لا أحد يعرف فولمير بريخت هذا الأربعيني الأعزب والذي يسكن شقة صغيرة ومتواضعة في وسط برلين، إلا كموظف حكومي بمرتبة متدنية في دائرة الأحوال. يمكن القول دون الشعور بأي نوع من المغالطة أن فولمير هو التجسيد النهائي لفكرة كون الإنسان موظفا حكوميا، أعرف أن التاريخ مازال طويلاً ويمتد بشكل بطيء، ومقولة ‘‘ التجسيد النهائي ‘‘ تتصادم مع هذه المسلمة، إلا أنني أصر على صحتها. لا أقصد بأي حال أنه نموذج للموظف المثالي الذي يلتزم بمواعيد العمل في الحضور والانصراف، يعمل كل ما تقتضيه مصلحة العمل، وإن كان على حساب راحته، لا يسمح لمشاكله الشخصية أن تؤثر على مزاجه في العمل، ينفذ التعليمات التي تأتي من الأعلى وإن لم يفهم مبررها مثل أي آلة كاتبة تحت يد موظف بليد تعمل بجد وصبر. يشعر بالذنب إذا لم يذهب للعمل لمرض أصابه بشكل مفاجئ، ثم تحسن بعد ساعات. وكل تلك الأمور التي يتوقعها المدير الحازم الذي ينعزل في مكتبه. كل هذا تجسيد تاريخي هامشي للفكرة، ينتهي بالتقاعد أو بمشكلة كبيرة تحدث في العمل تدفع الموظف للتسيّب أو لفعل أشياء مضرة بالعمل انتقاماً من مديره. فولمير أبعد من ذلك، فولمير كان يرى هذا العالم مثل دائرة حكومية كبيرة، لم يفهم وجوده إلا كموظف حكومي. أقصد أنه كان الإنسان الموظف الحكومي -على غرار الإنسان الاقتصادي ومثل تلك التعبيرات- لم يفعل شيء في حياته إلا أن يكون موظفا حكوميا، في أوقات العمل أو في أيام العطل أو حتى عندما يشرب كأس فودكا في مقهى رخيص، أو يدخن سيجارة ملفوفة بطريقة يدوية، أو يأكل عشاء الأمس كوجبة غداء، أو يتكلم عن الحرب مع مجموعة رجال لا يعرفهم، أو عندما يناقش قضية أخلاقية مع زميلة في العمل، أو حتى عندما يمشي على الرصيف ببطء ودون أن يقصد وجهة بعينها، لم يكن إلا موظفاً حكومياً بمرتبة متدنية. كانت برلين نسخة رديئة من الجحيم، ولو كان جحيماً خالصاً لأمكن تفهمه بأي شكل، لكن الطريقة البشعة التي انهارت بها كل القيم الإنسانية والجمالية بسبب الحرب واستبداد الحزب الحاكم بقيادة الفوهرر أدولف هتلر، وضعت الناس العاديين الذين يسيرون في الشارع تحت ضغط رهيب لا يمكن تحمله بشكل عقلاني، ضغط لا يتحمله إلا الذين فقدوا عقولهم لأنهم لا يدركون مدى فضاعة هذا الذي يحدث. إلا أن فولمير كان يستطيع أن يتفهم هذا الوضع البائس دون أن يفقد عقله. كان يرى أن الذي يحدث ليس أكثر من حتمية إدارية لا مفر من وقوعها، ويجب الاجتهاد في تنفيذها بشكل دقيق وبحسب التعليمات. لم تشكل الحرب بالنسبة له أي مشكلة إنسانية، كان ما يزعجه فقط أنها اعتدت عليه شخصيا، حينما أعلن مدير دائرة الأحوال عن توقف العمل، إذ راح عمال البريد يمرون على المكاتب يعلنون عن طلب المدير، بطرقات سريعة على أبواب على المكاتب ودون أن ينظر أحدهم لمن بالداخل ‘‘ اجتماع عام .. اجتماع عام ‘‘ ولم يكن ذلك من مهامهم الوظيفية. وماهي إلا دقائق حتى انتظم الموظفون في البهو الداخلي للبناية الكبيرة والمكونة من أربعة طوابق تغص واجهتها بالكثير من النوافذ، انتظموا بطريقة تراتبية إدارية محضة ودون قصد، رؤساء الأقسام في الصفوف الأولى ومن جاء معهم من موظفي مكاتبهم، ثم الموظفون الذين يلونهم في التراتبية. وكان فولمير يقف وحيداً في المؤخرة على رؤوس أصابعه يقلب رأسه يميناً ويساراً ماداً عنقه لعله يرى المدير وهو يتحدث. كان الإرتباك باديا على المدير وهو يرتجل خطبته، قال كلاماً كثيراً كان يعرف أنه كلام زائف عن الفوهرر وعن الرايخ وعن صمود الجيش الألماني، يقطع حديثه تصفيق الموظفين بحماس وتأملاته في وجوههم الهزيلة. قال في آخر خطبته وكان الصوت بالكاد يصل لفولمير: لقد خدمنا وطننا بجد طيلة أيام عملنا والآن جاء الوقت ليتوقف هذا العمل، هكذا جاءت أوامر القيادة. التقط فولمير شيئاً عن توقف العمل وبسرعة ضرب على كتف الرجل الذي أمامة: ماذا يقول، كيف يتوقف العمل، هذا غير معقول !؟ رد عليه الرجل وهو ينحني عليه ليُسمعه بسبب الهتافات التي ارتفعت تمجد الفوهرر: كما يتوقف أي شيء، سوف أذهب لدويسبورغ وصلتني رسالة من عمتي كتبت فيها أن الأمور طيبة هناك، وعمتي لا تلقي كلاماً بلا معنى. أدرك فولمير أن العمل انتهى، وسحقته هذه الحقيقة التي لم يفكر فيها ولو لمرة واحدة، بل إنه كان يخاف من التفكير في مصيره بعد التقاعد. أقول أن هذه الحقيقة سحقته لأن كل التقدير المفترض على الناس تقديمه لموظف مثله، كل التحايا التي تلقاها في مرات قليلة ويتذكر تفاصيلها، نظرات الحسد من زملائه في العمل إذا ما شكره رئيس المكتب، وكل كلمات الإمتنان من المراجعين الذين كان يخدمهم، كل هذا كان يسحق تحت أقدام العسكر الذين بغبائهم تسببوا بإيقاف العمل، ما جعله يشعر باستحقار رهيب لنفسه، كما لو كان يتغوط على خشبة مسرح والجمهور يتابعه بكل انتباه.
منذ تلك اللحظة التي لم يعد بعدها فولمير موظفاً حكومياً بمرتبة متدنية في دائرة الأحوال وهو يعيش حياة عصيبة، يدرك من يراه أنه مصاب بمرض عقلي. كان هزيلاً بشكل مفزع بل إن شكله كان مقززاً تماماً، لم يستبدل ثيابه ربما لعدة أسابيع. لا يتناول الطعام الذي لا يتوفر بشكل كاف، إلا في مرات قليلة، تتعاقب عليه الأيام وهو لم يتناول إلا مخلل الكرنب المعلب في علبة حديدية، وجدها على رف مطبخ الشقة التي أمام شقته، وهي لسيدة عرف من لقاء عابر بينهما أنها معلمة، وقد اعتقلها جهاز الغستابو لأنها يهودية ورحلت إلى حي يهودي. وكان فولمير يدخل لشقق العمارة يفتش عن أي شيء يمكن أن يفيده، حيث أن العمارة كانت خالية من ساكنيها بعد أن خرج من يستطيع الخروج من برلين عموماً والآخرون إما قتلهم القصف أو اعتقلهم جهاز الغستابو أو يختبؤون في ركام بيوتهم. وفيما كان يفتش ذات مرة عن طعام في شقة في الطابق العلوي وكان يسكنها طبيب مُسن مع زوجته، سمع صوت انفجار عظيم، واهتزاز سقط معه على وجهه. عرف حين نزل بسرعة أن الانفجار لم يكن إلا قذيفة هاوتزر أصابت جدار شقته. خلفت فجوة متوسطة في الجدار، وغبار رمادي ناعم غطى كل شيء. وبسبب هذه الفجوة لم يعد ينام في شقته إلا نادراً. وصار ينام على السريرالخشبي للمسنة الثرثارة التي استأجر منها شقته، وحين إعتاد ذلك، نقل آلته الكاتبة وأوراقه، وعلبة مخلل الكرنب والتي بقي بها شيء يسير والقليل من علب الفواكة المجففة ومعطفين كان يرتديهما فوق بعضهما إلى شقة السيدة العجوز الثرثارة، عازما على الاستقرار فيها بسبب دفئها كما كان يؤكد لنفسه عندما دخلها أول مرة. كانت شقة مرتبة بطريقة اشعرته بشيء من الطمأنينة، الجدران مزينة بلوحات لسيدات محترمات وعلى رف المدفأة منحوتات فنية خشبية وأخرى من معدن لم يعرفه، أبواب الغرف لها لون بني داكن حميم ومزينة بنقوش دقيقة يمكن أن تتحسسها باليد، النوافذ المطلة على الشارع عليها ستائر ثقيلة وذات ألوان مبهجة. وفي وسط هذا يمكنك أن ترى أريكة مخملية خضراء تتسع لثلاثة أشخاص، و مكتبة صغيرة بأربع رفوف عليها كتب لم تفتح أبدا كما أظن. كانت قطع الأثاث موزعة بشكل دقيق جعله يشعر وكأن الشقة بنيت هكذا قطعة واحدة لا يمكن أن تفصل عنها أي جزء من الأثاث. كان فولمير دائم الجلوس على الأريكة الخضراء أمام المدفأة، التي لم يفلح في إشعالها إلا في مرات قليلة، إذ لم يجد حطباً وكان يحرق بعض الأخشاب والكتب القديمة. يجلس ويضع آلته الكاتبة على طاولة قصيرة أمامه ويكتب. كان يكتب أشياء ينوي تقديمها لمديرة بكل جدية، تصور لمرة أنه اكتشف حلاً لبلادة الموظفين لكنه أهمل هذا التصور فيما بعد، وراح يكتب عما سماه مشاكل البيروقراطية. كتب مثل هذه الأشياء في أيامه الأولى حتى انتهى الورق الذي لديه. ثم لم يدر مالذي عليه أن يفعله بعد ذلك. في بعض المرات كان يراقب الشارع من خلال النافذة بصمت بغيض، كما لو أن أحداً ينتظر منه جواباً لأمر مهم وهو صامت. ولا يخترق هذا الصمت إلا أصوات دوي قنابل طائرات البي سبعة عشر، وصافرات الإنذار التي تنطلق بلا معنى حيث لا مكان يختبئ الناس فيه. كان يستطيع إذا ما التفت بزاوية حادة أن يرى المستشفى الذي دمر تماماً، وطابور البيوت التي تحولت إلى ركام. في الجهة الأخرى كان يرى مدفع كبير مضاد للطيران نصب وسط الشارع وحوله أكوام من أكياس الرمل، يتناوب عليه تسعة من شبيبة هتلر، وهم مراهقون متحمسون لم يحصلوا على أي تدريب عسكري. لا يفصل بينهم وبين فولمير إلا عربة الترام المحترقة، كانت الحرائق في كل مكان من برلين، وأعمدة الأدخنة ترتفع بشكل لا نهائي كما لو كانت تريد هي الأخرى أن تهرب إلى السماء ولا تعود. لم يكن هناك مدنيون يظهرون أمام مرمى بصره إلا الأموات، والذين تعفنت جثثهم على الرصيف ووسط البرك الصغيرة التي يتركها المطر، الكلاب كانت تموت على الرصيف أيضاً. كان يراقب كل هذا بلا مبالاة، ينتظر متى تنتهي الحرب ليعود لوظيفته. وفي مرات قليلة فكر في أن سكنه في شقة لا تعود ملكيتها له تجاوز عليه أن يعتذر عنه عندما تعود السيدة العجوز الثرثارة.
في صباح أحد الأيام الباردة، تلك البرودة التي تذكرك بأشياء كئيبة، كان فولمير منكمشاً على نفسة مرتدياً معطفه، ويغطي نفسه بغطاء صوفي ثقيل. أفاق على صوت قوي يصله من الشارع، كان صوت قرع جنود فرقة مشاة ميكانيكية تابعة للجيش السوفيتي تعبر الشارع أمام نافذته. رآهم من خلف الستائر يمشون بثبات وحزم، وينشدون أناشيد النصر. عرف أن برلين سقطت أخيراً في أيديهم، أسرع للمرآة الكبيرة في غرفة السيدة صاحبة الشقة والتي تعلو منضدة الزينة، ووقف أماماها ليهذب منظرة. كانت لحيته كثه وقذرة وشاربه طال حتى غطى شفته، عيناه غائرتان ومحمرتان ويبدو أنهما مصابتان بالتهاب حاد. مسح وجهه بيديه بعد أن بللهما بلعابه وضرب معطفه في الأماكن المتسخة، حتى ظن أنه فعل أفضل مايمكن فعله في هذه الظروف. خرج إلى الشارع وكان الجنود يمرون من أمامه ولا ينتبه أحد لوجوده. راح يمشي بخطوات سريعة ليحاذيهم، وقال لأحد الجنود حين صار بجواره وهو يمشي: أنا موظف حكومي، عملت لوقت طويل وأستطيع أن أعمل معكم، لا أعرف كيف أستخدم السلاح، لكني أقوم بأعمال إدارية. أشار له الجندي محركاً يده كما لو كان يهش ذبابة وتفوه بكلمة لم يفهمها فولمير. توقف ثم عاد يكلم جنديا آخر: أجيد الكتابة، يمكنك أن تختبرني. أرجوك يا سيدي. نظر إليه الجندي وفولمير يعيد عليه: الكتابة، ويحرك أصابعة للأسفل كما لو كان يطبع على آلة كاتبة. صوب الجندي سلاحه وهو يسير على صدر فولمير الذي تراجع ببطئ وهو يرفع يديه مستسلماً.
منذ تلك اللحظة التي لم يعد بعدها فولمير موظفاً حكومياً بمرتبة متدنية في دائرة الأحوال وهو يعيش حياة عصيبة، يدرك من يراه أنه مصاب بمرض عقلي. كان هزيلاً بشكل مفزع بل إن شكله كان مقززاً تماماً، لم يستبدل ثيابه ربما لعدة أسابيع. لا يتناول الطعام الذي لا يتوفر بشكل كاف، إلا في مرات قليلة، تتعاقب عليه الأيام وهو لم يتناول إلا مخلل الكرنب المعلب في علبة حديدية، وجدها على رف مطبخ الشقة التي أمام شقته، وهي لسيدة عرف من لقاء عابر بينهما أنها معلمة، وقد اعتقلها جهاز الغستابو لأنها يهودية ورحلت إلى حي يهودي. وكان فولمير يدخل لشقق العمارة يفتش عن أي شيء يمكن أن يفيده، حيث أن العمارة كانت خالية من ساكنيها بعد أن خرج من يستطيع الخروج من برلين عموماً والآخرون إما قتلهم القصف أو اعتقلهم جهاز الغستابو أو يختبؤون في ركام بيوتهم. وفيما كان يفتش ذات مرة عن طعام في شقة في الطابق العلوي وكان يسكنها طبيب مُسن مع زوجته، سمع صوت انفجار عظيم، واهتزاز سقط معه على وجهه. عرف حين نزل بسرعة أن الانفجار لم يكن إلا قذيفة هاوتزر أصابت جدار شقته. خلفت فجوة متوسطة في الجدار، وغبار رمادي ناعم غطى كل شيء. وبسبب هذه الفجوة لم يعد ينام في شقته إلا نادراً. وصار ينام على السريرالخشبي للمسنة الثرثارة التي استأجر منها شقته، وحين إعتاد ذلك، نقل آلته الكاتبة وأوراقه، وعلبة مخلل الكرنب والتي بقي بها شيء يسير والقليل من علب الفواكة المجففة ومعطفين كان يرتديهما فوق بعضهما إلى شقة السيدة العجوز الثرثارة، عازما على الاستقرار فيها بسبب دفئها كما كان يؤكد لنفسه عندما دخلها أول مرة. كانت شقة مرتبة بطريقة اشعرته بشيء من الطمأنينة، الجدران مزينة بلوحات لسيدات محترمات وعلى رف المدفأة منحوتات فنية خشبية وأخرى من معدن لم يعرفه، أبواب الغرف لها لون بني داكن حميم ومزينة بنقوش دقيقة يمكن أن تتحسسها باليد، النوافذ المطلة على الشارع عليها ستائر ثقيلة وذات ألوان مبهجة. وفي وسط هذا يمكنك أن ترى أريكة مخملية خضراء تتسع لثلاثة أشخاص، و مكتبة صغيرة بأربع رفوف عليها كتب لم تفتح أبدا كما أظن. كانت قطع الأثاث موزعة بشكل دقيق جعله يشعر وكأن الشقة بنيت هكذا قطعة واحدة لا يمكن أن تفصل عنها أي جزء من الأثاث. كان فولمير دائم الجلوس على الأريكة الخضراء أمام المدفأة، التي لم يفلح في إشعالها إلا في مرات قليلة، إذ لم يجد حطباً وكان يحرق بعض الأخشاب والكتب القديمة. يجلس ويضع آلته الكاتبة على طاولة قصيرة أمامه ويكتب. كان يكتب أشياء ينوي تقديمها لمديرة بكل جدية، تصور لمرة أنه اكتشف حلاً لبلادة الموظفين لكنه أهمل هذا التصور فيما بعد، وراح يكتب عما سماه مشاكل البيروقراطية. كتب مثل هذه الأشياء في أيامه الأولى حتى انتهى الورق الذي لديه. ثم لم يدر مالذي عليه أن يفعله بعد ذلك. في بعض المرات كان يراقب الشارع من خلال النافذة بصمت بغيض، كما لو أن أحداً ينتظر منه جواباً لأمر مهم وهو صامت. ولا يخترق هذا الصمت إلا أصوات دوي قنابل طائرات البي سبعة عشر، وصافرات الإنذار التي تنطلق بلا معنى حيث لا مكان يختبئ الناس فيه. كان يستطيع إذا ما التفت بزاوية حادة أن يرى المستشفى الذي دمر تماماً، وطابور البيوت التي تحولت إلى ركام. في الجهة الأخرى كان يرى مدفع كبير مضاد للطيران نصب وسط الشارع وحوله أكوام من أكياس الرمل، يتناوب عليه تسعة من شبيبة هتلر، وهم مراهقون متحمسون لم يحصلوا على أي تدريب عسكري. لا يفصل بينهم وبين فولمير إلا عربة الترام المحترقة، كانت الحرائق في كل مكان من برلين، وأعمدة الأدخنة ترتفع بشكل لا نهائي كما لو كانت تريد هي الأخرى أن تهرب إلى السماء ولا تعود. لم يكن هناك مدنيون يظهرون أمام مرمى بصره إلا الأموات، والذين تعفنت جثثهم على الرصيف ووسط البرك الصغيرة التي يتركها المطر، الكلاب كانت تموت على الرصيف أيضاً. كان يراقب كل هذا بلا مبالاة، ينتظر متى تنتهي الحرب ليعود لوظيفته. وفي مرات قليلة فكر في أن سكنه في شقة لا تعود ملكيتها له تجاوز عليه أن يعتذر عنه عندما تعود السيدة العجوز الثرثارة.
في صباح أحد الأيام الباردة، تلك البرودة التي تذكرك بأشياء كئيبة، كان فولمير منكمشاً على نفسة مرتدياً معطفه، ويغطي نفسه بغطاء صوفي ثقيل. أفاق على صوت قوي يصله من الشارع، كان صوت قرع جنود فرقة مشاة ميكانيكية تابعة للجيش السوفيتي تعبر الشارع أمام نافذته. رآهم من خلف الستائر يمشون بثبات وحزم، وينشدون أناشيد النصر. عرف أن برلين سقطت أخيراً في أيديهم، أسرع للمرآة الكبيرة في غرفة السيدة صاحبة الشقة والتي تعلو منضدة الزينة، ووقف أماماها ليهذب منظرة. كانت لحيته كثه وقذرة وشاربه طال حتى غطى شفته، عيناه غائرتان ومحمرتان ويبدو أنهما مصابتان بالتهاب حاد. مسح وجهه بيديه بعد أن بللهما بلعابه وضرب معطفه في الأماكن المتسخة، حتى ظن أنه فعل أفضل مايمكن فعله في هذه الظروف. خرج إلى الشارع وكان الجنود يمرون من أمامه ولا ينتبه أحد لوجوده. راح يمشي بخطوات سريعة ليحاذيهم، وقال لأحد الجنود حين صار بجواره وهو يمشي: أنا موظف حكومي، عملت لوقت طويل وأستطيع أن أعمل معكم، لا أعرف كيف أستخدم السلاح، لكني أقوم بأعمال إدارية. أشار له الجندي محركاً يده كما لو كان يهش ذبابة وتفوه بكلمة لم يفهمها فولمير. توقف ثم عاد يكلم جنديا آخر: أجيد الكتابة، يمكنك أن تختبرني. أرجوك يا سيدي. نظر إليه الجندي وفولمير يعيد عليه: الكتابة، ويحرك أصابعة للأسفل كما لو كان يطبع على آلة كاتبة. صوب الجندي سلاحه وهو يسير على صدر فولمير الذي تراجع ببطئ وهو يرفع يديه مستسلماً.