذاكرتهم من خلالها ، هم كثر بالنسبة لنا يتغيرون ويتجددون ، أما نحن فرموز لا تتغير لست سنوات .. أرعبتني الفكرة ، ذهبت إلى الفصل وأنا أتطلع برهبة في الوجوه المترقبة : كيف سينظر هؤلاء الأقزام إليَّ لاحقا ؟!
حينما تهدم المدرسة فمن الممكن أن أتحول مشرفا في الوزارة ، وربما أنتقل إلى العاصمة .. ظللت أماطل في بيع البيت طويلا حتى ضاق الأمر بزوجتي ، تقول بأنني أصبحت أحمل عقلا متحجرا كـ "الشيبان" .. هل الخامسة والأربعون عمر كبير ؟! ، أشعر بأنها عمر كبير فما فائدة ما يظنه الآخرون !
لازال البيت يعبق برائحة المطر في الشتاء ، وبشذى أوراق الشجرة العملاقة بجانبنا في ساعات الفجر الأولى .. لولا "بويته" المتساقطة لقلت بأنه يدور خارج نطاق الزمن ، لا يشيخ ولا يخضع لظروف الوقت .
أما بيت جارتنا أم حسان رحمة الله عليها فقد هدم ..
كثير من الأشياء أصبحت تهدم ، أليس كذلك ؟!
أخبرت ولدها ونحن في عزائها بقصتنا معها ، حينما كنا نبحث في بقالة "كظرين" عما نستطيع شراءه بنصف ريال مقسم إلى هللات حديدية ، تطفح في عرق أيدينا ، نأخذ هذا ونرجع ذاك ونساوم العامل ، نحاول أن نبذل أقل التضحيات بأقل الأسعار .. وإذا بها ترمي بخمسة ريالات عند البائع ليضعها في حسابنا ، لقد بدى وكأن العالم لا حدود له .. أخبرته بذلك فبكى حتى كدت أن أبكي معه ، ثم استأذنني أن يضعها في إحدى قصصه ..
كاتب جميل .. قرأت روايته الأولى "الحارة" ، ومنها اقتبست فكرة هذه الثرثرة .. حيث أن بطل قصته مسعود أخرج دفترا وأخذ يكتب كل يوم لأخيه الميت ، يخبره بكل ما حدث وكأنه يعيش تجربته من جديد مع شخص يربطهما ماضٍ ولا يربط بينهما أي مستقبل ، يستمع ولا ينشغل بإطلاق الأحكام .. اثنان يتأرجحان بين الحياة والموت !
هذا هو يومنا الأول يا صالح .
.
كم كان يضج بأحلام الطفولة ..
أتذكر الحارة ، ورفاق الأمس ، وربيع الأنس .. ورحيق الليل في رواحات المساء ؟!
ما الذي حدث لنا يا صالح .. أخبرني ما الذي حدث ؟!
إنني أفتقد لذة النعيم منذ زمن ، أحلم بكثير من الأشياء ، وأفيق على أخرى لا أحلم بها .
أتعلم أنهم سيهدمون مدرستنا ؟!
لقد كنتُ أول شخص يدرس فيها ثم يعود إليها مدرسا .. كانت لحظة غريبة حينما دخلت على مديرنا عثمان رحمة الله عليه ، هل تصدق أن شنبه لم يزد ولم ينقص قيد إنش ؟! .. أعلم أنه لا يصح الضحك على الأموات .. ولكنني لن أنسى ذلك الشنب ما حييت .
غرفة الوكيل في ذلك الوقت تحولت إلى مقصف ، وانتقل الوكيل إلى الدور الثاني .. كان شابا في حدود عمري تقريبا .. أتراه يدرك جيدا أنه خليفة لشريف الحامولي ؟! .. لقد قصصت عليه من كان شريف الحامولي فلم يصدقني ، أخبرته حينما حملك من "غالوقتك" وأخذ يمسح بك السبورة ، فانخرط يضحك ضحك من لم يصدق شيئا من ذلك .. شاب لطيف ، لا يملك عصا ، كيف تصبح وكيلا وأنت لا تملك عصا ؟!
هل تصدق أنني لحقت على الحامولي ؟! .. هو أيضا لم يعد معه عصا في تلك الأيام ، التهاب المفاصل جعله غير قادر على الضرب أو الرفع بـ "الغالوقة" .. لم يتذكرني ، أخبرته أنني الفتى الذي أجبرني هو بنفسه على أن أحمل "نصف بلكَّة" لمدة ربع ساعة حينما تسللت من الطابور ذات مرة .. نظر إلي متفكرا ثم استسلم قائلا : عشرون سنة ، في كل واحدة منها ستون طالبا ، وفي كل ستين طالبا هنالك ثلاثون حملوا تلك البلكة ..
لا أعلم لماذا ، ولكنني شعرت بالخيبة ، لقد ظننت وأنا أحمل تلك البلكة أنني فعلت شيئا لا يمكن للحامولي أن ينساه ، وإذا بي كغيري ، وإذا بنا جميعا نضيع في ذاكرة الحامولي .. زمن !!
أتذكر غرفة المدرسين ؟! .. دعني أخبرك بشيء ، لم تكن على قدر الغموض الذي كان يسيطر عليها ونحن نقف خلف بابها الخشبي .. 9 طاولات ، يجلس عليها 9 أساتذة ، يشربون الشاي ويتناحرون على الجريدة وينكتون ويمزحون ويضحكون ، غرفهم كفصولنا غير أنهم لا يضربون على القفا .. لقد خُدعنا يا صالح ، لم يكن فيهم شيء مما ظننا ، أو بالأصح مما أظهروا لنا .
عشرون سنة أمضيتها في تلك المدرسة .. عمر طويل .. حينما يسألني أحد : أين أمضيت ربيع شبابك ، فسأقول : في مدرسة بلال ابن أبي رباح .. هذا يكفي أن يمنح صورة جيدة لما أعنيه : عمر طويل .
قابلت قبل يومين شابا لطيفا ، سلم علي بحفاوة ، سألني : هل تذكرني ؟! .. حاولت ولكنني لم أستطع ، قال لي بأنني أوصلتُه ذات مرة إلى بيته عندما كان طالبا لدي .. لم أتذكر شيئا مما تفوَّه به الفتى ، كل ما تذكرته هو شريف الحامولي ، ما أشبه الليلة بالبارحة !!
أدركت أن حمل البلكة والتوصيلة إلى البيت لا تعني شيئا لنا ، ولكننا ننطبع في ذاكرتهم من خلالها ، هم كثر بالنسبة لنا يتغيرون ويتجددون ، أما نحن فرموز لا تتغير لست سنوات .. أرعبتني الفكرة ، ذهبت إلى الفصل وأنا أتطلع برهبة في الوجوه المترقبة : كيف سينظر هؤلاء الأقزام إليَّ لاحقا ؟!
حينما تهدم المدرسة فمن الممكن أن أتحول مشرفا في الوزارة ، وربما أنتقل إلى العاصمة .. ظللت أماطل في بيع البيت طويلا حتى ضاق الأمر بزوجتي ، تقول بأنني أصبحت أحمل عقلا متحجرا كـ "الشيبان" .. هل الخامسة والأربعون عمر كبير ؟! ، أشعر بأنها عمر كبير فما فائدة ما يظنه الآخرون !
لازال البيت يعبق برائحة المطر في الشتاء ، وبشذى أوراق الشجرة العملاقة بجانبنا في ساعات الفجر الأولى .. لولا "بويته" المتساقطة لقلت بأنه يدور خارج نطاق الزمن ، لا يشيخ ولا يخضع لظروف الوقت .
أما بيت جارتنا أم حسان رحمة الله عليها فقد هدم ..
كثير من الأشياء أصبحت تهدم ، أليس كذلك ؟!
أخبرت ولدها ونحن في عزائها بقصتنا معها ، حينما كنا نبحث في بقالة "كظرين" عما نستطيع شراءه بنصف ريال مقسم إلى هللات حديدية ، تطفح في عرق أيدينا ، نأخذ هذا ونرجع ذاك ونساوم العامل ، نحاول أن نبذل أقل التضحيات بأقل الأسعار .. وإذا بها ترمي بخمسة ريالات عند البائع ليضعها في حسابنا ، لقد بدى وكأن العالم لا حدود له .. أخبرته بذلك فبكى حتى كدت أن أبكي معه ، ثم استأذنني أن يضعها في إحدى قصصه ..
كاتب جميل .. قرأت روايته الأولى "الحارة" ، ومنها اقتبست فكرة هذه الثرثرة .. حيث أن بطل قصته مسعود أخرج دفترا وأخذ يكتب كل يوم لأخيه الميت ، يخبره بكل ما حدث وكأنه يعيش تجربته من جديد مع شخص يربطهما ماضٍ ولا يربط بينهما أي مستقبل ، يستمع ولا ينشغل بإطلاق الأحكام .. اثنان يتأرجحان بين الحياة والموت !
هذا هو يومنا الأول يا صالح .
.