عزة رجب سمهود - النصيب

في اللقاء الأول بالسيد معدنوسة ، كنتُ مستعجلة عندما دخلت لمحل العطارة ، حيث انتشرت روائح البخور والبهارات والنباتات العشبية ، ووجدت نفسي أتسرب بين جموع النساء اللاتي يعجُّ بهن المحل ، واندثرُ بين بضع نساء سمينات ، بدت لي ملامحهن التاورغية جلية ، وتعمدتُ أن أصيخ سمعي لحديثهن إلى صاحب العطارة ، وهن يقلن له :
مانبوهاش واخذة فيها الرطوبة ، وكان جافة خير !
راقبته وهو يُلقي إليهن بصرة متوسطة الحجم ، ما إن فتحنها حتى قربن أنوفهن منها ، ثم قالت إحداهن بلكنتها التاورغية :
هاذي ريحتها طيبة ، وعودها ماسك روحه ..
سرحت بتفكيري بين أنواع البقوليات المنشورة في أكياس فتحت فاهها للناظرين ، وأنا أفكر في التاورغيات اللاتي نزحن لبنغازي منذ سنين ، هاهن صامدات ، صابرات ، يصنعن البخور ، وعقود الزينة التي تبرز منها أهرام مشغولة باليد ، مصنوعة من القرنفل والبخور المجمد لتهب الزي التقليدي الليبي المزيد من الجمال ورفاهية الشكل ، أما عني الفتاة التي تعرقل زواجها أكثر من مرة ، فلم أجد بدَّاً من الانصياع لتأنيب جارتنا الحاجة زاهية ، وهي تقول لي:
أمغير ديري زريعة المعدنوس ، وراس بنتي إلا ما يجيك العريس وسألتها في دهشة:
تقصدي المعدنوس اللي ناكلوا فيه ؟
ضحكت مني ، ثم قالت بخبرة تقادمت مع الزمن ، في إدارة شؤون الزواج، والسيدات الحوامل ، واللاتي اضطررن للإنجاب في البيوت هربا من القصف العشوائي على مستشفى الولادة:
لا ، أنتي أمغير امشي للعطار وقولي له انريد زريعة معدنوس ، وهو يفهم الباقي .
وهأنا وجها لوجه مع السيد معدنوسة ، بعدما طلبتها من العطار ، الذي تنهَّد وابتسم ، ثم اكتال لي حفنة ، وهو يقول لي :
أنزيدك يابنتي؟
نظرت للكيس متساءلة في حيرة: هل تكفي للتقسيم إلى أربعين قرطاسا؟ فردَّ ضاحكا:
إن شاء الله ، وربي يسخر لك النصيب
أحمرَّ وجهي ، وتلقفتها منه ، بعدما رميت له بثمنها نقوداً مسكوكة من معدن الفضة ، كانت كلها من فئة الخمسين درهما ، ادخرتها في حصالة خشبية ، تحسبا لأي طاريء ، في ظل قلة الموارد المالية التي نعاني منها في بنغازي . وهأنا وجها لوجه أمام السيد معدنوسة ، أقوم بالتقاط حفنات صغيرة من جسده اليانع ، وأدَّسها في قرطاس صغير ، كي أبدأ منذ مغرب اليوم ، في تبخيرها بالبيت ، لعل باب النصيب يُفتح لي ، بعد محاولات كثير من العرسان طرق بابنا . مازلت أذكر كلمات عمتي زاهية وهي تقول لي الطريقة حرفيا:
تاخذي قرطاس فيه المعدنوسة ، أول ما يأذن المؤذن لصلاة المغرب ، تبخري قرطاس ، وتدعي بالشخص اللي في بالك أن يجي يخطبك .
ولأنه لاشخص في بالي ، في ظل الرعب الذي أعيشه جراء القصف العشوائي على أحياء بنغازي ، وجراء أصوات الرصاص ، وجراء معادلات حياتية ، تجعلني لا أحلم اضطراراً وتعقلاً ، كي لايصدمني الواقع المقيت ، ففي الواقع مات الرجال في مدينتي ، وذهب الكثير من الشبان ، وترملت نساء كُثر ، وتطلقت فتيات كثيرات قطعن فترة الخطوبة نتيجة ذهاب أحباءهن إلى محاور القتال ، لدحر الإرهاب شمال المدينة ، وغربها . لكني تحت ضغوط الجارات ، وتحت إلحاح نظرات أمي ، أقررت بضرورة الاستنجاد بالسيد معدنوسة ، حتى لا أسبب لأمي الحزن، فحزن على حزن قد يُسكت قلبها الصغير للأبد ، وربما كان قدر مُحصلة النقود هذه المرة أن تكون من أجلي . مرَّت الأيام ، وعند كل صلاة مغرب أقوم بتبخير قرطاس من (زريعة المعدنوس ) وأنا استجديه أن يأتي لي بالعريس المجهول ، فربما أنجح في استرضاء أمي العجوز ، وإدخال الفرح لقلوب الجارات اللاتي شُغل بالهن بي . وفي إحدى الليالي ، وبعد انتهائي من طقوسي مع البخور ، هجعت لفراشي متعبة ، مرهقة ، هاربة من نشرات الأخبار ، ومن مشاهد المجازر المهذبة ، التي نراها على هيئة جثت مرمية على الطرقات ، واستغرق بي النوم ، و إذا بي وجها لوجه مع رجل رفيع الجسم ، دقيق العود ، شعره أسود أشعث ، أنفه دقيق ورفيع ، وشفتيه منحرفتين قليلا ، صاحب وجه مستدير ، وصوت واضح ومسموع، فبادر يقول لي :
توا أنتي جبتيني في وقت الضيق ، البلاد ماشية للمجهول ، والله مش عارف شنو اندير معاك!
نظرت إليه قائلة :
باهي غير قوللي في نصيب وللا مازال ؟؟؟
تلكأ في إجابته ، ثم نظر إليَّ بعينيه السوداوين قائلا:
في نصيب ، وعندك زهرة في حياتك. وتبخَّر كالماء في السماء ... وتهللت أسارير وجهي ، فرحاً ، إذا سأتزوج وأنجب زهرة ربما بتلاتها خمسة أو ستة ، لابد أن ذلك قريب مع ظهور السيد معدنوسة .. في الصباح كنت أتناول فنجان قهوتي وأنا سعيدة ، وأضحك مسرورة بهذا اللقاء التاريخي ، بالسيد معدنوسة عندما طرق الباب ، فكانت جارتنا زاهية، وهي تقول لي :
ولد عيت الفيتوري اللي رجله مبتورة كلم أمه على وحدة من بنات الشارع مش عارفتها من ، زعما هي أنتي؟؟
نظرت إليها متفاجئة من حديثها :
عاد كان هي أنا ، يبقى معدنوسك هضا ؟
أطرقت بصمت متساءلة بيني وبين نفسي : هل عريسي رجله مبتورة ؟ ثم انتبهت للحال وأنا أسمع صوتا يؤنبني داخلي : وشنو متوقعة ؟ عريس كاملة في بلاد تموت يوميا ؟؟ ثم سمعتها تقول لي مستدركة:
أنتي كملتي الأربعين قرطاس؟
رديت عليها بهدوء:
لا ، مازال منهم 10 !
هزت رأسها بالنفي وهي تقول:
لا ، لازم تكملي الأربعين قرطاس ، عشان يجيك عريس ، يبقى ولد عيت الفيتوري مش شورك يابنتي ، وتوا يجيك الخبر!
مساء كان القصف يشتد ، وكانت الأصوات تتعالى بالحي ، الصراخ يملأ أذني ، ما اضطرني للنظر من النافذة المطلة على الشارع ، حين رأيت بعض السكان يغادرون الشارع ، فتساءلت صارخة لماذا تغادرون ، ردَّ جارنا محمد بهلع ، جماعات مسلحة تسللت للحي ، اسرعي اخرجي أنتي وأمك يابنتي توا ناخذوك معانا . . وقفزت من مكاني ، مسرعة نحو والدتي الجالسة متسمرة ، تلقفتُ الحقيبة التي كانت دائما جاهزة للهرب ، ودخلت للمطبخ ، قمت بتأمين أنبوب الغاز ، وأطفأت الأنوار ، ثم عبرت للممر الذي يقود للردهة، أمسكت بيد أمي المرتعشة لنخرج من الباب . عندما استدرت قابلتني قراطيس السيد معدنوسة المتبقية ، تنهَّدتُ ، وأغلقت باب المنزل ، وأنا أتساءل من الذي سينتظر الآخر ، أنا ؟ أم السيد معدنوسة ؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى