كان بطل قصتي، لنقل فاروق مثلا، يسير في الشارع المؤدي إلى، لنقل لاشيء، حيث أنه كان يتجول. ولأنني لا أعلم جيدا ما الذي من المفترض أن يحدث، ففاروق أيضا لا يعلم. الهواء ناعم، ولكنه ممرِض أيضا، تلك الرهافة الشفافة التي تُشعرك أن الواقع ليس واقعا، وأن قشرة نحيفة توشك أن تتفتت لتخرج منها إلى افتراض واقعي آخر (أذكر أني كتبت هذا السطر في قصة أخرى، والا؟). إنه تعيس، أو سعيد، لم أقرر ذلك بعد، وبسبب هذا فإنه يبدو حياديا، عديم العاطفة. أضواء عواميد الكهرباء تخطط عتمة الشارع الظلالية. هنالك مسحةٌ شبحية في المكان. فاروق يرى، لنقل صورا قديمة في وعيه، ولكن لأن فاروق لا يمتلك ماضيا واضحا، فهي صور/أحاسيس اعتباطية تتكون دائما في ذهن المؤلف المتشظي أثناء بداية كل قصة جديدة: ظلال أشجار، قميص ملطخ بالطين، رذاذ مطر ووحل، أزيز صمت، وجهٌ نائم. يسترجع فاروق هذه الصور، أو لنقل يرى، لأنها لم تحدث ليسترجعها، ويفكر لماذا؟ .. فعلا، لماذا؟ لا أعلم صراحة، هذا ما عنيته بـ “اعتباطية”. صور، أحاسيس، وأحيانا موسيقى، تتكون قبل الحروف والكلمات والأفكار. لنقل أنها إيقاعات القصة الذهنية .. ولكن نحتاج حدثا، فكرة، أي شيء .. يمر من عند، لنقل مدرسة .. ثم ماذا؟ .. يرى رجلا يقفز الجدار إلى الداخل، يصعد المبنى إلى نافذة عالية، ويفتحها .. ألا يبدو هذا مألوفا؟ نعم إنه مألوف، إنه السيد خوزيه في رواية ساراماجو “كل الأسماء” .. هذه هي مشكلة أن تكتب قصة وأنت كنت تقرأ قبل قليل مقالة قديمة في باريس ريفيو بعنوان “كافكاوية ساراماغو” .. المهم، ينقصنا مطر، أليس كذلك؟ لقد كانت تُمطر في المشهد، أظن .. راقب فاروق الرجل الذي يتمسك بقوة في النافذة، ويكاد يسقط .. مممم. لستُ متأكدا من هذه المعلومة، لقد قرأت الرواية منذ مدة طويلة ولا أحتفظ بتفاصيل واضحة عما حدث، لذا يجب أن أرتجل .. صرخ فاروق في السيد خوزيه “هيه أنت، انتبه!” ولأن هذه الصرخة اللاسياقية لم تكن مكتوبة في رواية ساراماجو، فقد اختل التوازن الفيزيائي للوجود المفترض للشخصية المختلقة، ثم سقط. قفز فاروق من الجدار إلى الداخل، ركض إلى السيد خوزيه، الذي كان قد سقطَ، لنقل على دغلٍ خفف ارتطامه .. دغل؟! .. أدري، إنه من الممتع – والخطير أيضا – أن تكون مؤلفا، إنه مثل الساحر في الافلام الرديئة الذي يشير إلى مكان ما فيملأه بشيء، أي شيء، حتى لو أنه دغل .. ساعَده على النهوض، كان السيد خوزيه مذهولا، ممتقعا بغطاء مطر يبلل وجهه. “هل أنت مجنون؟! ما الذي تفعله؟!” .. أكرر، إنني أحتفظ بتفاصيل محدودة ومشوشة عن الرواية، ما أذكره هو، وهو ما سيقوله السيد خوزيه بارتباك منكسر “إنني أبحث عن اسم فتاة كان قد درست هنا” .. صح؟ أظن أن هذا صحيح.
يسأل فاروق بحدة (لنلاحظ أن فاروق اكتسب أول سِـمة شخصية، الحدة) “لماذا؟!”
تحرك السيد خوزيه في مكانه بارتباك. من الصعب أن تشرح فكرة رواية كل الاسماء ودوافعها دون سياقاتها، حيث تكتسب فيزيائية كافكاوية، ولذا سيبدو سخيفا ان أجبر السيد خوزيه على أن يقول السبب الرئيسي، ولذا قال بإحساس متجذر بالخجل والورطة “إنه سبب طويل يصعب شرحه بوضوح”
رد فاروق بتوبيخٍ متعاطف ومتسلط يكاد يكون أبويا (السمة الثانية لفاروق) “لا يهم، فلا يوجد سبب مقنع لتفعل جنونا كهذا، أيا كان هذا السبب”
ولكن السيد خوزيه حشرج مستجديا “إنك لا تفهم، يجب أن أفعل ذلك، وإلا فإنه سيغضب”
“من هو هذا الذي سيغضب؟! هل يجبرك أحد على القيام بهذا؟!”
يبدو وكأن السيد خوزيه يبكي، ولكنه المطر مختلطا بحشرجة استجدائه التي تستبين كارثة ما “إنه دوري، لم يكن مفترضا أن تأتي بهذه الطريقة. أرجوك، أرجوك ساعدني على الصعود”
صرخ فاروق “الصعود؟! هل جننت؟! سوف تموت، لن يوجد دائما مؤلف لطيف يخلق لك دغلا لتسقط عليه” .. لم يصفني أحدٌ من قبل باللطيف، إنه أمر مربك .. أكْـمَل فاروق “هيا، يجب أن نذهب من هنا قبل أن ينتبه أحد” ..
يقف السيد خوزيه منكس الرأس، بعد أن سعل بحشرجة مبحوحة مجرحة. يتطلع فيه فاروق باشمئزاز رثائي “تأمل نفسك” استشعر السيد خوزيه – كما يفعل دائما – دونيته السافلة، محدودبا، يقطر مطرا ينقع بلزوجة عفنة. واستشعر – كما يفعل دائما أيضا – عجزه عن اتخاذ ردة فعل واضحة. وبحكم طبيعته الخاضعة، وهو الشيء الأكثر وضوحا في ذاكرتي عن تلك الرواية، وإضافةً إلى ورطة الانفصال عن كاتبه، التي تضعه في مواجهة غموضِ ما قد يبدو: اتخاذ ردة فعل اختيارية، وهو ما لم يفعله من قبل؛ فقد استجاب مشدوها لأمْر فاروق بنظرة ذاهلة. لم يحدث في حياة السيد خوزيه كشخصية في رواية أن حدث شيء كهذا، خروجٌ مفاجئ عن النسق. يسير منكس الرأس بجانب فاروق الذي بدأ يستجوبه “من هذا الذي سيغضب إذاً؟!”
لازال السيد خوزيه في حالة دهشة زائغة، وكأنه لا يصدق أن ما يحدث يحدث فعلا (وهو لا يحدث فعلا، لاشيء من هذا يحدث فعلا، فهذه قصة، نكون واضحين يعني) همس “إنه الرجل الذي كتبني”
“وهل يفعل هذا بك دائما؟!”
“ليس دائما. ولكنني أقوم أحيانا بأشياء غريبة”
“إنك تتقبل الإهانة بصمت مخز. لماذا لا تعترض؟!”
دمدم السيد خوزيه بنبرته الانهزامية “ما الذي تقوله؟! لا أستطيع أن أعترض. لا أحد يستطيع. إنه ممنوع”
“لاشيء ممنوع” إطراقةٌ طويلة ..
سأكون صريحا معكم، هاه؟ الحدث القادم، يحتاج تمهيدا دراميا طويلا يبرر قبول السيد خوزيه لما سيحدث، ولكن لأنني لا أملك الاهتمام الكافي لفعل ذلك، فأنا لدي ارتباطات مهمة (سيارتي عطلانة وأنتظر وصول السطحة لحملها إلى الورشة)، ولهذا فإنني سأقفز إليه مباشرة: اتجها إلى مقابلة ساراماجو.
…… “كفى يا خوسيه! سنذهب إلى كاتبك، انتهى النقاش”
سارا في طريق شبحي آخر، إلى طرق شبحية أخرى. حتى وصلا إلى بيت صغير في ركن هادئ من حارة هادئة. ضغط فاروق الجرس، وانتظرا. السيد خوزيه يرتجف بارتباك. قال فاروق “لا تقلق، لا يستطيع إيذاءك”
“أنت لا تعلم هذا”
“بالطبع لن يؤذيك. أنت بطل قصته، سيقتلك مثلا؟! من سيقرأ قصة يموت فيها البطل بشكل اعتباطي في منتصف الأحداث؟!”
“ومن سيقرأ قصة يفعل فيها البطل ما يحلو له؟! إن الأمر خطأ”
“أنت البطل! تصرف كبطل الله يلعنك!”
فتح ساراماغو الباب. حملق في الرجلين بعمق عدائي مسبق (لطالما بدا لي وجه ساراماغو عدائيا). ظهرت على ملامحه علامات اكتشاف مهان، سأل بغضب متفاجئ من وقاحة جريئة كهذه “ما الذي يعنيه هذا؟!”
ظل السيد خوزيه صامتا بشحوب مَرضيّ، انتظر فاروق منه أن يتحدث، وحينما لم يفعل قال بحدته المعتادة “إنه مصاب بالحمى. لقد تسلق سور مدرسة في ليلة ممطرة، كان من الممكن أن يموت”
التفت ساراماغو بسخط نحو فاروق، قال باحتقار مندهش “ومن أنت؟!”
“فاعل خير”
“فاعل خير؟! .. يا سلام! لقد ظننت أن هذا الصنف قد انقرض!”
“لا”
“العالم في حاجة أشخاص مثلك”
“شكرا”
صرخ غاضبا “تشكرني يا بهيمة؟! إنني أسخر منك!”
“أوه” همس فاروق متفاجئا (هل نقول أن السمة الثالثة هي أنه أحمق نوعا ما؟). أكمل باستغراب “لماذا أنت غاضب هكذا؟!”
“من الذي سمح لك بأن تأتي بالسيد خوزيه إلى هنا؟!”
“اسمع، هذه الأفعال الخطيرة لا يليق أن يقوم بها رجل في مثل صحته وسنه”
“ولهذا أنت هنا عند بابي في منتصف الليل؟!”
أطرق فاروق بعناد غاضب. تأمله ساراماجو بفوقيةِ كاتبٍ عظيم يدرك أنه كاتب عظيم ويدرك أن الآخرين ينظرون له ككاتب عظيم “هل تفعل هذا مع كاتبك؟!”
تحرك فاروق في مكانه بشيء من العصبية “كاتبي لم يجعلني أقفز سور مدرسة في ليلة ممطرة وأصاب بالحمى”
“إذاً أنت راض عن كل شيء جعلك تقوم به؟!”
شعر فاروق بغضبه يتزايد، هذا الشيوعي اللعين (هل ساراماجو شيوعي فعلا؟ عموما شكله شيوعي) يحاول قلب المعادلة. قال بحدة “لا تحاول تغيير الموضوع. هذا الرجل يحتاج لعناية طبية، ويحتاج لأن تعامله بشكل أفضل”
التفت ساراماغو نحو السيد خوزيه “وماذا تقول أنت؟!”
ولكن السيد خوزيه كان يقف بينهما بنظرة زائغة خائفة، ممسكا بمنديله بين يديه، كطفل تائه. تأتأ قليلا بينما يترقبه الاثنان، ثم قال بصعوبة “أنا لا أفهم شيئا مما يحدث”
قال فاروق “لأنك مصاب بالحمى”
فصرخ ساراماغو “كف عن وضع الكلمات في فمه بالقوة. إنه لا يفهم لأنك أتيت به إلى هنا. لا يجدر بشخصية ما أن تقابل كاتبها، إن هذا يضع مزيدا من الارتباك والعاطفة السلبية. كل شيء يجب أن يبقى في سياقه الخاص. يجب أن تذهبا الآن”
“ولكن ماذ عن .. “
قاطعه ساراماغو ملوحا بسبابته “اذهبا وليكمل كل منكما دوره بعيدا عني، وإلا فسأخرج عليكما بمحشّ الشجر”
فصرخ فاروق “ولكن هذا هو دوري، أن أقف هنا أمامك وأعترض”
“أنت شخصية، ولذا لا خيار لك. أما أنا فلي خيار”
“ولكن أنت أيضا شخصية”
“أنا ساراماجو!”
“ولكنك في قصة! إنك لست سارماجو الحقيقي ساراماجو الحقيقي ميت!”
“بس! ولا كلمة!”
صفق الباب في وجهيهما. أخذ فاروق يحدق بنظرة ذاهلة، التفت إلى السيد خوزيه “صاحبك لعين حقيقي”
فتململ السيد خوزيه بنظرة اعتذارية “أوه، لا تكن هكذا. إن من المرهق أن تكون كاتبا”
صدق السيد خوزيه .. أو أنه خوسيه؟ .. يا رجال كمّل بس وخلّصنا.
ظلا واقفان بوجوم فاتر. صوتٌ من وراء الباب “أقسم لكما، إنني أحمل محش الشجر في يدي”
فالتصق السيد خوزيه في الباب “لا تقلق .. سنذهب الآن .. وسأعود إلى المدرسة لنستكمل ما سيحدث”
خرجا من الحارة بصمت واجم، يتطلع فاروق في السيد خوزيه بخيبة أمل. تردد قليلا ثم قال بشيء من الشفقة “إنك ستعود فعلا؟!”
فالتفت السيد خوزيه بنظرة ارتباك طفولية “وأي خيار أملك غير هذا؟!”
“لا أعلم .. ولكن يجب أن يكون ثمة خيار”
“وهل تستطيع أنت أن تملك خيارا؟”
يسيران في طريق فارغ، حيث يجثو الليل بصمته الموحش وأضواء عواميده الفارعة الشاحبة. تطلع فاروق أمامه بوجوم ساهم، لم يفكر كثيرا في هذا الموضوع منذ أن تم اختلاقه قبل 6 صفحات، هل لدي خيار فعلا؟! هل أستطيع القيام بشيء مختلف؟! ولكن ماذا أريد؟! ومن أنا أصلا؟! فاروق يكتمل شيئا فشيئا كشخصية، وهو أمر خطير، حيث أنني لم أخطط لذلك، ولذا لم أشرف على تطوره لأسيطر عليه. إن هذا احتمال خطير في حرفة الكتابة، أن تنفرد شخصياتك شيئا فشيئا بإيقاعها الخاص إثر السياق الارتجالي الذي تكتبه، وهو ما يصنع الروايات الرديئة، أو أحيانا الروايات العبقرية، حينما تسيطر الشخصية على كاتبها وليس العكس. يجب أن تكون حذرا دائما. كم أتمنى الآن لو أن السيد خوزيه هو شخصيتي في هذه القصة، كم تسهل السيطرة عليه، وقف عند مفترق الطرق، حيث المدرسة على يمينه، وقال بارتباك وكأنه يخشى مقاومة من قِبل فاروق “إذاً. ها نحن”
ولكن فاروق – المنشغل بصراعاته الجديدة الخاصة – قال “إذاً وداعا .. أتمنى لك التوفيق”
فمد السيد خوزيه يده بابتسامة رقيقة، فرِحاً بنهاية هذا المشهد دون مقاومة “نعم، أتمنى لك كل التوفيق أيضا”
ثم مضى في طريقه، يسعل ويترنح في مشيه. بينما وقف فاروق في الناصية، يراقبه وهو يختفي في ظلمة المدى الكئيبة. ومن المثير للسخرية والشفقة المزدوجة، أن فاروق سينطفئ الآن – حيث أنني أنوي إنهاء القصة المربكة بأقل الأضرار، كما أن راعي السطحة اتصل وهو قريب من الشقة، الله يعين على زحمة صناعية أم الحمام – في اللحظة التي يظن أنه يكتمل فيها. وداعا فاروق، أنت بالفعل لا خيار لك. أتمنى ألاّ تجرك شخصيةُ كاتب آخر إلى بابي.
يسأل فاروق بحدة (لنلاحظ أن فاروق اكتسب أول سِـمة شخصية، الحدة) “لماذا؟!”
تحرك السيد خوزيه في مكانه بارتباك. من الصعب أن تشرح فكرة رواية كل الاسماء ودوافعها دون سياقاتها، حيث تكتسب فيزيائية كافكاوية، ولذا سيبدو سخيفا ان أجبر السيد خوزيه على أن يقول السبب الرئيسي، ولذا قال بإحساس متجذر بالخجل والورطة “إنه سبب طويل يصعب شرحه بوضوح”
رد فاروق بتوبيخٍ متعاطف ومتسلط يكاد يكون أبويا (السمة الثانية لفاروق) “لا يهم، فلا يوجد سبب مقنع لتفعل جنونا كهذا، أيا كان هذا السبب”
ولكن السيد خوزيه حشرج مستجديا “إنك لا تفهم، يجب أن أفعل ذلك، وإلا فإنه سيغضب”
“من هو هذا الذي سيغضب؟! هل يجبرك أحد على القيام بهذا؟!”
يبدو وكأن السيد خوزيه يبكي، ولكنه المطر مختلطا بحشرجة استجدائه التي تستبين كارثة ما “إنه دوري، لم يكن مفترضا أن تأتي بهذه الطريقة. أرجوك، أرجوك ساعدني على الصعود”
صرخ فاروق “الصعود؟! هل جننت؟! سوف تموت، لن يوجد دائما مؤلف لطيف يخلق لك دغلا لتسقط عليه” .. لم يصفني أحدٌ من قبل باللطيف، إنه أمر مربك .. أكْـمَل فاروق “هيا، يجب أن نذهب من هنا قبل أن ينتبه أحد” ..
يقف السيد خوزيه منكس الرأس، بعد أن سعل بحشرجة مبحوحة مجرحة. يتطلع فيه فاروق باشمئزاز رثائي “تأمل نفسك” استشعر السيد خوزيه – كما يفعل دائما – دونيته السافلة، محدودبا، يقطر مطرا ينقع بلزوجة عفنة. واستشعر – كما يفعل دائما أيضا – عجزه عن اتخاذ ردة فعل واضحة. وبحكم طبيعته الخاضعة، وهو الشيء الأكثر وضوحا في ذاكرتي عن تلك الرواية، وإضافةً إلى ورطة الانفصال عن كاتبه، التي تضعه في مواجهة غموضِ ما قد يبدو: اتخاذ ردة فعل اختيارية، وهو ما لم يفعله من قبل؛ فقد استجاب مشدوها لأمْر فاروق بنظرة ذاهلة. لم يحدث في حياة السيد خوزيه كشخصية في رواية أن حدث شيء كهذا، خروجٌ مفاجئ عن النسق. يسير منكس الرأس بجانب فاروق الذي بدأ يستجوبه “من هذا الذي سيغضب إذاً؟!”
لازال السيد خوزيه في حالة دهشة زائغة، وكأنه لا يصدق أن ما يحدث يحدث فعلا (وهو لا يحدث فعلا، لاشيء من هذا يحدث فعلا، فهذه قصة، نكون واضحين يعني) همس “إنه الرجل الذي كتبني”
“وهل يفعل هذا بك دائما؟!”
“ليس دائما. ولكنني أقوم أحيانا بأشياء غريبة”
“إنك تتقبل الإهانة بصمت مخز. لماذا لا تعترض؟!”
دمدم السيد خوزيه بنبرته الانهزامية “ما الذي تقوله؟! لا أستطيع أن أعترض. لا أحد يستطيع. إنه ممنوع”
“لاشيء ممنوع” إطراقةٌ طويلة ..
سأكون صريحا معكم، هاه؟ الحدث القادم، يحتاج تمهيدا دراميا طويلا يبرر قبول السيد خوزيه لما سيحدث، ولكن لأنني لا أملك الاهتمام الكافي لفعل ذلك، فأنا لدي ارتباطات مهمة (سيارتي عطلانة وأنتظر وصول السطحة لحملها إلى الورشة)، ولهذا فإنني سأقفز إليه مباشرة: اتجها إلى مقابلة ساراماجو.
…… “كفى يا خوسيه! سنذهب إلى كاتبك، انتهى النقاش”
سارا في طريق شبحي آخر، إلى طرق شبحية أخرى. حتى وصلا إلى بيت صغير في ركن هادئ من حارة هادئة. ضغط فاروق الجرس، وانتظرا. السيد خوزيه يرتجف بارتباك. قال فاروق “لا تقلق، لا يستطيع إيذاءك”
“أنت لا تعلم هذا”
“بالطبع لن يؤذيك. أنت بطل قصته، سيقتلك مثلا؟! من سيقرأ قصة يموت فيها البطل بشكل اعتباطي في منتصف الأحداث؟!”
“ومن سيقرأ قصة يفعل فيها البطل ما يحلو له؟! إن الأمر خطأ”
“أنت البطل! تصرف كبطل الله يلعنك!”
فتح ساراماغو الباب. حملق في الرجلين بعمق عدائي مسبق (لطالما بدا لي وجه ساراماغو عدائيا). ظهرت على ملامحه علامات اكتشاف مهان، سأل بغضب متفاجئ من وقاحة جريئة كهذه “ما الذي يعنيه هذا؟!”
ظل السيد خوزيه صامتا بشحوب مَرضيّ، انتظر فاروق منه أن يتحدث، وحينما لم يفعل قال بحدته المعتادة “إنه مصاب بالحمى. لقد تسلق سور مدرسة في ليلة ممطرة، كان من الممكن أن يموت”
التفت ساراماغو بسخط نحو فاروق، قال باحتقار مندهش “ومن أنت؟!”
“فاعل خير”
“فاعل خير؟! .. يا سلام! لقد ظننت أن هذا الصنف قد انقرض!”
“لا”
“العالم في حاجة أشخاص مثلك”
“شكرا”
صرخ غاضبا “تشكرني يا بهيمة؟! إنني أسخر منك!”
“أوه” همس فاروق متفاجئا (هل نقول أن السمة الثالثة هي أنه أحمق نوعا ما؟). أكمل باستغراب “لماذا أنت غاضب هكذا؟!”
“من الذي سمح لك بأن تأتي بالسيد خوزيه إلى هنا؟!”
“اسمع، هذه الأفعال الخطيرة لا يليق أن يقوم بها رجل في مثل صحته وسنه”
“ولهذا أنت هنا عند بابي في منتصف الليل؟!”
أطرق فاروق بعناد غاضب. تأمله ساراماجو بفوقيةِ كاتبٍ عظيم يدرك أنه كاتب عظيم ويدرك أن الآخرين ينظرون له ككاتب عظيم “هل تفعل هذا مع كاتبك؟!”
تحرك فاروق في مكانه بشيء من العصبية “كاتبي لم يجعلني أقفز سور مدرسة في ليلة ممطرة وأصاب بالحمى”
“إذاً أنت راض عن كل شيء جعلك تقوم به؟!”
شعر فاروق بغضبه يتزايد، هذا الشيوعي اللعين (هل ساراماجو شيوعي فعلا؟ عموما شكله شيوعي) يحاول قلب المعادلة. قال بحدة “لا تحاول تغيير الموضوع. هذا الرجل يحتاج لعناية طبية، ويحتاج لأن تعامله بشكل أفضل”
التفت ساراماغو نحو السيد خوزيه “وماذا تقول أنت؟!”
ولكن السيد خوزيه كان يقف بينهما بنظرة زائغة خائفة، ممسكا بمنديله بين يديه، كطفل تائه. تأتأ قليلا بينما يترقبه الاثنان، ثم قال بصعوبة “أنا لا أفهم شيئا مما يحدث”
قال فاروق “لأنك مصاب بالحمى”
فصرخ ساراماغو “كف عن وضع الكلمات في فمه بالقوة. إنه لا يفهم لأنك أتيت به إلى هنا. لا يجدر بشخصية ما أن تقابل كاتبها، إن هذا يضع مزيدا من الارتباك والعاطفة السلبية. كل شيء يجب أن يبقى في سياقه الخاص. يجب أن تذهبا الآن”
“ولكن ماذ عن .. “
قاطعه ساراماغو ملوحا بسبابته “اذهبا وليكمل كل منكما دوره بعيدا عني، وإلا فسأخرج عليكما بمحشّ الشجر”
فصرخ فاروق “ولكن هذا هو دوري، أن أقف هنا أمامك وأعترض”
“أنت شخصية، ولذا لا خيار لك. أما أنا فلي خيار”
“ولكن أنت أيضا شخصية”
“أنا ساراماجو!”
“ولكنك في قصة! إنك لست سارماجو الحقيقي ساراماجو الحقيقي ميت!”
“بس! ولا كلمة!”
صفق الباب في وجهيهما. أخذ فاروق يحدق بنظرة ذاهلة، التفت إلى السيد خوزيه “صاحبك لعين حقيقي”
فتململ السيد خوزيه بنظرة اعتذارية “أوه، لا تكن هكذا. إن من المرهق أن تكون كاتبا”
صدق السيد خوزيه .. أو أنه خوسيه؟ .. يا رجال كمّل بس وخلّصنا.
ظلا واقفان بوجوم فاتر. صوتٌ من وراء الباب “أقسم لكما، إنني أحمل محش الشجر في يدي”
فالتصق السيد خوزيه في الباب “لا تقلق .. سنذهب الآن .. وسأعود إلى المدرسة لنستكمل ما سيحدث”
خرجا من الحارة بصمت واجم، يتطلع فاروق في السيد خوزيه بخيبة أمل. تردد قليلا ثم قال بشيء من الشفقة “إنك ستعود فعلا؟!”
فالتفت السيد خوزيه بنظرة ارتباك طفولية “وأي خيار أملك غير هذا؟!”
“لا أعلم .. ولكن يجب أن يكون ثمة خيار”
“وهل تستطيع أنت أن تملك خيارا؟”
يسيران في طريق فارغ، حيث يجثو الليل بصمته الموحش وأضواء عواميده الفارعة الشاحبة. تطلع فاروق أمامه بوجوم ساهم، لم يفكر كثيرا في هذا الموضوع منذ أن تم اختلاقه قبل 6 صفحات، هل لدي خيار فعلا؟! هل أستطيع القيام بشيء مختلف؟! ولكن ماذا أريد؟! ومن أنا أصلا؟! فاروق يكتمل شيئا فشيئا كشخصية، وهو أمر خطير، حيث أنني لم أخطط لذلك، ولذا لم أشرف على تطوره لأسيطر عليه. إن هذا احتمال خطير في حرفة الكتابة، أن تنفرد شخصياتك شيئا فشيئا بإيقاعها الخاص إثر السياق الارتجالي الذي تكتبه، وهو ما يصنع الروايات الرديئة، أو أحيانا الروايات العبقرية، حينما تسيطر الشخصية على كاتبها وليس العكس. يجب أن تكون حذرا دائما. كم أتمنى الآن لو أن السيد خوزيه هو شخصيتي في هذه القصة، كم تسهل السيطرة عليه، وقف عند مفترق الطرق، حيث المدرسة على يمينه، وقال بارتباك وكأنه يخشى مقاومة من قِبل فاروق “إذاً. ها نحن”
ولكن فاروق – المنشغل بصراعاته الجديدة الخاصة – قال “إذاً وداعا .. أتمنى لك التوفيق”
فمد السيد خوزيه يده بابتسامة رقيقة، فرِحاً بنهاية هذا المشهد دون مقاومة “نعم، أتمنى لك كل التوفيق أيضا”
ثم مضى في طريقه، يسعل ويترنح في مشيه. بينما وقف فاروق في الناصية، يراقبه وهو يختفي في ظلمة المدى الكئيبة. ومن المثير للسخرية والشفقة المزدوجة، أن فاروق سينطفئ الآن – حيث أنني أنوي إنهاء القصة المربكة بأقل الأضرار، كما أن راعي السطحة اتصل وهو قريب من الشقة، الله يعين على زحمة صناعية أم الحمام – في اللحظة التي يظن أنه يكتمل فيها. وداعا فاروق، أنت بالفعل لا خيار لك. أتمنى ألاّ تجرك شخصيةُ كاتب آخر إلى بابي.