أحمد الحقيل - رسائل مابعد الموت.. قصة قصيرة

أول من أرسل رسالة بعد الموت كان فلاحا من بابل الكلدانية، أثناء إمبراطورية بختنصر العظيمة، أمضى حياته وهو يقوم بأمرين اثنين فقط: يُسبح حالماً باسم المولى الأعظم مردوخ، ويغرس الشجر. يُطلق على كل واحدة منهن اسما خاصا، يؤكد أن كل ميت يُدفن تخرج شجرة بدلا منه في مكان آخر، هي طريقة الأرض في تقديم العزاء والتأكيد على أحقيتها بجسد الميت، ارتباط الشجرة بالآلهة كانتقال بين الموت والحياة. داهمه مرض الفالج وهو في الخمسين من عمره، سقط في هلوسة هذيانية غامضة حيث صار شخصا مختلفا، شخص قاتم ومجهول بالنسبة للآخرين، بما في ذلك نفسه. الأحلام الشبحية حول أشياء مخيفة لا يتذكرها من طفولته والأوجه المجوفة التي يراها في الزوايا المظلمة حول سريره. وقبل أن يموت، تشبث برقبة ابنه ثم همس بنظرة مجنونة “سأكتب ما أراه في ورقة ثم سأرميها”. ظلّت تسقط في السديم حتى وصلت بعد 10 قرون تقريبا إلى الأرض … وجدها طفل في أطراف مدينة الحيرة المقفرة. كان يتجول بكسل في الضواحي كما اعتاد أن يفعل، الوحدة الغاضبة تجاه فشله في أن يقبل الحياة التي يراها ناقصة، البحث اللامجدي عن شيء لا يعرف ما هو ولكنه متأكد من وجوده. حتى أنه يغبط والده أحيانا بدل أن يحتقره دائما، الشاعر المتبطل الذي يكتفي بالوقوف على أبواب المناذرة لاستجداء المال، ملقيا أشعارا من المديح الفارغ الممل. رأى الورقة تنحدر من حلق السماء، تلمع في ارتداد الشمس الغاربة، حتى سقطت بخفة على ظهر تل منخفض. حدق طويلا في الورقة المومضة، لقد بدت وكأنها مرسلة له بالتحديد. فتحها ووجد فيها كلمات بلغة غريبة، فذهب بها إلى أحد الأحبار. لم يستطع ترجمة كل الكلمات، لم يكن هنالك جمل أو سياق، الكلمات الوحيدة التي استطاع ترجمتها هي “شاسع. خدعة” .
بعد 400 عام تقريبا وُجدت الرسالة الثانية. أرسلها جندي هندي هلك في طاعون اجتاح قريته، بعد عام من تركه العمل لدى الإمبراطور شاندراغُبتا ماوريا. قبل موته بساعات، اتكأ على شجرة ليمون في مقدمة بيته، أخذ يُحدق في حركة الموت البطيئة الحاسمة، الموت نفسه الذي قتل زوجته قبل يومين، والموت نفسه الذي كان يكنس الأرواح في غزوات إمبراطوره الكبير بمجرفة هائلة من الجثث. راقبه لساعات، بلا حراك، يبحث عن إشارة كراهية أو حقد تبرر هذه المجزرة العشوائية، دون أن يجد شيئا. وبينما كان الوقت يمضي، بدأ الموت يذكّره بنفسه: فعل القتل بلا أحقاد أو انتقام، فعل إنهاء الحياة فقط. يتأمل الخط الدقيق بين الموت والحياة، نفس الخط الدقيق بين النوم واليقظة، واحتمالية أن الموت هو استيقاظ من حلم، واقع كاذب. ولذا في استعداده الناعس لمجرفة شبيهه الكوني، تفكر إن كان يستطيع إرسال رسالة من هناك، أيا كان هذا الهناك، تشرح ما الذي يحدث بالضبط … وجدها بعد 11 قرنا تقريبا جندي سكّير في النرويج. كان قد هرب قبيل معركة هافرسفيورد التي وحّد فيها الملك هارالد فايرهاير حكم الفايكنج في مملكة واحدة. سافر خلال سهول موحلة وأراضٍ مضببة وقرى بلا أسماء، شاردا إلى لامكان كهارب سكير بلا خطة عدا رفض أن يموت في سبيل شيء لا يبالي به، أو لا يفهمه أصلا، يسرق كل شيء يمر به ويغتصب كل امرأة يصادفها، ينام في الخلاء مدفوعا بشكِّ أنه مراقب وأن شخصا ما سيجتثُّ رأسه فجأة. في إحدى الليالي، اتكأ على صخرة في قفز آسن وهو سكران ومغطى بالقذارة، لامرئيٌّ في مظهره كقطعة من الظلام، يلعن الحرب بطريقة مسرحية ملوحا بزجاجة متسخة في وجه السماء ثم يعود إلى الحالة الكسولة وهو يحدق بجمود في الظلام. رفع رأسه ليلقي مزيدا من اللعنات، فلمح الورقة تتحدر، بالوميض الناعم لصورة منومة، تتأرجح بخفة وتسقط أمامه تماما. حدق فيها بعداء متفاجئ، كشيء مريب من خارج السياق. فتحها أخيرا فوجد لغة معقدة، احتفظ بها لسنوات، ككنز سحري ولكن مخيف أيضا، يمر بها على جميع من يصادفه، حتى وجد رحّالا هنديا في يوكشر ترجم له ثلاث كلمات من الهذيان اللامقروء “احذر. حلم. يقظة”.
بعد 500 عام وجدت الرسالة الثالثة. أرسلتها عجوز عاشت في مدينة رافينا الإيطالية. مرت ثلاث سنوات طويلة خضعت فيها المدينة لحصار من جيوش ثيودوريك القوطي، بعد أن تحصّن فيها أودواكر ملك البرابرة، تمّ قطع الإمدادات تحديدا بعد الاستيلاء على ريميني التي كانت تزود رافينا بالعتاد، ولذا كان الجوع والمرض والقذارة والخواف الرتيب يزحف ويعشش. المدينة كانت تتآكل تدريجيا مثل جثة. في الليلة التي قُـتل فيها أودواكر على يد ثيودوريك في احتفال مزيف بالصلح، جلست العجوز بلا حراك في الظلام، محاطة بعشرات من الأحفاد النائمين على جوعهم، تحدق مؤرقة من خلال الظلال في خط ضوء قمري نحيل على الجدار، تتفكر في السؤال العتيق “لماذا؟”. ابتسمت بعداء مستنزف، كانت تعلم انها لن تعلم، ليس في هذه الحياة على الأقل، ولذا فكرت ساخرة إن كانت تستطيع كتابة رسالة بطريقة ما، من فوق، حينما تقابل الله، وتسأله لماذا تخلى عنها، وتطالبه أن يشرح كل شيء … وجدها شاب أيبيريّ في قرطبة الأندلس بعد 8 قرون، أثناء حقبة بني الأحمر. كان متفرغا بفضل ثروة والدته ليعيش الحياة على أكمل وجه، لاشيء سوى القراءة والكتابة والاستمتاع بذروة تلك المدينة الخرافية بصحبة مجموعة من الشبان الأغنياء المتحذلقين بلا شيء يعملونه مثله. إنه يفكر في البدء بتأليف كتاب عن الفروق الجوهرية بين فلسفة ابن سينا والفارابي. يجوب الأسواق في العصر، يتنزه بكسل خلال أماكن كثيرة ويراقب حياة الناس فيها ويتفكر بذلك في حياته، ثم يذهب في المغرب ليغسل شكوكه في حمام أندلسي بين قصري الحمراء وجنة العريف، يتجمع فيه مع رفقة مخملية تتناول الأدب والفسلفة مثله. خرج وحيدا ذات ليلة قبل صلاة العشاء، ينقع بروائح فواحة، سكون الشارع المجوف بفوانيسه الشاحبة المتدلية بدت له مثل ذاكرة مهجورة، الأروقة الالظلالية الشبحية لحياة خاملة. كانت لحظة عميقة، ولذا وقف جامدا كقطعة من ذلك المشهد الساكن. رأى الورقة تتأرجح في الهواء، تطلع فيها بحيرة وخوف، لقد كانت الشيء الوحيد الذي كان يتحرك، وكأنها موجهة بغرض محدد. فتحها ووجد فيها لغة غريبة، مر بها على الوراقين لسنوات، بهوس جعل الآخرين لا يأخذونه بما يكفي من الجدية. حتى وقع على رجل من روما أتى قرطبةَ للدراسة، لم يستطع ترجمة أكثر من ثلاث كلمات من النص المستغلق “يعلم. لا. الله”
بعد 500 عام تقريبا وجدت الرسالة الرابعة. أرسلها كاهن بوذي في الصين. حينما اجتاح جنكيز خان بجيشه المغولي الجزء الشمالي من الصين، هرب الكاهن إلى ليشان بجانب تمثال بوذا المعظّم. برفقة الآلاف من الهاربين، اعتزل بنفسه أمام التمثال، يرتعد من فكرة مرعبة تستحوذ عليه منذ أيام، تقول أنه لا يفهم، أنه لا يعرف أي شيء خارج معبده المعزول. يجلس في هواء الشتاء الثقيل اللزج ويفكر بدون عداء أو شفقة ذاتية في السبب المرعب السخيف الذي يدفع أحدا ليقتل الآخر. يحدق في الأوجه المتقرحمة المشرمة بسحنة الاستسلام والخوف. يترقب في أي لحظة نَـبْلا يخترق رأسه وسكاكينا تغرس في جسده على يد رجل ملطخ بالدم لا يعرف أيٌّ منهما الآخر، ورغم ذلك يجد متعة في قتله لأسباب غير مفهومة. ولكنه لم يسمع أي صرخات انتصار من خلفه، أصيب بالتهاب رئوي حاد وجلس يحتضر وحيدا أمام تمثال بوذا وهو يهذي بحيوانات تشبه البشر وآلهات عملاقة مضببة تضحك لسبب ما. تعهد إنْ نجى فسوف يكرس حياته ليتعلم الحقائق المرعبة حول الإنسان والكون، وإن مات فتمنى أن يعود في حياته القادمة كجماد. تذكر في احتضاره الطويل ما سمعه من تاجر حدّثه عن جندي اسكندنافي قبل 300 عام، يزعم أنه استقبل ورقة من السماء، ولذا تساءل إن كان هنالك فراغ بين الموت والتناسخ يستطيع أن يرسل منه رسالة بطريقة ما … وجدها بعد 6 قرون نجديٌّ هاجر من المجمعة إلى مدينة الزبير، كان مقربا من الشاعر محمد ابن لعبون قبل أن يختلف مع ابن زهير ويؤدي ذلك إلى طرده. يحاول أن يقرض الشعر كصاحبه ولكن دون جدوى. يسهران سويا برفقة ثلة من أصحاب الطرب كل يوم، تتنازعه الألسن كتابعٍ لابن لعبون في لهوه فيحزّ ذلك في قلبه، ولكنه لا يجد من القوة ما يدفعه للابتعاد. خرج ذات ليلة من السهرة ووقف أمام السوق الفارغ، بكآبة الشعور الطفيف بالذنب. مضى في الأزقة النائمة، يحدق في العتمة التي تصدرها الأبواب والنوافذ المغلقة، وكيف يبدو كل شيء مسالما ولطيفا، ويفكر أن الجميع سعيد عداه، مستقز في فراشه بلا هم. وقف أمام بيته فرأى الورقة عند الباب، ورقة غريبة مغبرة. فتحها فلم يستطع قراءة ما فيها، بدت مثل طلاسم مخيفة ومغرية في نفس الوقت. احتفظ بها لسنوات حتى توفي في الكويت، فاحتفظ بها ابنه الذي استغرب وجود ورقة بلغة غريبة لدى والده، وبعد سنوات قابل انجليزيا عاش فترة في الصين ويعمل في بعثة البحرية الملكية البريطانية لإجراء مسح جيولوجي في الكويت، فترجم منها كلمة واحدة فقط “أنا”.
بعد 200 عام تقريبا وجدت الرسالة الخامسة. أرسلها جندي بريطاني مرابط مع وحدته في مدينة كاليه، أمضى في الخدمة العسكرية أقل من عام، شاهد فيها من العذاب ما جعله يجدد إيمانه بالمسيح، كمخلص يترقبه في نهاية النفق، بل يزعم أنه شاهده ذات يوم في زقاق مظلم، وأخبره أن كل من يقتل باسمه فهو كاذب. يقرأ في المدينة تفاصيل معركة نورثهامبتون حينما أُسر هنري السادس، ويترقب مصيبة تحيق بالجميع. ولذا حينما داهم الجيش الفرنسي حصون المدينة هرب من منفذ خلفي، ليس خوفا من الموت ولكن خوفا من أن يرتكب إثم قتل إنسان آخر. صادفته كتيبة فرنسية فقبضت عليه وهمّت بإعدامه، فكر في موته كخلاص يريد من الجميع أن يفهمه، ولذا وقف بصمت مستفز أمام فوهة البندقية، وأخذ يتخيَّل حالماً في نشوته المنومة تلك لو أنّ بإمكانه أن يرسل رسالة من هناك، يشرح فيها كل شيء … وجدها بعد 5 قرون تقريبا أربعيني برازيلي في ديترويت. كان قد هاجر منذ 15 عاما من قرية قريبة من بورتو فاليو ليعمل مهندسا في الفرع الرئيسي لشركة جنرال موتورز. في الصباح الباكر، أخبروه أنه ضمن 20 ألف موظف من كافة الفروع سيتم التخلي عنهم في حملة تسريح ضخمة بعد إعلان الشركة إفلاسها إثر الأزمة الاقتصادية. وقف في الخارج بصندوقه وحقيبته، يحدق جامدا في المبنى الضخم بنظرة شك لامصدِّقة، يبحث عن إشارة تُـلمّح إلى أنه يحلم، لأن كل هذا يبدو مثل حلم بطيء وغريب، والخارج المشمس حيث الجميع يتحرك من حوله منفصلا عنه بدا وكأنه مشهد في فيلم قد ولجه فجأة. تذكر قريته التي لم يرها منذ 10 سنوات، نهر الماديرا في الصيف وبيت العائلة المحاط بأشجار الصنوبر، وشعر أنه يشيخ، شعور قوي مشبع ببلادة الواقع، ولذا علم أنه لم يكن يحلم. وفي حضوره المحايد هذا لمح ورقة تتهادى من السماء بخفة متناهية، لتسقط أمامه، وكأنها مرسلة تماما لتستقر عند قدميه. فتحها فوجد لغة إنجليزية قديمة لم يستطع قراءتها. وضعها في جيبه، ولكنه وجد نفسه مهووسا بها لدرجة أنه قطع الطريق نحو آخر المدينة إلى صديق له يعمل باحثا في جامعة وين ستيت، بل أنه نسي في خضم انشغاله أن يخبره بإقالته وسأله أن يترجمها له. كانت الجملة مبعثرة ولذا صنع لها سياقا خرصيا وترجمها “لا تحاول الأمر لا يستحق”
هذه هي الرسائل التي تم إيجادها. هنالك أحاديث كثيرة عن رسائل أخرى، ولكن دون تأكيدات قطعية.
أقربها كانت في مدينة الرقة السورية، بعد أن سيطر جيش داعش على الجزء الغربي منها. صبيٌّ في السادسة عشرة من عمره تم اعتقاله على خلفية اتهامات بالعمل جاسوسا لصالح النظام. جمعوه من الآخرين في سرداب مظلم ليتم إعدامه بقطع رأسه. ظل يبكي ويقسم أنه مجرد طفل وأنه لا يعرف أحدا من النظام. وحينما أمسك أحدهم رأسه ووعده الجحيم بسخرية مرحة ووضع حد الشفرة على رقبته، بدأ الصبي يهذي عن قطعة ورقة شاهدها تسقط من السماء من الله وأنها كانت ستنجيه وأنها في جيبه.
وفي الجانب المقابل، هنالك قصص عن أناس أرسلوا رسائل، ولكن لسبب ما تجاوزت مدار الأرض، أو أنها لم تكن قابلة للترجمة ولذا تم اعتبارها خربشة، أو أن الشخص الذي وجدها ظن أنها مجرد قطعة ورق عشوائية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى